الاقتداء بمقتدى هو الحلّ!

ليست هي المرة الأولى التي يعلن فيها الزعيم السياسي ـ الديني ـ الطائفي العراقي مقتدى الصدر أنه يعتزل السياسة، أو يهدّد بالأمر. والحال أن أهل العراق اعتادوا أن يروا في إعلانه «الاعتزال» أو تهديده به تعبيراً عن سخطه من حالة مستعصية في وجهه لا يستطيع التغلّب عليها بالوسائل السياسية المعتادة، فيعتزل وهو يراهن على أن اعتزاله سيحفّز غليان أنصاره وإصرارهم على عودته ويعزّز بالتالي من مكانته في اللعبة السياسية بما يفرض على سائر اللاعبين النزول عند رغباته.
ولن يبدّل في الأمر كثيراً أن مرجع التقليد الذي اقتدى به مقتدى حتى الآن قد تنصّل منه بكلمات جارحة. فقد شكّك الصدر باستقلال مرجعه، كاظم الحائري المقيم في مدينة قمّ، لاسيما وأن تنصّل هذا الأخير من مريده قد ترافق باعتزاله المرجعية ودعوته إلى الولاء للمرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي.
هذا هو السبب الذي حدا بالصدر، وقد بات يحتاج إلى تقليد مرجع آخر، إلى التشديد على أسبقية النجف العراقية على قمّ الإيرانية. وهذا ينسجم بالطبع مع الوطنية العراقية والقومية العربية اللتين تعدّتا الطائفية إلى حدّ ما من خلال التعاون مع القوى السنّية واللتين جعلهما الصدر ميّزتين أساسيتين لنهجه منذ بروزه على الساحة إثر الاحتلال الأمريكي للعراق قبل ما يناهز عشرين عاماً. وهو الأمر الذي وضع الصدر خلال معظم السنوات المنصرمة في تعارض مع القوى العراقية الموالية لطهران، التي تتمثّل الآن بأخصام الصدر الرئيسيين المجتمعين في ائتلاف القوى الطائفية الشيعية، الإيرانية الولاء، المعروف باسم «الإطار التنسيقي».
وهذا ما يفسّر أيضاً لِمَ انصبّ سخط أنصار مقتدى الصدر، إثر إعلانه الاعتزال، على رموز الهيمنة الإيرانية على العراق بما فيها صوَر قاسم سليماني، الذي كان بمثابة والي العراق بصفته قائد «فيلق القدس» في «حرس الثورة الإسلامية» الإيراني، وهو الفيلق الذي يُشرف على التشكيلات السياسية-العسكرية الموالية لطهران في شتى الساحات العربية، وصوَر أبو مهدي المهندس، ساعد سليماني الأيمن في الساحة العراقية، وكان الرجلان قد تعرّضا لاغتيال بواسطة طائرة مسيّرة أمريكية في مطلع عام 2020.

هذا النظام العفن الجامع بين المحاصصة الطائفية والرأسمالية الهمجية هو الذي هبّت الانتفاضة «التشرينية» في خريف عام 2019 لتتصدّى له وتطالب بإسقاطه

