الانتخابات العراقية وإيقاع الشارع

كان يا ما كان في قريب وليس قديم الزمان، ثمة شاعر وكاتب عراقي قدير يواظب الجلوس في المقهى ليدلو بفكرهِ للناس، وقد سُميت المقهى لاحقاً بإسمهِ، ومِمَا راج في تلك الفترة نظرية التطور لـ « تشارلز داروين » وما أعقبها مِن جدل كبير بل وقيل عنها ما لم يقلهُ صاحبها المهم فأخذ كاتبنا العراقي المخضرم يشرح لجمهور المقهى أبعادها ومرتكزاتها وماهي الأدلة التي تعضدها وبطبيعة الحال الأدلة التي ترفضها وتعارضها، هنالك كاتب مغمور في المدينة ذاتها مُستاء من تألق الشاعر والكاتب، بينما هو لم يجنِ من حرفتهِ إلاَّ الخيبة والخسران فذهب لأحد فحول العصابات مِمَن يُعرفون بعنجيتهم وبلطجيتهم ولا يتكلم إلاَّ ويهز بيدهِ العصا وقال لهُ : إنَّ فلانَ يقول إنَّ أهلك وأجدادك كان أصلهم قرودا، ومن البهارات المعروفة في مِثل هكذا حديث هل تقبل يقول عنكم مثل هكذا كلام وإذا بصاحب العصا تنتفخ أوداجه ويحمر وجه أين هو ؟
قل لي أين هو الآن؟ فأنتصب واقفاً أمامهُ في المقهى يفتل بيده اليمنى شاربه ويهز العصا بالشمال سمعت أنكَ تتكلم للناس عن أهلي وأجدادي وتقول أنهم قرود ! هل صح ما سمعتهُ عنك؟ فأجابهُ مفكرنا الذي لا يمتلك إلاَّ فوهة القلم بمنطق شاعر:
بس على كيفك يا ولدي ولا تتعصب ترى أنا ما قصدت أباك ولا جدك إنما قصدتُ أبي وجميع أجدادي.
وكما يبدو أننا دائما وأبداً بحاجة لمثل هكذا جواب خصوصاً أنَّ الإمتيازات في زماننا صارت بمليارات الدولارات وليس تصفيق وإطراء على قصيدة عصماء فما نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» بعددها الصادر بتاريخ 29 \ 7 \ 2020 م من تقرير مفصل وصادم عبر كاتبها روبرت ف. وورث Robert f. Worth يضعنا أمامَ مفترق خطير إن لم يكنْ قد دخلنا في مرحلة الإنزلاق الفعليَّة فقد أشار التقرير إلى أنَّ من 125 ~ 150 مليار دولار يمتلكها عراقيون في الخارج مُعظمها تم الإستحواذ عليها بشكل غير قانوني وبعض التقارير تُشير إلى أنَّ حجم الإختلاس يصل إلى 3000 مليار دولار !

لغة الأرقام

طبعاً أنا أراعي مشاعر الذين يسكنون في العشوائيات والأكواخ من لغة الأرقام المُرتفعة فلم يعد حديثنا مقتصرا على حفنة من الدراهم والدنانير والتي كانت في حينها تصنع دولا وحضارات رغم نسبتها الزهيدة بل تطورت لمرحلة المليارات في السرقات والإختلاس، أما الإنتاج والعطاء فتقهقر للجهة المعاكسة لا كهرباء لا ماء ناهيك عن الإرتباك الأمني بين الحين والآخر.
وهنا أصبحنا أمام مشهد مُضطرب بكافة أبعاده وإذا ما اتجهنا في بوصلة تصحيح مسار العملية السياسية لا أن نكتفي بمنطق النقد وكيل الإتهامات حيث باتت لغة الجميع بمن فيهم أصحاب العقارات الملياريَّة المُختلسة ولنبدأ بالدستور وما فيه من قوانين الإمتيازات المفرطة بحيث أنَّ مَن يتقن حرفة الوصول على أكتافِ الكادحين فمكنتهُ موازنات العملية السياسية سيئة الصيت كي يجني من المكتسبات والأرباح بفترة وجيزة ما يتعذر الحصول عليها في دول صناعيَّة كبرى فضلاً عن خلق فجوة كبيرة بين أبناء المجتمع في السلم الوظيفي، وتلك القوانين تساعد أن يكون المنصب مكسبا، صحيح أن الإمتيازات تساهم في صنع الإبداع لكن بشروط وغير متوفرة في المشهد العراقي، أما ما يؤخذ مِن تحت الطاولة فتلك مصيبة كبيرة مِمَا لا تتحمله الطاولة ذاتها.
المنزلق الخطير إنما يكمن في نقطة جوهرية واحدة في العراق لا غير ألا وهي الانتخابات فرغم أنها عملية ديمقراطية بل وأفضل ما أفرزتها الفلسفة الحديثة حيث ساهمت بتقدم الدول وتربعها على أفضل حياة للفرد من كافة المجالات لكنها في العراق باتت النقمة الأكبر، وذلك من مهازل القدر لأنَّ الوصوليين والطامحين للإستحواذ غير الشرعي مُطمأنين بوصولهم لسدة الحكم من خلال دغدغة المشاعر العاطفيَّة والبعبع الطائفي جاهز متى ما أرادوا إخراجه من الطامورة.

