الاطفال المتسولون يغزون نواكشوط ويحوّلون الحاجة الي مهنة
دخلهم لا يزيد عن دولار واحد في اليوم و حرفتهم استجداء العواطفالاطفال المتسولون يغزون نواكشوط ويحوّلون الحاجة الي مهنةنواكشوط ـ القدس العربي ـ من عبد الله السيد: اذا كان ثمانية آلاف طفل يتسولون كل يوم في المدن الايطالية فما بالك بأطفال موريتانيا، البلد الافريقي الذي تحيط به أسيجة الفقر من كل جانب؟سؤال مشروع طرحه الباحث الاجتماعي الموريتاني الأستاذ سيدي يحي المهتم بدراسة ظاهرة أطفال الشوارع المنتشرة في نقاش حاولت القدس العربي من خلاله رصد هذه الظاهرة. تعود أسباب ظاهرة التسول بشكل أساسي للفقر وقلة الحال. الا أن نظرة المجتمع للتسول تختلف من بلد لبلد، ومن شخص الي آخر، ويري البعض أن اعتماد الكثيرين علي التسول كمهنة يومية تدر دخلا معقولا سببه تعاطف الناس مع الاستجداء الكاذب للكثير من المتسولين.وتختلف أوضاع وطرق التسول في العالم، ففي الهند مثلا هناك مدينة للمتسولين، لها قوانينها وشريعتها وطريقة العيش فيها. وفي البلاد الشرقية والمسلمة منها يختار المتسولون أماكن العبادة والجوامع والأضرحة لممارسة عملهم، وفي الدول الغربية ينتشر المتسولون في أنفاق المترو وقرب الساحات العامة والمتاحف يمارسون عملهم بطريقة أخري من خلال العزف والغناء أو ربما الرسم. وفي موريتانيا تزداد هذه الظاهرة انتشارا سنة بعد أخري وأصبح للظاهرة آلياتها وشخوصها وأنماطها وأساليبها ولغتها. من مال الله يا محسنين ، حسنة قليلة تدفع بلايا كثيرة ، بركة رسول الله .. هذه عبارات استعطاف يطلقها بأصوات خافتة جيش المتسولين في الصباح الباكر أثناء تسابق الموظفين للالتحاق بأماكن عملهم.كل طفل من هؤلاء الأطفال مرغم علي أن يحصل من رحلة تسوله اليومي 300 أوقية (دولار واحد) يدفعها لشيخه الذي يدرسه القرآن، ومن لم يحصل علي هذا المبلغ سيتعرض للضرب الشديد.ما الذي دفع هؤلاء الأطفال الصغار الي التسول في الشارع؟ وهل ينظر آباؤهم ومشايخهم الي القضية من هذا الجانب أم أن هناك تأويلا ثقافيا وتقبلا تقليديا لتسول طلبة القرآن؟ وماهي المخاطر التي تنتظر طلبة القرآن المتسولين في الشارع؟ وماذا فعلت الدولة الموريتانية والمجتمع المدني لحمايتهم من هذه الوضعية؟يقول علي ولد عيسي من منظمة الأطفال والتنمية مسؤول في منظمة الأطفال والتنمية، وهي من منظمات المجتمع المدني الموريتاني التي تمتلك خبرة متميزة في المجال، أن ظاهرة أطفال الشوارع الموريتانيين في تزايد ملحوظ خلال السنوات الماضية، وذلك نتيجة لأوضاع الفقر والتهميش. ويوضح ولد عيسي أن ثمة فرقا بين الـ المودات وأطفال الشوارع، فطفل الشارع هو ذلك الذي ينفصل عن ذويه ويتخذ من الشارع مأوي ومكانا للمبيت. واذا كان معظم الـ المودات ينامون في أخصاص ملحقة بمنازل شيوخهم، الا أنهم يتقاطعون مع أطفال الشوارع في وجودهم أكثر الأوقات في الشارع وصعوبة الظروف التي تواجههم، والحرمان من العاطفة والحنان الأبوي. هذا اضافة الي عدم الانتظام في المدارس النظامية.