الاستبدال: مصطلح التبس على الكلاسيكيين فوضّحه ما بعد الكلاسيكيين

اجترح جيرار جينيت مصطلح الاستبدال Metalepsisكتقانة سردية تصنع أشكال التنافر وأنواع المفارقات من الترتيب الزماني بين الاستباق والاسترجاع، أو من تظاهر السارد بالدخول إلى الكون القصصي مع قارئه أو من دونه. ووجده مستعملا في روايات بلزاك وستندال، كما استعمله مارسيل بروست في الرواية الحديثة. وجاء اجتراح جينيت لهذا المصطلح متباينا في كتابيه، الأول «خطاب الحكاية» 1972، وفيه الاستبدال يعني تعارضا غير مقبول ولا منطقي يحدث ما بين الاسترجاع على مستويين داخل القصة وخارجها فيكون الخط القصصي للقصة الأولى مختلفا عن مضمون الثانية، ولكن الذي يسوغ هذا الاختلاف هو دخول شخصية بشكل حديث إلى السرد فيقوم السارد بإضاءة سوابقها، أو تكون الشخصية غائبة عن الأنظار فيقوم السارد باستعادة ماضيها (خطاب الحكاية). ومثّل جينيت على ذلك برواية «النار الشاحبة» لنابوكوف وقصة «جليسة الأطفال» القصيرة لروبرت كوفر.
والكتاب الثاني الذي ألفه جينيت هو «عودة إلى خطاب الحكاية» 1983 وفيه عرّف الاستبدال بأنه اندماج أو اختلاط الحكاية بشكل غير مقبول ولا منطقي، حين يكون السارد وفي وقت واحد على مستويين سرديين متعارضين، أحدهما خارج القصة والآخر داخلها. وما يسوغ التعارض وجود السارد بشكل ابتدائي خارج القصة كـ(فقاعة)، وضرب جينيت مثلا بشهرزاد التي تصير ساردا داخل القصة لحكاية قصصية وقد ترد فيها كشخصية من شخصياتها. وهو ما رآه (يثير البلبلة في التمييز بين المستويات) (الكتاب) ومن ثم يبقى الإشكال في مصطلح الاستبدال قائما، وبسببه وجهت إلى جينيت انتقادات حامية من قبل منظرين كلاسيكيين مثل، ميك بال وشلوميت ريمون كنعان.
وعلى الرغم من الأمثلة التي ضربها جينيت في هذين الكتابين، فإن المصطلح ظل ملتبسا. وسبب الالتباس يعود إلى طريقة نحته من مقطعين اثنين؛ الثاني منهما ( lepse ـ) من أصل إغريقي يتداخل بمصطلحين ينتهيان بالمقطع نفسه هما prolepse و analepse، فاحتار جينيت إزاء هذا التداخل الذي وصفه (بالمزعج لكنه دال) وأضاف قائلا: (هنا نواجه متاعب الاصطلاح ومصائبه.. فمن جهة تنطوي prolepse و analepse على ميزة الانتماء بجذرها إلى أسرة نحوية بلاغية.. ومن جهة أخرى سيكون علينا أن نستغل التعارض بين هذا الجذر -lepse.. والجذر -lipse) (خطاب الحكاية، ترجمة محمد معتصم وعبد الجليل الأزدي وعمر حلي) وهذا الذي أبداه جينيت إزاء مصطلحه المنحوت، حيّر بدوره المترجمين العرب الذين وصفوا Metalepsis بـ(مشكلة الميتاحكي) ثم اقترحوا ـ اجتهادا لا حسما ـ إرجاعه إلى البديع البلاغي وتعريبه بـ(الانصراف).
وإذا كانت اصطلاحية الاستبدال منحصرة عند جينيت في منطقة السرد الأدبي، فإن المنظرين ما بعد الكلاسيكيين وجدوا في تعارض هذا المصطلح وتخالفه ثغرة بها يؤاخذون المنظرين الكلاسيكيين، ومنها ينفذون إلى تطوير النظرية السردية من خلال علم السرد الرقمي أو السرد ـ ميديوي Digital Narratology. ومنظوراته التي يتداخل فيها السرد بالسينما وبرمجيات الذكاء الصناعي. ومن محصلات هذه المنظورات القصة التفاعلية Fiction Digital التي يشترك في إنتاجها المؤلف والمخرج ومهندس البرمجيات السبرانية.
وعادة ما تقدم القصة التفاعلية في شكل برامج او ألعاب أو أفلام قصيرة باستعمال تقانات حاسوبية خاصة مثل HTML5 وQuickTime
و JavaScript. وقد شهد السرد الرقمي في الآونة الأخيرة نشاطا إنتاجيا ملحوظا، وأخذ يُقبل الصغار والكبار على القصص التفاعلية، نظرا لسهولة تطبيقاتها والمتعة المتحققة من جراء مشاهدتها والتفاعل معها كما في قصص «برمنكهام الجديد» و«محطة الكاز الأخيرة» و«ورق الجدران».

