الانتخابات النصفية الأمريكية الثوابت والمآلات

حجم الخط
0

انتهت أول عملية انتخابية في عهد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بفوز الحزب الديمقراطي بأغلبية ساحقة في مجلس النواب، وبقيت الهيمنة على مجلس الشيوخ للجمهوريين، الأمر الذي أزعج الرئيس وبدت ملامح الصدمة على وجهه، والصدمة جاءت بعكس ما تمناه، وذلك لأنه كان يمني النفس بالفوز بالكونغرس بشقيه الشيوخ والنواب، لأنه يعتقد أنه الرئيس المتميز بسياساته وتصوراته لقيادة العالم، وما عزز الصدمة فوز نائبتين من أصول عربية مسلمة.

الثوابت بالانتخابات الأمريكية

قد يقول قائل: إن العلاقة بين الانتخابات في الولايات المتحدة، وبين السياسة الخارجية لها، ليست بهذا الدور، ولذلك، فلا يعقل أن تتأثر إلى هذا المستوى بالنفوذ الصهيوني، ويقول آخر: إن المصالح الأمريكية والمطامع الإسرائيلية متطابقة، والنتيجة الطبيعية لهذا التطابق، أن تضع أمريكا ثقلها الاستراتيجي تحت تصرف إسرائيل، يذهب ثالث إلى أبعد من هذا بكثير فيقول: إن إسرائيل امتداد للولايات المتحدة في المنطقة وشرق أوسطية. وتذهب آراء إلى التحديد أكثر في ذاتية العلاقة التي خططها وكتب حروفها قدماء الصهاينة في الولايات المتحدة لدرجة أن الأمريكيين في الحاضر يتطلعون إلى دعم إسرائيل وكأنه واجب ثقافي وروحي، نتيجة التأثير الكبير للتغلغل الصهيوني في ميادين الحياة الأمريكية. والحقيقة لست ميالا للبحث عن عناصر تؤيد هذا الرأي دون ذاك، أو الأخذ بقول ورفض الآخر لأنني مقتنع تماماً بأن مسألة الابتعاد أو الاقتراب من رؤية الواقع كما هو فعلاً مسألة نسبية، وربما تكون نوعية العلاقة التي نبحث عنها ونفتش عن جذورها والأبعاد التي تتضمنها مراحل تطورها، ربما تكون هذه العلاقة شاملة لأي قول، إلا أنها من غير المنطقي أبدا أن تكون مبنية على تطابق المصالح الأمريكية مع المطامع الصهيونية ضد العرب. أو أن إسرائيل امتداد لأمريكا في هذه المنطقة.
إن هذين القولين لا يُقر بهما العلم ولا المنطق ولا حتى مصالح الدولة الأمريكية، ولا قانون العلاقات بين الدول، وميثاق الأمم المتحدة، وأيضا تتنافى عملية التطابق والامتداد مع دستور الولايات المتحدة، ونصائح الرئيس الأول لأمريكا جورج واشنطن المتمحور حول مسألة العلاقة مع « الدولة المفضلة ».
وعلى هذا الأساس ينبغي القول إن إسرائيل لم ولن تكون كنزاً استراتيجياً أو ذات قيمة استراتيجية لأمريكا، وعلى امتداد تاريخها الطويل في العلاقات مع دول العالم، لم تتحدث مؤسسات الرأي الأمريكية، ولم يصرح أحدٌ من مسؤولي البيت الأبيض والمؤسسات التابعة له، بمثل ما قيل عن العلاقة الأمريكية – الإسرائيلية علماً أن دولا كثيرة تربطها بأمريكا علاقات تحالفية، ولهما مصالح متشابهة في أغلب الجوانب، وأمريكا الحضارية وفي مناداتها بالسلام والعدل الدوليين، وقولها بالديمقراطية وحقوق الإنسان، تجد في تاريخ كثير من دول العالم شبيهاً أو تطابقاً مع هذه المناداة وذلك القول، إلا أن التناقض الصريح ليس بين مصالح الولايات المتحدة ومطامع إسرائيل وحسب، بل بين ما تسميها أمريكا ركائز لسياستها العالمية، وبين حقيقة السياسة الإسرائيلية. ومع هذا فالعلاقات الأمريكية – الصهيونية على ما هي عليه من ترابط وتحالف وتشابك.
هنا لا بد من تساؤل يفرض نفسه على البحث بقوة، هو: بما أن الأمريكيين يعرفون تماماً أن مصالح أمريكا ليست في تمتين العلاقات مع إسرائيل، وأن التناقض غير مشكوك فيه، بين أطر وثيقة الاستقلال الأمريكي وما أوصى به «أبو الأمة » جورج واشنطن، وبين ادعاءات حكام إسرائيل وقرار إعلان إقامتها، وبما أن التاريخ الصهيوني قائم بالفعل على العنصرية والخرافة والإبادة ورفض العدل والسلام الدوليين، ومتناقض مع ميثاق الأمم. ترى من أين الترابط المحكم بين السياستين الأمريكية والصهيونية في المنطقة ؟ وكيف تقبل على نفسها دولة عظمى لا بل أقوى دولة في العالم، ربط قرارها بإرادة التوسع والعدوان الصهيونية ؟ وكيف ترضى هذه القوة العظمى الخضوع لإرادة الدولة الصغرى ؟ والولايات المتحدة تعرف أكثر من غيرها أن مصالحها ليست واقعة ضمن منطقة أي خطر، لولا دعمها غير المحدود لعدوانية إسرائيل ولولا التزامها المطلق بما تريده إسرائيل.