ويضيف المدير التنفيذي لمنظمة الأطفال والتنمية في موريتانيا أن هذه الظاهرة أكثر انتشارا بين الأطفال المنحدرين من قومـــية البولارية، مبرزا أنها عبرت الحدود الي موريتانيا قادمة من السنغال ومالي وغينيا بيساو. وتقدر المنظمة عدد الـ المودات في العاصمة الموريتانية نواكشوط بألف طفل، واذا كان آباء الأولاد الذين يرسلونهم لتعلم القرآن الكريم يقبلون عيشهم بهذه الطريقة التي كانت مناسبة لحياة الريف والماضي، فانهم يجهلون أن ما يتعرضون له لدي بعض المشايخ الذين ليسوا علي مستوي المسؤولية هو شكل آخر من الاستغلال. يقول الباحث السوسيولوجي محمد محمود ولد سدي يحي أن الدراسات الاجتماعية تؤكد أن الآباء يعتبرون حياة المودات تربية تخرج رجالا أتقياء يتحملون المسؤولية. وتشير دراسة أنجزها خبراء في وزارة الصحة والشؤون الاجتماعية الي أن أعمار الـ المودات المتسولين في موريتانيا تتراوح ما بين 6 الي 16 سنة وأن 90 بالمئة منهم يتكلمون لهجة القومية البولارية وهي أقلية من أصل زنجي في موريتانيا، بينما لم تعكس السمات العائلية لذويهم أي مميزات تختلف كثيرا عما هو شائع حول سمات الأسرة الموريتانية المتوسطة، حيث كان الأبوان يعيشان معا في حال ثلثي المبحوثين، في حين لم يزد عدد الأيتام علي خمسة بالمئة. وعن ظروف آبائهم المهنية تؤكد الدراسة أن 37% منهم كانوا مزارعين و43% يتوزعون علي بعض أعمال القطاع غير المصنف، وانحصر المهنيون منهم في نسبة 8%، في حين كان خمسهم دون دخل محدد أو عاطلين عن العمل. وقد أكدت تلك البيانات أن السبب الحقيقي وراء ارسال الأسر لأطفالها ليصبحوا طلبة متسولين لدي شيخ قرآني، ليس هو الفقر وسوء الأحوال المعيشية، رغم أن معظمهم يعيش ظروفا اقتصادية متواضعة، وينحدر من أسر ذات كثافة عددية أكبر. ان الدوافع الدينية والثقافية هي السبب الحقيقي وراء ارسال الطفل للدراسة علي شيخ ديني معروف، طمعا في أن تنفتح أبواب المشيخة الدينية أمامه في المستقبل، حيث يتوقع الآباء أن يحصل هؤلاء الاطفال علي معرفة معمقة وراسخة بالدين الاسلامي دون أن يتأثروا بمتغيرات الحياة العصرية التي تؤثر سلبا علي سلوك أضرابهم. وتعتبر الظروف الصعبة التي سيعيشها الالمود أثناء دراسته للقرآن علي شيخه في نظر ذويه تنشئة اجتماعية ضرورية لتربية الرجال الأتقياء الذين يستطيعون تحمل المسؤولية، مقابل نظرة الارتياب التي تحيط بالمدرسة العصرية في نظر هؤلاء الأهالي، والتي يرون أنها تخـــرّج شــبابا لا ينتمون الي ثقافتهم وقيمهم، بل وفي بعــــض الأحيان مجرمين ومؤسسي عصابات!يوقظ شيخ المودات تلاميذه في الصباح الباكر، ليبدأوا باستظهار بعض آيات القرآن الكريم، وعند الساعة السابعة صباحا يلتحقون بأماكن التسول في ملتقيات الطرق والمساحات العمومية مصحوبين بأوان يخزنون فيها الصدقات غير النقدية.