جيرار جينيت

وأغلب موضوعات هذه القصص مأخوذة من حكايات العصور القديمة والعصور الوسطى وكلاسيكيات القرنين الثامن عشر والتاسع الحافلة بالخيال والسحر، وفيها يوظف الاستبدال كشخصيات متحولة وأحداث مستحيلة، فيها كثير من الرعب والإدهاش. وتساهم الوسائط الافتراضية المتعددة او التشعبية Hypertext في جعل (الاستبدال) منطقيا لأن التضاد اللامعقول في السرد ـ من ناحية تعارض وجود السارد في مكانين في آن واحد، أو من ناحية تضاد مستويات سرد حكايتين مضمنتين داخل القصة ـ لا يتلقى كتابيا حسب، بل هو أيضا يتلقى صوتيا وصوريا باستعمال التكنولوجيا الرقمية وأساليب إنتاج الميديا. وقد وجد صنّاع الأفلام في تقانة الاستبدال وسيلة تجذب المتلقين نحو أفلامهم. ومؤخرا صارت الأفلام السردية الرقمية محط اهتمام المدرسة الأنكلوأمريكية، فسخَّرت في سبيل ذلك منحى بحثيا، وصدّرت كتبا ودراسات تهتم بتطوير مفاهيم السرد ووسائطه الافتراضية، ومنها كتاب «القصة الرقمية واللاطبيعية: نظرية السرديات العابرة للميديا المنهج والتحليل» الصادر عن جامعة شيكاغو خريف 2021 للأمريكيين استرد أنسلين وأليس بيل، وفيه طرحا مصطلح الاستبدال التفاعلي (Metalepsis Interactional ) جمعا فيه بين حقلين معرفيين؛ الأول هو (علم السرد غير الطبيعي) والثاني هو (الميديا ووسائطها الرقمية). وعرّفا الاستبدال بأنه استعارات، أو مجازات فيها تخرق قواعد السرد عبر التدخل غير المنطقي للسارد، ويغدو للقصة عالمان: عالم يحكي السارد عنه وعالم يحكي فيه وما يتولد عن ذلك من تباين بين بناء القصة الداخلي وإطارها الخارجي.
والبغية التي سعى إليها المؤلفان هي استكمال ما طرحه جينيت حول الاستبدال، من خلال تطويع الوسائط الرقمية لتكون في خدمته، من ناحية ما يحصل في الأحداث أو الشخصيات من تحول من حال معتاد وطبيعي إلى حال غير معقول ولا طبيعي. فيكون(الاستبدال) من ثم شكلا من أشكال الكلام يحمل بعدا مجازيا به يغدو غير المعقول على مستوى الحياة الواقعية معقولا، ويكون على المستوى السردي مألوفا.
وضرب المؤلفان مثالا على هذا الاستبدال بالساردين كلي العلم والعليم، حين يأتيان بعالم مختلف ومفصول زمانيا ومكانيا عن العالم الذي هما فيه. فينشأ التناقض بين عالمين أحدهما، واقعي والآخر غير واقعي. وهو ما يحصل في كثير من القصص التي فيها يوظف السرد غير الطبيعي كروايات نابوكوف التي تحفل بعوالم غامضة، فيها تحولات خيالية تتجاوز قوانين الواقع الفيزيقية. ما يجعل القارئ في حالة استفزاز ذهني تدفعه إلى التفكير وتأدية دور المشاهد واللاعب والقارئ.

والتحدي الذي يواجهه القارئ المتفاعل هو معرفة هذا الأمر الغامض وفي أي جدار تم دفنه، واضعا نفسه موضع الشخصية الرئيسة، وفي وجهة نظر مصاحبة للسارد بضمير الشخص الثاني. وما يساعد القارئ على لعب هذا الدور وجود وسائط تشعبية صوتية وصورية، يتم إدخالها بطريقة المسح الضوئي الثلاثي الأبعاد للصور والنصوص والرسائل، فضلا عن نصوص سردية تستخدم في بعض مراحل اللعبة.