الخطر على المصالح الأمريكية

وإذا ما افترض تواجد مثل هذا الخطر، فإنه لمن الثابت ميدانياً ومنطقياً وتعاملاً مع الواقع والتاريخ إن إسرائيل لا تحمي مصالح أمريكية، بل تشكل خطراً على هذه المصالح، نتيجة تصعيد العدوان وحدة التوتر وتهديدها أمن المنطقة وسلامها. ولو كان الطرف الآخر الذي تزدحم المصالح الأمريكية في منطقته – قادراً على التعامل مع العدوان والقوى الداعمة له، وفق أعدل القوانين الوضعية، لتبين بالوضوح كله، أن إسرائيل هي التي تشكل خطراً وعبئاً على المصالح الأمريكية، وأي أمريكي يدافع عن عملية الترابط بين المصالح الأمريكية، ومطامع إسرائيل سيجد نفسه مجرداً من أي عامل إقناع، وسيكون دفاعه غير منتج، وبتقديري لولا التغلغل الصهيوني إلى أكثر المسائل حساسية في الإنسان الأمريكي، لما قبل المسؤول، ولا المواطن الأمريكي فكرة التطابق بين المصالح الأمريكية، ومطامع الصهيونية، ولما رضي بوجود الدولة المفضلة. وإذا كان لا بد منها، فمن الضروري، لا بل من الواجب الوطني والاقتصادي والفكري وحتى الروحي أن تكون هذه الدولة غير إسرائيل ولا يمكن أن يتقبل أي شعب قيمة روحية مبنية أساساً على الاغتصاب، فكيف هي الحال بالنسبة لشعب متحضر ومتطور، وهو في ذروة القوة والتوحد في قوته على خريطة العالم، كيف يقبل أن تكون قيمه الروحية مبنية على خرافة ابتدعتها الصهيونية العالمية، مبرهنة من خلالها على عنصريتها، كيف يقبل الشعب الأمريكي المتحضر قيماً مبنية على خرافة: « لنسلك أعط هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير في الفرات»؟.

