تستلهم رواية «الملكة خناثة» للكاتبة المغربية الراحلة آمنة اللوه، التاريخيَّ لحكِيِ روائي، تجربةِ الملكةِ خناثة وحياتِها، وتتفاعل مع سيرتِها وتاريخِها. وهو حكيٌ ينهضُ – في نظرِنا – بإخراجِ الروايةِ من وظيفتِها المرجعيةِ التاريخيةِ، ويطبعها بطابَعِ التخييلِ، ويمنحها سِمَتَها الفنيةَ والجماليةَ، لتَغْدُوَ إبداعًا سرديًّا، لا مرجعا تاريخِيا تقريريا يُقَدِّمُ الأحداثَ كما هي، معتمدا على تدوين أحداث التاريخ وتسجيل وقائعه؛ أي إنها لا تجعل من بلوغ الحقيقة التاريخية هدفا منشودا، وإنما تبقى «عملا سرديا، يرمي إلى إعادة بناء حقبة من الماضي» (سعيد يقطين)، بطريقة تخييلية إبداعية، تستند فيها إلى ممكنات التخييل السردي وتقنياته المختلفة. وللكشف عن ذلك سنقسم هذا المقال إلى إلى محورين، يهتم المحور الأول بتشكل المرجعية التاريخية باعتبارها مادة للسرد في الرواية، بينما يسعى المحور الثاني إلى الكشف عن كيفية صياغة هذه المادة تخييليا.
المستوى المرجعي: الرواية واستدعاء التاريخ
تنطلق رواية «الملكة خناثة» من «الخطاب التاريخي، إذ تتفاعل آمنة اللوه مع التاريخ المغربي وتحاوره، سعيا منها إلى إعادة قراءته من زاوية نظر نسائية. فقد ركزت على إبراز الدور الذي اضطلعت به المرأة في الحياة السياسية المغربية، متمثلة في الملكة خناثة، قرينة المولى إسماعيل، التي تقدم عنها في الرواية خبرا تاريخيا، يتضمن أحداثا توحي بواقعيتها على مختلف المستويات، الزمن والفضاء والشخصيات. فالمتن الحكائي الذي قدمته متجذر في الواقع، مستل من تاريخ المغرب عامة، ويتأطر -خاصة – ضمن فترة من فترات حكم الدولة العلوية، وهي فترة حكم المولى إسماعيل.
تحكي الروايةُ قصة الملكة خناثة، الشخصية الرئيسة في الرواية، التي تزوجها المولى إسماعيل، عقب سفره إلى جنوب البلاد، ونظرا لذكائها واتقاد بصيرتها، بوأها مكانة رفيعة دون سائر زوجاته، اللواتي كن يضمرن لها الحقد والكراهية، ولم يكفُفن عن مضايقتها، والكيد لها، خصوصا لما أنجبت للملك ولدا سمته «عبد الله»، فقد كن يخفن من أن يمنحه ملكَ البلاد دون سائر أبنائه، فحاولن تزويجه من ابنة ملك فرنسا «لويس الرابع عشر»، ولكن خناثة استطاعت أن تحبط محاولتهن تلك، بمساعدة صديقتها «خناس» و»خواجة الترجمان». كما استطاعت أيضا أن تضمن لابنها عبد الله الملك، بمساعدة أخواله من المغافرة، الذين حاربوا العبيد البواخرة، حتى هزموهم فصفا لعبد الله ملك البلاد. وتنتهي الرواية بعودة خناثة من الحج واستقرارها في بيت وضيع في ركن من أركان حديقة القصر، قررت أن تعتكف فيه، وتزهد عن ملذات الحياة وزينتها، ضاربة صفحا عن الحكم والسياسة، ملتجئة إلى ربها بإحرام أبدي.
يتمثل المستوى المرجعي في هذه الرواية في استلهام الساردة للتاريخ، وتقف دليلا على ذلك العبارة الأولى التي تُفتتح بها الرواية «هيا بنا إلى فترة من فترات التاريخ المغربي الحافلة بجلائل الأعمال»، التي تثبت أن آمنة اللوه، تستعيد حكاية جرت أحداثها في الزمن الماضي، وتنتمي إلى عالم حقيقي خارج نصي، ذواته ليست من ورق، وأمكنته واقعية، والزمن الذي تجري فيه الأحداث زمن معلوم ومحدد. وبالتالي فإن الخبر الذي تقوم عليه قابل للتحقق؛ أي أنه يحتمل الصدق والكذب، يتطلب اشتغاله داخل الرواية استدعاء الذاكرة، وتشغيلها، لتنتقل بها الأحداث من الحكاية إلى الخطاب، بواسطة اللغة وممكناتها المختلفة. إن الرؤية المتحكمة في الرواية هي رؤية استعادية لأحداث الماضي، غير أن ذلك لا يعني أن الرواية تكتفي فقط بالنهل من التاريخي، والتحرك في إطار ما يقرره، وبالتالي فهي ليست حدثا تاريخيا خالصا، أو وثيقة من وثائقه، وإنما التاريخ مجرد خلفية، ترتهن إليها الرواية في عملية بناء الأحداث، وتعمل على إعادة تأويله ومساءلته وجعله متطابقا مع الرؤية التي تنطلق منها الساردة، التي تسعى إلى خلخلة اليقينيات المزعومة وزحزحتها، بهدف تشكيل وعي جديد مخالف لما دأبت عليه التقاليد الذكورية، التي «تعطي البطولة للرجل وتمتهن المرأة بمنحها أدوارا ثانوية ودونية، إن لم تكن تأثيثية» (مزوار الإدريسي).
ولم يتسن لها ذلك إلا بعملية تخييلية، تستلهم مقوماتها من الكتابة الإبداعية السردية عامة، والروائية على الخصوص. ولكن كيف تم للساردة هذا الانتقال من التاريخي إلى التخييلي، ومن الواقعي إلى السردي؟ وكيف فقد الخطاب التاريخي في الرواية صدقيته ومرجعيته؟ أو بعبارة أخرى: ما الذي يجعل رواية «الملكة خناثة» لا تصنف ضمن الخطاب التاريخي، وإنما في إطار «الرواية التاريخية» أو «التخييل التاريخي»؟
إن رواية «الملكة خناثة» استطاعت تشكيل المسكوت عنه في التاريخ المغربي وتمثيله، معيدة بذلك قراءة وتفكيك أنساق الخطاب الرسمي الذي شكلته الثقافة الذكورية، التي ارتهنت في قراءتها للتاريخ المغربي إلى تقديس دور الرجل، مهملة بالتالي مساهمة المرأة.
المستوى التخييلي: صوغ التاريخي روائيا
على الرغم من أن آمنة اللوه، بنت روايتها على خبر تاريخي، واستلهمت فيها أحداثا من الماضي، إلا أنه لا يمكننا الادعاء بأنها احتفظت بالحدث كما هو، بدون تدخل في عملية الحكي. وبالتالي فهي لم تحترم السمة التوثيقية للنص التاريخي، الذي يفرض تقديم الأحداث بموضوعية، وكما وقعت، ولم تأل جهدا في التدخل في عملية الحكي، وتزويدها بفنيات الرواية، لتضفي على الخبر التاريخي طابعا تخييليا، يأخذ سَمْتَه من احتفائه بالمقومات الفنية التي راكمتها الرواية على طول تاريخها. كما أنها لم تتعامل مع هذه الأحداث بحرفية، أي لم تنقلها بالصيغة التي تناقلتها بها الكتابات التاريخية، وإنما تعاملت معها «بوصفها ذاكرة قابلة لإعادة التشكيل وفق الاستراتيجية التي [تـُ]رِيدها، أو [تـُ]ريد أن [تـ]ضع النص التاريخي في سياقها»(يوسف إسماعيل).