يعود معظم المودات عند منتصف النهار لقراءة القرآن الكريم ليرجعوا عند الظهيرة لطلب الصدقات، وربما حتي وقت متأخر من الليل. يسكن الطلبة المتسولون في ملحقات بسكن الشيخ علي شكل بهو أو عريش، يدرس فيها مابين 10 الي 100 طالب تتراوح أعمارهم مابين 4 ـ 18 سنة قلة من بينهم بنات، ويستخدمون ألواحهم الخشبية والدواة والقلم التقليدي.ونظرا لاعتمادهم علي التسول في تحصيل غذائهم اليومي فان 44% من المودات يتناولون ثلاث وجبات يوميا، ومن هنا سجلت الدراسة سوء التغذية السائد لدي معظمهم، ولم يخجل 11% منهم عن التصريح بأنهم يحصلون علي غذائهم من البحث في القمامات!! وقد انعكس هذا الوضع الغذائي السيئ علي صحة المودات كما تشير نفس الدراسة، حيث بدا 57% وهم يعانون من مرض معين، سواء كان آلاما في الرأس أو اسهالا أو حمي، وقد صرح 70% منهم أن شيوخهم يتولون علاجهم لكن في الحالات الظاهرة والشديدة فقط!!وقد اعترف نصف الأطفال الذين قابلهم الباحثون أنهم لم يأخذوا حماما طيلة الأيام الثلاثة الأخيرة، في حين أكد 17% منهم أنهم لايفعلون ذلك الا شهريا وخصوصا أن أغلبهم لايتوفرون علي مادة الصابون!! ويؤدي ترك المودات في الشوارع دون رقابة الي مخاطر جمة، حيث أكدت الدراسة آنفة الذكر أن 32% منهم تعرضوا لاعتداءات، وأن 52% يتضررون من المشاجرات والصراعات التي يثيرها اقتسام الصدقات فيما بينهم، ولعل هذا ما يفسر تعرض 16% منهم للايقاف من قبل الشرطة تحت طائلة ارتكاب جنح وانحرافات معينة، وخصوصا اذا علمنا أن 91% من هؤلاء الصغار أصبحوا من المدخنين! وقد قدمت الدراسات التي أجريت مؤخرا تشخيصا متكاملا للظاهرة، واقترحت عدة توصيات من أهمها اعداد برنامج للتحسيس بمخاطر ارسال الأطفال ليكونوا المودات متسولين واستصدار وتعزيز الاجراءات القانونية الضرورية لحماية الأطفال من هذه الأوضاع وتنظيم برامج تكوين خاصة بمشايخ المودات وفتح مراكز تغذية جماعية للأطفال بهذه المحاظر وتقديم دعم مالي لتلك المحاظر من أجل تجنبيها دفع طلابها الي التسول.وقد أشار المخطط الوطني لحماية حقوق الانسان الذي أقر سنة 2003 الي ادانة الاستغلال الاقتصادي لـ المودات من قبل شيوخهم واقترح لمواجهة ذلك اجراء اتفاق عام بين مفوضية حقوق الانسان والمحاظر لاستقبال وايواء أطفال الشوارع عموما و المودات خصوصا واعداد برنامج للحماية والدمج الاجتماعي لصالح المودات وأطفال الشوارع وتحريم ظاهرة تسول طلبة القرآن.وفيما عدا الاجراءات القانونية التي يعد بها مشروع قانون القصر الذي صدر مؤخرا حيث نص في مادته رقم 32 علي معاقبة من يحرض أو يدفع الأطفال الي التسول اضافة الي مواده 40 و41 التي تحرم الواجبات التي تضر بصحة الطفل أو بتربيته وتعليمه – فيما عدا ذلك لايبدو أن مقترحات هذه الدراسات قد وجدت سبيلها الي حيز التنفيذ.وحتي الخيرون والغيورون علي التعليم الديني وحماية الثقافة العربية في الأوساط غير الناطقة بها، يبدو أنهم يتجاهلون هذه الظاهرة التي تسيء الي المدارس القرآنية وطلابها.