استمرار الدعم والمآلات

الرئيس الأول جورج واشنطن، وفي نص خطابه الوداعي يحذر من التمادي في خدمة الدولة المفضلة، ومن يقرأ مضابط مجلس الشيوخ اليومية، يجد في حاشية مضبطة الكونغرس 21 كانون الأول /ديسمبر1982 نهاية فترة المجلس رقم 97، نصاً من خطاب واشنطن مودعاً أمته، والنص تضمنه خطاب بول ماكلوسكي عضو كونغرس سابق، في وداعه لمجلس الشيوخ بعد استمراريته فيه 15 عاماً، يقول النص: إن تعلقاً انفعالياً لدولة بدولة أخرى يؤدي إلى عديد من الشرور، فالتعاطف مع الدولة المفضلة يسهل السقوط في وهم الاعتقاد بوجود مصلحة مشتركة متخيلة، وفي بعض الحالات، حيث لا تكون هناك مصلحة مشتركة حقيقية، وحيث تخلط الدولة عداواتها بعداوات الدولة الأخرى، دون حيثيات أو تسويفات كافية، ويؤدي هذا إلى تنازلات تقدم إلى الدولة المفضلة، وإلى امتيازات تحرم منها الدول الأخرى الأمر الذي يؤدي إلى أذى مضاعف للدولة التي تقدم هذه التنازلات عن طريق التخلي بلا ضرورة،عندما كان ينبغي الاحتفاظ به، وإثارة الغيرة وسوء النية، وخلق استعداد للانتقام لدى الأطراف التي منعت عنها المساواة في الامتيازات، كما أنها تعطي لمواطنين طامعين أو مرتشين أو ضالين – يكرسون أنفسهم للدولة المفضلة – سهولة خيانة مصلحة بلدهم، أو التضحية بها بدون شعور بالخزي، وفي بعض الأحيان، فإنهم يكسبون شعبية من وراء ذلك… إن الغزو الأجنبي هو أشد خصوم الحكومة الديمقراطية… إن المواطنين الحقيقيين الذي سيقاومون ألاعيب الدولة المفضلة، قد يتعرضون لأن يصبحوا مشبوهين مشكوكا بأمرهم.
علق ماكلوسكي على نصيحة واشنطن قائلاً: إن هذه النصيحة، التي يرجع تاريخها إلى عام 1796 تبدو سليمة تماماً اليوم، ففي غضون أعمارنا، رأينا بلداناً كانت أعداءنا فأصبحت أصدقاءنا والعكس، حيث لا يزال الاستمرار تجاهل النصيحة. وترامب يكرّس ذلك بتجاهله الحقوق المشروعة الفلسطينية، حيث أصبح أكثر الرؤساء طاعة للرؤية الصهيونية، حيث كرّس ارتباطاً انفعالياً بدولة إسرائيل واعترف بالقدس عاصمة أبدية للكيان الصهيوني، وسارع إلى نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس في سابقة هي الأولى منذ الصراع العربي – الإسرائيلي.
أحذركم من التمادي في خدمة الدولة المفضلة، طبعاً لم يقل جورج واشنطن صاحب هذا التحذير، ما قاله في خطابه الوداعي للعمل السياسي عام 1796 إلا بعد أن سبر أغوار التغلغل اليهودي داخل أمريكا، واطلع على نوايا اليهود، وأدرك ماذا يريدون من القوة الأمريكية المرتقبة، وماذا يفعلون لتحقيق هذه الإرادة.
جاء اعتراف واشنطن ليتوج التعبير الأمريكي عن التعب العسكري والسياسي والروحي والاقتصادي والأخلاقي الضاغط على شعب أمريكا ومؤسساتها وهيئاتها، بسبب ضغوط اليهود ومطالبهم، جاء ليقول بصراحة، لقد مللنا التعب وكفانا صمتاً على التدخل بشؤوننا الداخلية والخارجية، عندها أعلن بوضوح، كفى لقد أصبح الأمر مملاً، أن تجد أكبر قوة في العالم، هي الولايات المتحدة، أن سياستها في الشرقين الأوسط والأدنى تُملى بوساطة إسرائيل.
وعلى الرغم من هذا كله، فقد قال هنري كيسنجر: يساورني القلق على ولدي، إذا شب كيهودي في أمريكا… وكيسنجر نفسه يدرك مدى التغلغل اليهودي في أمريكا، ويعلم يقيناً حجم التعب الضاغط على شعب أمريكا، ومع هذا فهو قلق على ولده ! لماذا ؟ لأنه قرأ من بعيد خطورة الخلل في جدار العلاقة القائم على ركيزتين غير متكافئتين في الأخذ والعطاء ويقولها بوضوح: على اليهود أن يبحثوا عن قوة عالمية، قد يكون حضورها الفعال قريباً على الساحة الدولية.

 كاتب وباحث سياسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية