حليم بركات
يؤكد حليم بركات في كتابه «الاغتراب في الثقافة العربية.. متاهات الإنسان بين الحلم والواقع» الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت، أن مجتمعاتنا في حالة اختناق. أولا لأننا نتعايش مع أوهام تتطور من رغبات وطموحات مكبوتة. وثانيا لأن المجتمع يعجز عن تجاوز واقعه، ويقبل في النهاية بالأمر الواقع. وهو ما حصل في مراسلات الحسين ومكماهون، فقد انتهى هذا الغرام المزيف بإجهاض الثورة العربية، ثم تكرر في اتفاقيات سايكس وبيكو، دون إشراك أي فريق عربي، ومؤخرا في اتفاقيات إيفانوف وأوباما، التي حددت سيناريوهات «الثورات».
ويؤكد بركات أن موضوع الاغتراب بحد ذاته ساحة خلافية، حتى إن عالم الاجتماع ميلفن سيمن قارنها بالعجز وفقدان المعايير، بينما رأى زميله أنتوني ديفدز، أنها مرض نرجسي يعبر عن التشاؤم وتضخم الذات. وعلى ما يبدو أن بركات لم يهتم بوضع حدود للمفهوم، لكنه دعا لتجاوز هذه الحالة. وكما قال «التغير حتمي لكن المشكلة أنه يحصل دون أن يكون لنا دور في توجيهه». ويتضح ذلك من خلال أزمة الدولة مع نفسها، فبقاء دولنا يرتهن بعوامل خارجية لا نتحكم بها مثل، الاقتراض من البنك الدولي أو شراء السلاح والأغذية الاستراتيجية بقروض طويلة الأجل، أضف له شراء التكنولوجيا، وفي أحسن الحالات تجميعها بمعايير رديئة وغير تنافسية. ومن الطبيعي أن يتسبب عجز الدولة في فرض حصار خانق على المواطن لضمان طاعته دون إيمان أو ولاء. ويسمي بركات ذلك بغياب التفكير النقدي. وهو ما يفسره هيغل بالتعارض الدائم بين مبدأ الحرية والانتماء – أو الوحدة (بترجمة بركات) ولذلك كان تغيير الواقع ضرورة لا بد منها لحل مثل هذه النزاعات. ومن هنا «يبدأ الشعور بالذنب والقلق والخوف من العقاب». ومن المؤكد أن التعامي عن نقاط الضعف لا يلغيها. وهذه ثاني مشكلة في الخطاب الوطني، فهو يشدد على مبدأ السيادة، دون أن يدعم أحد ذلك بإجراء فعلي، ويكفي أن منطقتنا مربوطة بمنطقة اقتصادية هي، تقليديا تحت نفوذ الدولار. وكما ورد على لسان هشام شرابي «الحداثة هي غير المجتمع الأبوي الملقح بالحداثة». وكما أرى لا يمكن أن تجمع بين صورة وسيميولاكر.
ولا أستطيع أن أؤيد بركات في أن نمو الطبقة الوسطى يسير بالاتجاه الصحيح لأن الانتهازية المجتمعانية شوهت المعايير، وخلقت مجتمعا بيروقراطيا لا طبقيا، قوامه وحدات استهلاكية غير مؤمنة بشيء سوى أخلاق رفاهيتها. وقد تعهد بتوسيع هذه الشريحة عاملان: العولمة، وفشل دولة الأمة. ولا جدال عندي في أن تغييب الطبقة الوسطى سيتسبب بتآكل الهوية العربية، فهي في الأساس من اختراع هذه الطبقة التي أخطأت في اختياراتها. ويعود هذا الخطأ لبواكير القرن العشرين، حينما اختار رواد التنوير أهدافا غير راديكالية تغازل رواد النهضة – وهم من رجال السلطة والصناعة الذين يدينون بالولاء للنموذج الغربي. وسبق للدكتور شكري المبخوت أن قال عن هذه العلاقة: إنها تعبير عن أفق انتظار وليست تثبيتا لواقع جاهز. ومثلما هو المواطن عاجز أمام استبداد نظامه، نحن نلاحظ أن الأنظمة الضعيفة عاجزة أمام ديكتاتورية واستبداد الدول القوية. وترتب على ذلك ضرورة اتباع أحد الاحتمالات التالية:
1- القطيعة والانسحاب كالهجرة أو اللجوء.
2- الرضوخ للأمر الواقع والتعاون مع السلطات.
3- رفع راية الإصلاح أو إعلان التمرد والثورة.
