الانتخابات التشريعية الفرنسية: الزمن الثوري

«إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد لليل أن ينجلي، و لا بد للقيد أن ينكسر» قد يستغرب القارئ من كتابتي سطور شاعر الثورة التونسية في مناسبة انتخابات تشريعية فرنسية سابقة (جدا) لأوانها. لكن الزمن زمن ثوري بكل تأكيد.
وهنا يجب أن ننتبه جيداً. أولا بالتوقف عند التعريف الأصلي للثورة. أجل، فالثورة تعني أولا «القلب والقولبة» اللذين قد يوصلان إلى القلب رأسا على عقب، أي التغيير الجذري.
وهنا تكمن الإشكالية. إشكالية القلب والقولبة الكاملين القائمين على مقولة «فلنجرب من لم نجرب» تلك المقولة التي نسمعها منذ سنوات لدى شريحة من الفرنسيين تنتمي أكثرها إلى طبقة شعبية مغلوبة على أمرها تعتبر أن حكومات ثنائية «يمين – يسار» التقليدية المتعاقبة زادتها غلبة.
هذا الصوت، قلائل هم من بحثوا في جذور تعاليه وأسباب انتشاره. وأكثر من بحثوا فيه هم المراقبون – المحللون، وليس المسؤولين السياسيين، ما جعل المحلل يقوم مقام السياسي في خوض استشراف استباقي محكم المحاور قويم البنيان كان منتظرا من السياسي أصلا.
من بين هؤلاء المحللين، الباحث الفرنسي في العلوم السياسية جيروم فوركيه الذي نظر لمفهوم «أرخبيل» المجتمع الفرنسي أي تشرذمه إلى «جزيرات» تعكس انكفاءات وتقوقعات كل فيها ثابت على موقفه في «جزيرته» وفق توجهه الأيديولوجي المعين ورؤيته المحددة للعالم نتيجة تماسك اجتماعي يزداد هشاشة.
يعد فوركيه من القلائل الذين يتحدثون بوضوح العبارة عن اعتداءات على سائقي الحافلات والصيدلي ورجال المطافئ واعتداءات يرتكبها قاصرون في وجه قاصرين آخرين، كما يعد فوركيه من القلائل الذين يذكرون أن مثل هذه الأحداث مدار أحاديث الناس أمام مكينة القهوة، في أوراش العمل، في المكاتب، في الأندية الرياضية…
وتصل تحاليل فوركيه إلى نتيجة يمكن اختصارها في المقولة الثانية: عدم استجابة الثنائية يسار ـ يمين التقليدية لوجهي مرافعة الطبقة الشعبية التقليدية: المطلب الاجتماعي والمطلب الأمني، ما بعرض التماسك الوطني لخطر غير مسبوق.
من هنا، بدأ يتجذر العرض السياسي لحزب التجمع القومي الذي دأب على «تنظيف» صورته بطريقة أدت إلى تعميم ما سمي بخطة «نزع الشيطنة» التي تستهدف أن يظهر الحزب في مظهر «الحزب العادي» وقد حقق ذلك إلى حد كبير، بل إلى حد مطلق إذا أخذنا كمقياس الطبقة التي يخاطبها.

اتصالات التجمع الوطني بأرباب الشركات الكبرى عمل ضارب جذوره في ماض بعيد، وما تعهد بارديلا بإجراء فحص شامل على الموازنة بعد تعيينه رئيسا للوزراء سوى إشارة قوية موجهة إلى أرباب الشركات بتنفيذ سياسة تقشف

