الانخراط الاستراتيجي الأمريكي: المآرب الظاهرة والخفية

عملت الاستراتيجيات الأمريكية على توظيف المنطقة في إدارة صراعاتها الدولية، وربط سياسة الدول العربية بالحفاظ على أنظمتها السياسية. وكان العنصر المهم في كل ذلك ضمان المصلحة الأمريكية بدرجة أولى وتأمين أركان المشروع الصهيوني. لقد اتضح هذا المسار بعد حرب النكسة عام 1967 التي تم استغلال نتائجها لفرض الكيان كجزء من البناء الإقليمي للمنطقة، وبداية السعي الأمريكي الإسرائيلي نحو تعميق هذه الجزئية المفصلية في تاريخ الصراع العربي مع الكيان الصهيوني، من خلال تشريع الوجود الإسرائيلي عبر المعاهدات والاتفاقيات التي عُنوِنت على أنها «اتفاقيات سلام».
الولايات المتحدة الأمريكية التي لم تكتف بشن حملة إبادة جماعية ضد السكان الأصليين خلال تدشينها كجمهورية فتية، بل إنها دعمت منذ ذلك الحين مجموعة من الديكتاتوريات الوحشية، وتدخلت لإحباط العمليات الديمقراطية في العديد من البلدان، وخاضت أو دعمت حروبا قتلت الملايين من الناس في الهند الصينية وفي جمهوريات أمريكا اللاتينية وفي الشرق الأوسط. وفي أثناء كل هذا ادعت زورا وما زالت، أنها تدافع عن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وغيرها من المثل العليا العزيزة. تلك الادعاءات ليست سوى هراء بتوصيف تشومسكي وروبنسون.
مع نشوء اتّحادات سياسية، عسكرية واقتصادية، تجد الولايات المتحدة صعوبة في أن تهضم حقيقة تراجع تفوّقها المطلق في المجال الاقتصادي، وكذلك المجال العسكري. ولا يهم واشنطن أن تستنزف أوروبا في معركة تخرج منها بحصيلة اقتصادية من شأنها التقليل من مشاكلها الداخلية، ضمن استحقاقات المنافسة العالمية مع الصين وروسيا. ومآلات الموقف الأمريكي من الصراع الروسي الغربي اليوم تؤكد ذلك. في النهاية، الأزمة التي بدأت في أوكرانيا منذ 2014، جاءت نتيجة للعقلية الغربية التي تؤمن أساسا بأنها تمتلك العالم، ويمكنها إخبار الدول الأخرى بما يجب القيام به. ومن الجيد حاليا أن تتفادى أمريكا عبر حلفها الأطلسي الاصطدام مع دولة نووية عظمى مثل روسيا، وأن يغير دونالد ترامب من لغة التصعيد إلى البحث عن صفقة مع فلاديمير بوتين. المنطق الدبلوماسي السليم: «تريد مني أن أقول أشياء فظيعة عن بوتين ثم أقول له، مهلا فلاديمير ماذا عن صفقة؟». ما صرّح به ترامب هو شيء بديهي في التعامل السياسي زمن الحرب والتفاوض، ولكن كثيرا ما نسيت المؤسسة الخارجية والأمنية الأمريكية، أن مسؤولية ما حدث تقع أساسا على عاتق الولايات المتحدة الأمريكية بالنظر إلى تصعيد الأزمة والبحث عن الاستنزاف في مرحلة ما. فهل أن ترامب سيصلح ما أفسده أسلافه، على قاعدة أن لا شيء ثابت، وأنّ هناك تغييرا جذريا في السياسة والاستراتيجية الأمريكية مع الأعداء، كما مع الأصدقاء والحلفاء؟
كل الدول في النظام الدولي الحالي تسعى لامتلاك القوة، من أجل منافسة الدول الأخرى، بل يتمثل هدفها الأساسي ليس فقط في تعظيم قوتها، وإنما منع الدول الأخرى المنافسة من امتلاك القوة، أو على الأقل استنزافها والتقليل من قدراتها. الحقيقة البارزة اليوم، هي أنّ صلاحية مؤسسات القطب الواحد، وعصر الأمركة قد تلاشى. وهو في اندحار بارز. ومع ذلك يبدو أنّ الهيمنة الأمريكية ستستمِـر في إثبات أنّها لا تزال موجودة، بأشكال مجنونة ونرجسية انتحارية ربما. انسحاب أمريكا من الشؤون العالمية واضح، والعالم يتحول نحو التعددية القطبية. ورغم تاريخها المشؤوم الذي يشهد على حجم هائل من الجرائم والانتهاكات، ما زالت هذه الدولة تتفاخر بمبادئها الديمقراطية وثوابتها الإنسانية ومواقفها المناهضة للاستعمار والتدخل الخارجي. رغم أنها مارست التوسّع بشكل مفرط، وطموحها الإمبريالي جلي عبر قواعد وأشكال مختلفة لعلّ أبشعها استخدام القوة المفرطة خارج معايير الأمم المتحدة والمعاهدات الدولية. مثلما فعلت في حرب فيتنام ويوغسلافيا والعراق وأفغانستان وغيرها. وهي تتناسى أنّها أكبر داعم لكيان استعماري فاشي واستيطاني، يستولي على فلسطين، ويقتل الأسرى والأبرياء من المدنيين. ويمارس كل الانتهاكات العنصرية التي شاهدها العالم في حرب الإبادة على غزة.