وعلى هذا الأساس يعتقد بركات مع عبد الله العروي أن «الدولة العربية تؤمن بالسيف وليس بالقلم». ويؤكد على ذلك أي إحصاء سريع بين الموظفين، فالكوادر بشكل عام محرومة من الثقافة، ولا ترقى باهتماماتها لما يزيد على الكليشيهات، وهي تتبع نظام الحفظ والاستعادة، وليس أسلوب التفكير التجريبي الذي كان سائدا في العصر الوسيط حينما استورد الفلاسفة العرب مصطلحات الإغريق، وأعادوا تأهيلها بما يخدم ثقافتهم التوحيدية، ولهذه الغاية خففوا من المجاز التصويري واستعملوا مجازات تكهنية تستدل على الموجود من أعماله ومعجزاته. ودون أي مغالاة إذا لم تكن هناك علاقة بين «رسالة الغفران» و«كوميديا دانتي الإلهية» أجد أكثر من علامة تربط بين أليغوري «مزرعة الحيوان» لجورج أورويل و«كليلة ودمنة» لابن المقفع و«خرافات إيسوب». وباعتقادي إن هذا الخيط الواضح بإيحاءاته الرموزية يضع العقل العربي ضمن سياقه التاريخي المتصاعد، ابتداء من التصور الإغريقي لمعنى الحكمة مرورا بالحدس الإسلامي لها وحتى الروح الثورية المتمردة على كل أشكال التعبئة والتسييس.
ويرثي بركات هذا التوجه بعد «تآزر الدين مع العائلة لخنق مشروع الحداثة» الإسلامي. لكن هذا يجب أن لا يصرف انتباهنا عن شكلين من أشكال الاغتراب الديني، الأول يكون بتنامي الشعور بلا معقوليته. والثاني يساعد على تنويم المؤمن مغناطيسيا وتغريبه عن نفسه، ولا يوجد ما هو أفضل من الرواية – السرد بشكل عام – لتمثيل مشاعر التناقض مع الذات أو الاغتراب والجنوح. ولذلك يختتم حليم بركات كتابه بشهادة عن أدب الغربة والمنفى، ويصنفه بعدة أشكال منها، الترحال بين عدة بلدان عربية، والهجرة والاستقرار في ميتروبول، أو مركز استعماري مثل أمريكا. لكن يفوته أن يشير لمسألتين في غاية الأهمية.
الأولى هي بروز جيل جديد من الأدباء، ولاسيما في الخليج العربي، وبالأخص في سلطنة عمان والمملكة السعودية، وتناول أفراد هذا الجيل مشكلة الاغتراب الاجتماعي والحضاري من أوسع أبوابها، وتسجيل شهادة قيامية عن تحويل المجتمع. المسألة الثانية هي ما لحق برواية المهاجر من تبدل عميق، وإذا أخذنا مثال جبران نستطيع أن نجد صوتا عدميا يقرأ الداخل بلغة غريبة عليه، لكن أعمال بركات على سوية واحدة مع روايات سنان أنطون. وأول ما يلفت النظر لها هو المقاربة الفنية وليس الموضوع القومي أو الاغترابي.
ولا بد من إضافة نقطة ثالثة، إن أدب المنفى هو لفئة من المدللين الذين ترعاهم مؤسسات توسعية ذات أطماع في بلادنا، ومثلما لقي غائب طعمة فرمان الدعم والإشهار في موسكو، لقي الطيب صالح الدعم والترويج في لندن، فالإمبريالية تعرف كيف تصنع من كاتب رمزا وطنيا، بينما لا يشتهر أدباء الداخل إلا إذا مروا بتجربة مؤلمة مع السلطات، ويمكنني تعميم المنطق نفسه على أدب الأرض المحتلة. فالنماذج التي تصلنا من هناك تعبر عن وعي مزدوج بالغربة، فهي مكتوبة في حدود حائرة، الذاكرة عربية والواقع إسرائيلي. ولا نستبعد في هذه الحالة انفجار الخيال عن لغة استثنائية تدمج الأساطير بالخرافات الشعبية بقالب خيال نخبوي يغلفه الغموض والاحتمالات (انظر كتابات ناجي ظاهر وعلاء حليحل وحسين فاعور الساعدي) إلا أن مواقف وخيال بركات (ومثله هاني الراهب وسنان أنطون) تتقاطع مع القضية بالموضوع، بينما يعزل الأسلوب نفسه وراء ستارة من الاستعارات والرموز ومكياج الحداثة. وكما ورد في ختام شهادة حليم بركات عن أعماله إن الواقع الاجتماعي الثقيل، الذي يهبط ويجر أفكارنا معه إلى الأسفل لا يؤهل أحدا لتحقيق «وعي متوازن بالذات والعالم». ولذلك لم يبق أمامنا غير التعبير عن «اشتداد الأزمة في علاقة العرب بالغرب» وتفاقم حالة هدر الفرص والإمكانيات. حتى إن الهجرة التي مثلت طوق نجاة أصبحت احتمالا إضافيا يقود إلى جحيم دائم نحمله معنا.
كاتب سوري