والفيلم الرقمي الذي اشتغل عليه المؤلفان واستلا منه صورا ونصوصا، وطبقا عليه مفهوم الاستبدال هو «ورق الجدران» WALLPAPER، وهو من إنتاج آندي كامبل وجودي ألستون وبإشراف أليس بيل. وأول عرض لهذا الفيلم كان في عام 2015، وتقوم فكرته على استعمال تقانة الاستبدال بقصد تحدي القارئ ودفعه إلى التفاعل واللعب، كأن ينقذ شخصا ما أو يفوز بمعركة.. والقصة الموظفة في هذا الفيلم تتحدث عن بي جي ساندرز وهو مهندس كمبيوتر مقيم في الولايات المتحدة الأمريكية، عاد بعد وفاة والدته المسنة إلى منزل العائلة في المملكة المتحدة، ليبحث في غرف هذا المنزل ـ التي ظلت مغلقة منذ طفولته ـ عن أمر غامض دُفن في أحد الجدران. ويستعمل جهازا تجريبيا لمساعدته في الكشف عن المجهول.
والتحدي الذي يواجهه القارئ المتفاعل هو معرفة هذا الأمر الغامض وفي أي جدار تم دفنه، واضعا نفسه موضع الشخصية الرئيسة، وفي وجهة نظر مصاحبة للسارد بضمير الشخص الثاني. وما يساعد القارئ على لعب هذا الدور وجود وسائط تشعبية صوتية وصورية، يتم إدخالها بطريقة المسح الضوئي الثلاثي الأبعاد للصور والنصوص والرسائل، فضلا عن نصوص سردية تستخدم في بعض مراحل اللعبة.
ويبدأ الفيلم بالسارد بضمير المخاطب وهو يتحدث من منطقة خارج نصية يطلب فيها من المتلقي الانتقال إلى «الشاشة» كي يدخل ضمنيا إلى عالم القصة، ومن ثم يستكشف المنزل غرفة غرفة. وبذلك يتحول القارئ افتراضيا من خارج القصة إلى داخلها، متلبِّسا شخصية المهندس مؤديا دوره بضمير الأنا. وهذه إحدى طرق (الاستبدال) في السرد الرقمي أي أن يتفاعل القارئ باستعمال الماوس ولوحة المفاتيح، وكأنه جزء من عالم القصة الافتراضي متحولا إلى قارئ ولاعب ومشاهد مع وجود مجموعة تعليمات ولوحات وألعاب. ويشعر من خلال التكنولوجيا الرقمية والسبرانية ووسائل التواصل الاجتماعي، بأن له وجودا حقيقيا، فيتنقل من مجال إلى آخر داخل العملية السردية وقد يكتشف أجزاء مفقودة من القصة.
ويؤكد مؤلفا الكتاب أن لتوظيف الاستبدال دورا مهما في طريقة استجابة القراء للسرد الرقمي وتفاعلهم الإيجابي مع الوسائط المتعددة السيبرانية. وهو ما يضفي جديدا على النظرية السردية ويساهم في تطويرها وبشكل يناسب الطبيعة الرقمية للسرد غير الطبيعي وطرائق اندماج الجمهور واقعيا مع عالم خيالي. وإذا كان جينيت قد تحدث عن الاستبدال من ناحية السارد الذي له وجود داخل العملية السردية ووجود آخر خارجها فإن منظري السرد الرقمي غير الطبيعي ابتكروا طرائق استبدال جديدة يتيحها السرد الرقمي.
وذكر المؤلفان طريقة مونيكا فلودرنك التي طرحتها عام 2003 وفيها دعت إلى عبور الحدود الأنطولوجية ما بين الحقيقي والمجازي، كأن يخاطب المؤلف القارئ مباشرةً عبر السرد ويصنع قصته فيصبح القارئ مشاركا معه على مستوى النص كشخصية مدمجة، متحولا من كونه متلقيا إلى مسرود من مسرودات العمل القصصي. وهو ما تراه فلودرنك يحصل في بعض أشكال السرد بضمير المخاطب، فيكون المرسل/ المؤلف في الخارج والقارئ/ المرسل إليه في داخل القصة. ومن الطرائق أيضا أن يزود المؤلف القارئ ببعض المعلومات الإضافية أثناء توقف العملية السردية أو أن تتم مخاطبة القراء مباشرة من قبل الشخصيات.. إلى غير ذلك من الطرائق التي يبدو شرحها مستحيلا نظريا، أو غير قابلة للتمثيل عليها في السرد الطبيعي. واستعان المؤلفان بمفاهيم منظري علم السرد غير الطبيعي ومنها مفهوم (العوالم المستحيلة) لجان البر، وبه فسرا كيفية جعل الخرق الذي يسببه الاستبدال ممكنا ومنطقيا، ورسما مخططا توضيحا للاستبدال يتضمن سهمين أحدهما صاعد والآخر نازل، وبينهما مستويان فوقي خارجي حقيقي، وتحتي ضمني خيالي.

كاتبة وباحثة عراقية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول واجئ النقطاء العتوفين:

    عزيزتي نادية هناوي، في اللغة الأوروبية كالإنكليزية أو الفرنسية تحديدا، ليس هناك من حيث المبدأ أي التباس في فهم المصطلح Metalepsis، وذلك لجلاء أصوله اللغوية القديمة سواء من اليونانية أم اللاتينية أم غيرها، من جانب أول، ولجلاء تمثيلاته “الحديثة” في النص الشعري أو النثري (السردي)، من جانب آخر – الالتباس الفعلي هنا، يا عزيزتي، إنما ينشأ من ترجمة هذا المصطلح معربا إلى لفظ “الاستبدال” في حد ذاته، كما نراك تفعلين هنا بلا تردّد أو تحفّظ، في حين أن هناك مصطلحات إنكليزية أو فرنسية أخرى تعني اللفظ ذاته في الآن ذاته في العربية كمثل Substitution، وما شاكل – من هنا ينشأ الالتباس الحقيقي الذي ليس مردّه إلا إلى عدم فهم المصطلح المعني فهما علميا دقيقا في الحقيقة – هذه حقيقة !!

اشترك في قائمتنا البريدية