والطبقة التي يخاطبها، والتي كسب غالبية أصواتها خلال الانتخابات الأوروبية، طبقة دون قاعدة إيديولوجية متطرفة، ويرى كثيرون، وفوركيه منهم، أن تصويتها انتقال من تصويت كان يذهب تاريخيا إلى الحزب الشيوعي.
والمرجع مرجع قديم: الإخفاق في توزيع الثروة. سيواصل المسؤولون السياسيون التقليديون التحجج بل الاقتناع بأن سياسات الدولة المانحة المعروفة بدولة الرفاه (Welfare State) أعقبت السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية لتتجسد في سلسلة من الإجراءات رسمت خريطة طريق حكومات.
ويمكننا مواصلة الحديث مدرجين في المعادلة تدني معدلات البطالة وارتفاع حجم الاستثمارات وتطوير أنظمة الضمان الاجتماعي بأنواعها… وما سوى ذلك من الإجراءات المحفزة التي اتخذتها حكومات البلدان المتقدمة على اختلاف ألوانها. وفرنسا أخذت نصيبها من هذه التحفيزات.
لكن تبقى مشكلة أساسية وهي أن حكومات هذه البلدان لم تنجح في تحقيق العدالة الاجتماعية التي تمر عبر العدالة الاقتصادية. ولأنها لم تفعل فهي لم تستطع فهم الشعب والشعب لم يستطع فهمها ولا استطاعت هذه الحكومات الانسجام مع تطلعاته ولا تطبيق مبدأ التوزيع العادل للثروات بصورة تحدد ملامح إجرائية لخريطة طريق تتناغم عبرها «حكومة» و«خدمة».
حينها، يمكن إعادة النظر في الثنائية الاقتصادية التقليدية التي تكرس شرخا بين الاقتصاد المسير والرأسمالية، لأن السياسة الاقتصادية العادلة لا تجعل من توجهيها التقليديين خيارين أيديولوجيين بل وجهين لعملة واحدة تنتج الثروة حسبما تستدعيه الظروف.
كل من التأميم والخصخصة لهما ما يبررهما عمليا وليس أيديولوجيا. بعبارة أخرى، يكون مطلوبا من الشركات المتوسطة والصغرى التي تحقق أرباحا أن تنفذ سياستها التحفيزية، أي أن تعيد توزيع الثروات على مستحقيها الأوائل: أجراؤها.
وعندما تفلس شركة أو تكون على شفا الانهيار، أو تسير على الاتجاه المعاكس للأسبقيات الاقتصادية المنتظرة منها وعلى رأسها تقديم خدمات أولية للمواطنين، كالشركة الوطنية للسكك الحديدية مثلاً، يجوز بل يجب التأميم.
لكن المشكلة أن لا التأميم ولا الخصخصة يضمنان توزيعا عادلا للثروات. وهنا قد نسأل أين الشعب؟ ألم نقف عند حد لغة الحسابات والأرقام معرقلين المصلحة العامة؟
اليمين المتطرف الباحث عن تحقيق المكاسب سيحتاج كأي حزب آخر إلى التحدث بلغة غير لغة الشعب مهما كان يجيدها! سيحتاج إلى التحدث بلغة أرباب العمل، عصب الإنتاج الاقتصادي، وقد بدأ فعلا.
فاتصالات التجمع الوطني بأرباب الشركات الكبرى عمل ضارب جذوره في ماض بعيد، وما تعهد بارديلا بإجراء فحص شامل على الموازنة بعد تعيينه رئيسا للوزراء سوى إشارة قوية موجهة إلى أرباب الشركات بتنفيذ سياسة تقشف. هنا، في مدار بارديلا وفريقه مجموعة «أفيب» وهو تجمع لشركات يعادل مجموعة ميديف الشهيرة وقد دعا «أفيب» إلى تبني «المسؤولية التقشفية» بعد انحدار لمؤشرات البورصة وصل إلى 6.7 بالمئة.
لقد دخل التجمع الوطني استراتيجية التلميع فاعتمد منذ زمن بعيد لغة الشعب كاستراتيجية تواصلية.
لكن شتان بين أن تحسن التحدث بلغة الشعب و أن تصل إلى سدة الحكم، خاصة عندما لا تملك أي تجربة.

باحث وإعلامي فرنسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الدكتور جمال البدري:

    أستغرب للخشية من وصول اليمين الفرنسيّ إلى الحكم…وهل كان الحكم في فرنسا في العصر الحديث إلا يمنيًا متطرفًا؟ حتى الرئيس ديغول؛ رمز الاعتدال بعدما قاد فرنسا ضد النازيّة بمساعدة الدول الغربيّة؛ كان يهنيء القادة العسكريين الفرنسيين حينما يوغلون بقتل الجزائرين.بل قلّد وسامًا لقائد شرطة باريس لقضائه على مظاهرة سلميّة في باريس للجالية الجزائريّة وذلك في أكتوبر1960.التطرف السياسيّ هو الحاكم لأوربا بعد الحرب العالميّة الثانيّة حتى اليوم…مع هامش لغير الأحزاب اليمينيّة{ هكذا } كجزء من اللعبة { الديمقراطيّة } الظاهرة للنّاس؛ ولا نقول الكاذبة من
    الأساس.

اشترك في قائمتنا البريدية