والحقيقة أن التخاصم بين «الإطار التنسيقي» ومقتدى الصدر إنما يرمز ببلاغة إلى حالة سياسية بات الصراع الرئيسي فيها يدور بين قوى طائفية (بمعنى أنها تستند إلى قاعدة مشكّلة طائفياً) لا بل قوى دينية أصولية تلتقي على مزج الدين بالسياسة، وإن اختلفت في مواقفها الدينية كما والسياسية. ولا ينطبق هذا الأمر على شيعة العراق وحسب، بل ينسحب أيضاً على سنّة العراق العرب الذين غلبت في صفوفهم شتى القوى الطائفية والدينية بعد عام 2003، من قوى «معتدلة» إلى جماعتين بالغتي التطرّف كالقاعدة وداعش.
وهذه الحالة المُزرية هي الإرث الكارثي الذي نجم عن إسقاط حكم الطاغية صدّام حسين، ليس بفعل موحّد من غالبية الشعب العراقي بكافة مكوّناته الطائفية والعرقية، بل باحتلال أمريكي ترافق بفتح باب العراق على مصراعيه أمام قوى طائفية موالية للحكم الأصولي الإيراني، جلبها الاحتلال معه من منفاها إلى بغداد في حالة فريدة وقصوى من الغباء السياسي ميّزت إدارة جورج دبليو بوش وجماعة «المحافظين الجدد» التي طغت فيها في سنواتها الأولى (عزوا غباءهم لاحقاً إلى احتيال غير المأسوف عليه أحمد الجلبي، الذي اتهموه بالعمالة لطهران).
لا بل عمل الاحتلال الأمريكي على ضمان ديمومة هذه الحالة المُزرية بصياغته دستوراً للعراق مستوحىً من النموذج اللبناني البائس والمهترئ وقائماً بالتالي على المحاصصة الطائفية والعرقية في سياق اقتصادي من رأسمالية فاحشة بلا قيود على الطريقة اللبنانية، بما أدّى إلى استفحال الفساد الذي بلغ في النظام العراقي كما في نظيره اللبناني ذروتين من ذرواته العالمية.
إن هذا النظام العفن الجامع بين المحاصصة الطائفية والرأسمالية الهمجية هو الذي هبّت الانتفاضة «التشرينية» (نسبة إلى شهر تشرين الأول/ أكتوبر) في كلٍ من البلدين في خريف عام 2019 لتتصدّى له وتطالب بإسقاطه واستبداله بنظام قائم على ديمقراطية لا طائفية وعدالة اجتماعية. وبالرغم من الهزيمة التي مُنيت بها القوى «التشرينية» في البلدين، والتي كان لجائحة كوفيد-19 دور أكيد في تحقيقها، فإن قسماً منها لا يزال يواصل النضال كالنار الراقد تحت الرماد بانتظار التهاب جديد، وهو محتّم إذ إن الظروف قابلة للاحتراق بل وللانفجار بصورة لا تني تتفاقم.
أما مقتدى الصدر، فليس هو الحلّ في العراق بالتأكيد، بل هو وجه من أوجه المشكلة. وإن كان في ما فعله ما يستحق أن يقتدي به غيره من أركان النظام العراقي، فهو اعتزال السياسة: لو اعتبر كافة زعماء العراق السياسيين باعتزال الصدر وقلّدوه، كما تمنّى هو عليهم، لأدّوا إلى بلادهم خير خدمة يمكنهم تأديتها شرط أن يكون اعتزالهم صادقاً ونهائياً.

كاتب وأكاديمي من لبنان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول ميساء فلسطين:

    أثبت الرجل انه قائد حكيم والله يستحق أن يكون رئيسا لكل العراقيين

  2. يقول اثير الشيخلي - العراق:

    اتفق تماما أن بداية الحل للازمة السياسية المستعصية للعراق ،هي بالفعل اقتداء كل الطبقة السياسية التي شاركت بأي دور في السياسة الرسمية للعراق متذ عام 2003 لغاية يوم التاس هذا بمقتدى في اعتزاله للسياسة و لكن بشرط أن يكونوا صادقين في اعتزالهم بشكل نهائي و لا يقتدون به في تذبذبه و تخبطه في النكول و العودة من جديد حين يشعر أن منسوب الدولارات قد انخفض في رصيد خزائنه !
    نعم بيان الصدر امس في اوامره لتياره بالانسحاب الفوري هو حقن لمزيد من الدماء في فتنة كانت ربما لا تبقي و لا تذر و لكن من ناحية اخرى حققت لمناوئيه الظاهريين كل ما يطمحون اليه ، و أسقط في يد اتباعه الذين ثبت انهم مجرد أدوات و عرائس ماريونيت يستخدمهم لتحقيق مآرب نزقه السياسي حتى لو كان الثمن دماء تسيل بلا معنى !
    يتبع لطفاً …

  3. يقول اثير الشيخلي - العراق:

    تتمة رجاءا ..
    .
    و اسباب انه حقق اهداف مناوئيه اي زعماء الإطار التنسيقي التابعين لإيران منذ النشأة و التكوين وصولا للتمويل والتحكم بمفاصل الدولة العراقية هي :
    1. اثبت من خلال اوامره بسحب اتباعه من الميدان و الاعتصامات و المظاهرات حتى لو كانت سلمية بسبب انفلات الأمور أن كلام مناوئيه هو الصواب من حيث اللجوء إلى الدستور و القانون و حماية مؤسسات الدولة ( علما ان كل كلامهم هذا هو حق يراد به باطل و كانوا هم أنفسهم من يريدون قبل أشهر الانقلاب على العملية الانتخابية و اتهامها بالتزوير)
    .
    2. تمسكه بأنه لن يمارس السياسة إلى الأبد ( لغاية الآن على الاقل ) معناها التخلي عن نوابه ال 73 المنتخبين من قبل قاعدتهم الواسعة و التخلي بالتالي عن شرعيتهم و بالتالي استبدالهم بنواب من مناوئيه قطعا!
    .
    3. التخلي عن حلفاءه من بقية القوى الشيعية و عن القوى السنية و عن القوى الكردية و تركهم مفككين كالغنم القاصية لذئاب مناوئيه من الاطار !