ملفات ساخنة

والأسف الشديد على بعض المحسوبين على نخبة البلد الفكريَّة فتجدهُ في مكان إعلامي مرموق ومحل ثقة وإطمئنان لما يقدمه من ملفات ساخنة لكنهُ سرعان ما يتخلى عن وظيفة صوت الجمهور وينضم إلى فئة الطبقة الحاكمة، وهذا السلوك أحدث هزة كبيرة في ثقة المجتمع تجاه الطبقة الفكرية صحيح أنَّ السياسة ينبغي أن تُبنى على سوء الظن لكن في المجالات العلمية الأُخرى فلهي طامة كُبرى لأنها تُساهم بفقد الثقة.
بدأت تسريبات حول إجراء إنتخابات بفترة قريبة بل وحتى تصريحات خجولة وهذا مؤشر جيد لكن مَن يضبط إيقاع الشارع وتوجيه الناخب للمكان المناسب لا لأصحاب الصفقات والإختلاسات المهيأة مُسبقاً وماذا عن الإنفلات وعدم الإنضباط والعدد المهول في الكيانات المسلحة، ثمة ملفات كثيرة نحتاج حلحلتها واحدا واحدا.
الانتخابات ضرورية على وجه السرعة لإنقاذ ما تبقى من الوطن بشرط حماية الصندوق والناخب ولتدول العمليَّة دوليَّاً لا تتفاءلوا كثيراً بالأصوات المرتفعة حديثاً، فالإفراط في التفاؤل ربما ينتظره الإحباط الكبير وركزوا على برامج المرشحين ومدى وطنيتها لا جهويتها وحزبيتها، واعلموا أنَّ التطرف مذموم في كل شيء إلاَّ في حب الوطن فإنه من الإيمان. الطريف بالأمر أن صاحب (العصا) صار فصائل متنوعة ومتعددة وذات توجهات وأيديولوجيات خطرة وما أن تكتب كليمات بسيطة لإنقاذ ما تبقى من البلد حتى يقوم بفتل زعانفه المفتولة لأنها تطورت مع مرور الزمن من الشوارب الناعمة، وخير شاهد ما وقع على أحد أيتام العراق، وكيف أُهين من قبل جهة أمنية ينبغي أن تكون أمينة في تصرفها ومهنيتها بل وبطريقة تجلب الغثيان للناظر، وما ذلك إلاَّ للمشاركة بمظاهرات سلمية تطالب بأبسط الحقوق ألا وهي الكهرباء في موسم الحرارة الجنونية، ولم تعد الأجوبة الشاعرية تنفع معهم، كي نقول لهم يا عمي ترى ما نقصد إلاَّ أهلنا وأجدادنا لا أهلكم وأجدادكم لأنَّ عصاهم صار يمطر وابلاً من الرصاص والأشد خطراً ورعباً أن الرصاص لا صوت له إلاَّ في أجساد الغلابة من النبلاء.

كاتب من العراق

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    هل نلوم الشعب على اختيار السياسيين الفاسدين؟
    أم نلوم القضاء على خوفه من التصدي للطغاة الفاسدين؟
    أم نلوم الجهل والخرافات والخزعبلات؟ ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول ميثم التمار الانصاري:

    احسنت سبب دمار العراق احزاب الخراب والمؤسسه الدينيه وجهل الشعب اغلب الشعب لديهم جهل مركب تعبد بشر انتها دكتاتور لعين دمر العراق جاء الف دكتاتور

اشترك في قائمتنا البريدية