مدريد -«القدس العربي»: وقّع الاتحاد الأوروبي ميركوسو (بعض دول أمريكا الجنوبية) الجمعة من الأسبوع الجاري على اتفاق تبادل تجاري حر، سيكون في حالة ترجمته إلى واقع ملموس أكبر اتفاق من نوعه في العالم، وسيمنح الاتحاد الأوروبي موقعا جيوسياسيا يبحث عنه في ظل الصراع الأمريكي-الصيني من أجل الهيمنة على التجارة العالمية.
وجرى التوقيع في عاصمة الأوروغواي مونتيفيديو بحضور بعض رؤساء ميركوسور مثل الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، ويعد هذا أول نشاط دولي كبير للفريق الجديد للمفوضية الذي تولى مهامه الأحد الماضي.
وبينما يتكون الاتحاد الأوروبي من 27 دولة، يتكون ميركوسور الذي يعود تأسيسه إلى سنة 1991 من البرازيل والأرجنتين والأوروغواي والباراغواي وبوليفيا. واستغرقت المفاوضات بين الجانبين أكثر من عقدين من الزمن، وقادتها عن ميركوسور البرازيل التي تريد زعامة أمريكا اللاتينية، وعن الجانب الأوروبي كل من ألمانيا التي تبحث عن أسواق جديدة وإسبانيا بحكم العلاقات التاريخية التي تجمعها بمنطقة أمريكا اللاتينية وتعتبر نفسها المخاطب الكلاسيكي لهذه المنطقة. ويبقى العنوان الرئيسي لهذه الاتفاقية الدولية هو التبادل التجاري الذي سيكون بين الاتحاد الأوروبي المكون من 450 مليون نسمة وميركوسور من 268 مليون نسمة أي أكثر من 720 مليون نسمة، وقد تنضم دول أخرى من أمريكا اللاتينية للاتفاق عبر ميركوسور في حالة ما إذا حقق نتائج اقتصادية وسياسية ملحوظة خلال السنوات المقبلة.
ورغم أن الاتفاق يحتاج إلى المصادقة النهائية، وتبدي بعض الدول اعتراضات على بعض البنود وذلك لحماية مزارعيها مثل حالة فرنسا، إلا أنه يشكل حدثا تاريخيا بالنسبة للاتحاد الأوروبي كما سطرت على ذلك رئيسة المفوضية الأوروبية. ولا يمكن قراءة هذا الاتفاق الضخم وفهم تأثيره المستقبلي إلا عبر مفاتيح جيوسياسية نظرا للتأثير الذي سيمارسه على التجارة العالمية مستقبلا. ومن أبرز هذه المفاتيح الجيوسياسية:
في المقام الأول، يأتي هذا الاتفاق في وقت تتجه فيه الولايات المتحدة مع الرئيس الجديد الجمهوري دونالد ترامب نحو مزيد من الإجراءات الحمائية رغم زعامة واشنطن للعالم الليبرالي. كما يأتي للرد على سياسة مشابهة بدأت تنهجها الصين التي بدأت تفرض رسومات مقلقة على الكثير من الواردات. وعليه، يعطي الاتفاق نفسا للعولمة في وقت يتجه فيه هذا العالم لحرب تجارية، ويجعل من الاتحاد الأوروبي زعيم العالم في مجال التجارة العالمية. ومن القطاعات التي ستستفيد من هذه الاتفاقية صادرات السيارات الأوروبية، حيث سيتم تخفيض الرسوم الجمركية من 35 إلى 25 في المئة، ما سيجعل السيارة الأوروبية منافسة نسبيا للصينية ومتفوقة على الأمريكية. ويريد الاتحاد الأوروبي الحصول على حصة الأسد في الصادرات الصناعية لمنطقة ميركوسور.
في المقام الثاني، لم تنجح الولايات المتحدة في التوقيع على اتفاقية مماثلة مع دول أمريكا اللاتينية رغم أن منطقة أمريكا اللاتينية تصنف أو تسمى بالحديقة الخلفية لواشنطن. فقد أقدم البيت الأبيض على التوقيع على اتفاقيات التجارة الحرة ثنائية مع بعض الدول، ولم ينجح في اتفاقية شاملة مع ميركوسور.
في المقام الثالث، يعاني الاتحاد الأوروبي من فقدان البوصلة الجيوسياسية في عالم يتشكل حول الولايات المتحدة من جهة والصين من جهة أخرى، وكان الممثل الأعلى لسياسة الدفاع والخارجية للاتحاد الأوروبي السابق جوزيب بوريل الذي ترك المنصب الأحد الماضي يصر ويؤكد على ضرورة إيجاد أوروبا موطئ قدم لها في نادي الكبار حتى لا ينتهي بها المطاف ملحقة للولايات المتحدة من دون صوت سياسي قوي في المنتديات الدولية رغم أن دول الاتحاد الأوروبي جماعة هي ضمن أكبر الشركاء التجاريين والمستثمرين في العالم لكن بدون تأثير سياسي، بل تشهد دولها انقسامات كثيرة خاصة مع وصول اليمين القومي المتطرف إلى السلطة. وعادة، ينتج عن الاتفاقيات التجارية الكبرى اتفاقيات سياسية في مجال العلاقات الدولية، ولهذا قد يطور الاتحاد الأوروبي وميركوسور الحوار السياسي والدبلوماسي حول عدد من القضايا الدولية.
في المقام الرابع، تبرز جريدة “الباييس” الإسبانية في عدد يوم الجمعة من الأسبوع الجاري أن المواد الأولية هي من العناوين البارزة والهامة لهذا الاتفاق. في هذا الصدد، تعاني أوروبا من مشاكل في الوصول إلى العديد من المواد الخام الحيوية اللازمة لتصنيع المنتجات الرئيسية للتحول المناخي، في حين أن أمريكا اللاتينية لديها احتياطيات من الألومنيوم والبوكسيت والمنغنيز والسيليكون والليثيوم والتنتالوم. على الرغم من أنها لا تقدم أرقامًا محددة، إلا أن بروكسل تعتقد أن أن “الواردات من هذه المعادن ستكون أرخص” ما سيسمح للكثير من الشركات الأوروبية بخوض التنافسية في وضع مريح على المستوى العالمي. وما يجعل منطقة ميركوسور حيوية وضرورة بشأن المواد الأولية للاتحاد الأوروبي هو أن القارة الأفريقية ومنها منطقة الساحل الأفريقي بدأت تطرد الأوروبيين تدريجيا لصالح روسيا والصين وتركيا، هذه الدول الثلاث بدأت تسيطر بالفعل على المواد الأولية الأفريقية ومنها المعادن الثمينة.
تبرز رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين أن الاتفاق حاجة سياسية أكثر منها اقتصادية، الأمر الذي يبرز الطابع الجيوسياسي للاتفاق بالنسبة للاتحاد الأوروبي الذي وجد نفسه مهمشا سواء في الحرب الروسية-الأوكرانية أو في حبر الإبادة التي يشنها الكيان ضد الفلسطينيين وما يترتب عن ذلك في الشرق الأوسط في لبنان وسوريا الآن.
شكرا على المقال الرائع ايها الكاتب المحترم