    يتبع لطفاً

  4. يقول اثير الشيخلي - العراق:

    تتمة رجاءا..
    .
    4. و هذه برأيي الأخطر على الإطلاق، تمسكه في بيانه الاخير بمرجعه كاظم الحائري رغم تخلي الاخير عنه بطريقة مهينة جدا وصلت حد إخراجه من منهج عائلته و ابيه و عمه حتى لو انتسب اليهم بالدم و اتهامه بشكل صريح انه عامل فرقة للعراقيين ، و الأخطر من ذلك كله ،تنازله عن مرجعينه بالكامل و ضمها تحت جناح مرشد إيران الأعلى علي الخامنئي و امر اتباعه باتخاذ الخامنئي مرجعا لهم
    و هذا معناه ببساطة أن كل اتباع الصدر و هو و هم من مقلدي آية الله الحائري صاروا تحت مرجعية إيران العليا ، و المختلفة كليا و جذريا عن مرجعية آل الصدر و متقاطعة معها عبر التاريخ فكريا و قوميا
    و لأن مرجعية مناوئي الصدر هي نفس المرجعية اي الخامنئي، فما حصل هو أن الجميع بات اليوم تحت و خلف مرجعية الخامنئي الإيرانية
    و بدل أن ينأى الصدر عن قرار الحائري و يتخذ مرجعية مختلفة تتناسب مع اتجاه آل الصدر ، أكد في بيانه انه خاضع لاوامر المرجع و متبعا لها ، وبذلك صار الخامنئي مرجعه الجديد حاله حال المالكي و العامري و الخزعلي رؤوس الإطار التنسيقي و مناوئيه الشرسين
    و هذا اكبر انتصار برأيي حققه الإطار و اكبر هزيمة للصدر ،هذا اذا كان يقدح من رأسه !
    .

    يتبع لطفا

  5. يقول اثير الشيخلي - العراق:

    تتمة رجاءا
    ..
    5. تخبطه الفقهي الذي دل على جهله ، حين تألى على الله وقرر أن القاتل و المقتول في مواجهات اول امس في النار! و هو اختصاص رباني صرف لأنه امر متعلق بمآلات الآخرة و ليس الدنيا
    ثم عاد بعدها ليغرد بغرابة، أن من سقط مقتولا هو شهيد على الدولة منحه كل حقوق الشهداء !
    كيف يمكن لهكذا تخبط أن يحترم من الاتباع قبل المناوئين
    .
    6. بيان الإطار التنسيقي يدل على انهم كسبوا الجولة بحيث اشاروا في بيانهم لاتباعهم المعتصمين أن عودوا إلى بيوتكم سالمين غانمين بما تعنيه دلالة كلمة غانمين
    .
    7. الأطراف السياسية كلها تقريبا خاطبت الصدر مشيدة بموقفه في سحب الفتيل و إطفاء الفتنة و دغدغوا مشاعره و خاطبوا عواطفه مدحا مزيفا باعتباره القائد الجهبذ المتحكم بالملايين بكلمة منه فاسكتوه ولو مؤقتا عن الخوض فيما هو قادم ، مما ترك النهايات مفتوحة و تركوه لوعده باعتزال نهائي للسياسة تاركا الساحة بالكامل لاتباع إيران !
    .
    وهو الأمر الذي لم يحلم به هؤلاء في اجمل أحلامهم جموحاً

  6. يقول Zahi El Mahboub:

    ‏من يومين كان يقول لمناصريه لا تتركوا البرلمان ولا المنطقة الخضراء ..اليوم يطلب منهم الانسحاب والا التبرؤ منهم !!!
    ‏ما الذي دفع الصدر الى هذا!!

اشترك في قائمتنا البريدية