كل الدول في النظام الدولي الحالي تسعى لامتلاك القوة، من أجل منافسة الدول الأخرى، بل يتمثل هدفها الأساسي ليس فقط في تعظيم قوتها، وإنما منع الدول الأخرى المنافسة من امتلاك القوة

هل نشهد عصرا جديدا من الزعامة المشتركة؟ من الطبيعي أن يفسح النظام العالمي المتحوّل الطريق لمزيج متنوّع من النزعة القومية الحمائية، ولمجالات النفوذ والمشاريع الإقليمية للقوى الكبرى. فالأعراض المرضية للنظام الليبرالي الغربي يقابلها النشاط المتزايد للقوى الصاعدة. ثمة الكثير مما لا يمكن التنبؤ به، لكن الأكيد أنّ العالم يشهد مرحلة تحوّل غير مسبوقة.. لقد انفتحت هوّة هائلة في الثقة عبر الأطلسي، وهو أمر سيئ لاستعراض القوة العالمية لواشنطن وصورتها كقوة مهيمنة محمودة، وربما يكون كارثيا للتماسك عبر الأطلسي وحيوية حلف شمال الأطلسي. في ثنايا هذه الواقعية تساءلت «فورين أفيرز»، هل يحاول ترامب تنفيذ «عكس ما فعله كيسنجر»، من خلال إغواء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حتى يتخلى عن «زواجه» من الزعيم الصيني شي جين بينغ، وإقامة تحالف غير مقدس مع الولايات المتحدة؟ لقد أدخلت إدارة ترامب مشكلة ثقة أساسية، فللمرة الأولى، يشعر القادة الأوروبيون بعدم اليقين، بشأن ما إذا كانت الولايات المتحدة لا تزال ملتزمة بحلف شمال الأطلسي والدور القيادي الأمريكي فيه.
الأحداث في أوكرانيا التي لم تنجح دول أوروبا في حلّها وانتظرت تدخل الولايات المتحدة الأمريكية بعد أن كانت موسكو على بعد خطوات من احتلال العاصمة كييف، تُذكرنا بشكل قاتل بالأحداث التي وقعت قبل ثلاثين عاما، عندما دفعت الحرب الدموية في البوسنة أوروبا إلى إعلان «ساعة أوروبا»، التي لم تسفر عن أي شيء. ولم يتم وضع حد لهذه الحرب وتحقيق السلام، إلا من خلال التدخل السياسي والعسكري النشيط من جانب الولايات المتحدة، من خلال اتفاقيات دايتون في عام 1995.
يتعين على القوى الأوروبية أن تثبت قدرتها على تحمل عبء أكبر، يعزز القوة الجماعية للتحالف، وتبحث عن نوع من الاستقلالية عن أمريكا. فهل في استطاعتها ذلك؟ ربما المهمة شاقة خاصة مع قادة أوروبا الحاليين، لأنّ واشنطن أوصلتهم إلى عمق غابة مجهولة، وتركتهم دون دليل. يبدو أنّ توقع الدبلوماسي ريتشارد هولبروك قبل ثلاثين عاما سيصدق، ومفاده بأن أوروبا سوف تظل في القرن الحادي والعشرين في حاجة إلى المشاركة الأمريكية النشيطة، التي كانت عنصرا ضروريا في التوازن القاري لمدة نصف قرن.
كاتب تونسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول فصل الخطاب:

    هه أمريكا هي الشر المستطير الذي يتهدد الشرق الأوسط التعيس يا بئيس منذ 1948 حقيقة مكشوفة ومفضوحة من عصابة البيت الأسود الصهيوني الأمريكي التي ترسل اسلحتها القذرة لإبادة شعب فلسطين ✌️🇵🇸☹️☝️🔥🐒🚀

اشترك في قائمتنا البريدية