تتجاوز المقصدية المبتغاة من وراء الرواية ما هو تاريخي، فالكاتبة لم تؤلف الرواية بغية جعلها وثيقة مرجعية، وإنما بهدف تأنيث التاريخ المغربي للدولة العلوية، أقصد بذلك إعادة قراءته من وجهة نظر نسائية، جعلت المرأة مادة للأحداث، كي تبين عن مساهمتها في بناء الدولة العلوية، والتضحيات التي قدمتها في سبيل ضمان الحكم. وبذلك تكون آمنة اللوه قد أعادت النظر في الحدث التاريخي، ومنحته تأويلا مغايرا لما دأبت عليه المصادر التاريخية، التي تمنح الرجل البطولة وتغفل – في مقابل ذلك – دور المرأة في الحياة السياسية والاجتماعية، وبالتالي فإن الغاية التي توختها من وراء روايتها تتمثل في دحض المسلمات الشائعة عن المرأة، من خلال تصرفها في كثير من الأحداث، وفق ما يتلاءم مع رؤيتها الخاصة.
إن التاريخ الذي نقلته لنا الرواية هو تاريخ المرأة المهمشة في الثقافة المغربية الذكورية، الذي لطالما سكت عنه المؤرخون، ولم يستجيبوا معه استجابة الروائية مع أحداثه وشخوصه. فالعودة إلى التاريخ لم تكن بهدف تثمينه والوقوف أمامه وقوف المتعجب به، المكتفي بترديده، حقا إن المقصدية الإخبارية متحققة في الرواية، بحيث تطلعنا فيها الساردة على سيرة الملكة خناثة، وعلى مساهمتها في بناء الدولة العلوية، إلا أن الرواية لا تتكئ على هذه المرجعية وحدها، فهي لم تذكر هذه الأحداث فقط لكي تُكوِّن لنا معرفة تاريخية، وإنما تتجاوزها إلى مرجعية أخرى هي المرجعية التواصلية، هذه المرجعية التي تقتضي أساسا «الانتقال من مستوى الإخبار إلى مستوى التمثيل، أي تجاوز الدلالة الطبيعية إلى الدلالة غير الطبيعية») سعيد جبار). بهذا، فالرواية تنزاح عن المقصدية المرجعية، نحو صياغة أفق جمالية، تراهن على ما هو روائي تخييلي. يحيلنا ذلك إلى مفهوم تداولي اعتمدته روبول في وصف الخطاب التخييلي هو لعبة التظاهر أو التصنع، الذي يوحي بإعادة إنتاج الواقع، أو قول الحقيقة (نفسه)، فقد عملت الساردة على إنتاج الفعل الواقعي التاريخي بصورة جديدة تخدم مقصديتها من وراء تأليفها للرواية.
يمكننا القول إن رواية «الملكة خناثة» استطاعت تشكيل المسكوت عنه في التاريخ المغربي وتمثيله، معيدة بذلك قراءة وتفكيك أنساق الخطاب الرسمي الذي شكلته الثقافة الذكورية، التي ارتهنت في قراءتها للتاريخ المغربي إلى تقديس دور الرجل، مهملة بالتالي مساهمة المرأة. وتمكنت – بفضل اللعبة التخييلية التي شكلتها لنفسها – من تأسيس خطاب مضاد ومغاير، انزاحت به عمَّا هو سائد، وخلقت لنفسها – بذلك – توجها سرديا يكشف الخبيء والمستور، فهي لم تأت كي تعيد اجترار ما هو سائد، أو تعيد إنتاجه فقط، وإنما لتفكيكه وإعادة قراءته وتأويله، وإعلان بديل له، والعمل على تحطيم تلك الصورة النمطية المشكلة عن المرأة، في الموروث التاريخي، في سبيل بناء الراهن والمغاير.
كاتب مغربي
تحية حارة للناقد المتالق الاستاذ ياسين الشعري بمناسبة هذه القراءة المتميزة لرواية تاريخية مغربية رائدة “الملكة خناثة” . مع تمنياتي له بمزيد الابداع والعطاء والتألق.
علي القاسمي
تحية متبادلة أستاذي علي القاسمي، أشكرك على دعمك وتحفيزك، ودي وتقديري.