في أي عمل روائي أو قصصي، وحتى ملحمي أو أسطوري، وعلى الرغم من تكامله الفني والبنيوي، يبدو المحيط الأدبي والاجتماعي الذي كُتب في زمنه، مثل جبل الجليد العائم المختفي داخل الماء، لكن القمة الظاهرة منه، تمثل النص أو النصوص على مرّ الأحقاب الزمنية المختفية داخل التاريخ.
وإذا كانت البؤرة السردية داخل أي نص، تبدو مثل خيط ضوء سري، يوصل المؤلف بالسارد كما يربط الاثنين مع الشخصية الروائية والقصصية والأسطورية، فإن المحيط الأدبي والاجتماعي، أو ما سمّي بالمرجع، سوف يحتاج إلى تبئير على نحو معين بين طرفين، جرت تسميتهما نقدياً في أحايين كثيرة، النص والخطاب، الكتابة والواقع، الرواية والمجتمع، وسوى ذلك، فما هو التبئير السردي الذي يخرج موشوره من المحيط الاجتماعي والمجتمع بالتحديد ليتجمع ويتركز في النص، وربما العكس صحيح؟ وما هي علامية المرجع الاجتماعي للنص الروائي، أو بمعنى أوضح: ما هو دال النص ومدلول المجتمع وبالعكس أيضاً؟
كان المجتمع مغيباً تماماً أو يبدو كذلك في الرويّ الإنساني المبكر، إذ اقتصر التبئير السردي الأسطوري على ما تقوم به الآلهة وحدها لتخاطب الأرض والمجتمع، كان موشور الروي السردي سماوياً بامتياز، على الرغم من الرؤية الأرضية والإنسانية إذ تبدأ هناك من الأعالي، وتتم استعارتها على المستوى الإنساني، لذا جاءت النصوص الأسطورية خالية من البؤر السردية ذات المركزة الإنسانية المباشرة، ولكنها غنية برؤيته على مستويات استعارية ورؤيوية.
انتقلت بعد حين من الوقت، المركزة الإلهية إلى أن تتقاسم مع البشر الوقائع والأحداث السردية في شكل أنصاف الآلهة، وأنصاف البشر لتؤلف شكل البؤرة السردية الملحمية الجلجامشية، التي قام من خلالها الإنسان بمشاركة الآلهة وبالعكس، المشاركة في تمثيل التبئير السردي الاجتماعي.
ومرت أحقاب أخرى حتى حلول العصر الحديث، لنرى طوراً جديداً من التبئير السردي الاجتماعي، يتحرك متحدراً مما سمّي، البنيات العليا والوسطى ليتجه كلياً نحو الظاهرة الاجتماعية ـ البنية السفلى ـ وبالتحديد في مطلع القرن السادس والسابع عشر، وتوجّت هذه الحقبة بالاتجاه الواقعي الذي تدّرج من تبئير الملوك والفرسان والمغامرين وصولاً إلى مفهوم الشخصية المعاصرة. وعلى هذا النحو من التلخيص الشديد، هناك عدد من المحيطات الأدبية والاجتماعية على مدى الأحقاب الماضية، تشكل مرجعاً علامياً لنصوصها، ومنها على وجه التحديد البسيط، المجتمع الأسطوري والملحمي وأخيراً الواقعي. ويرتب النص تناغمه وانسجامه مع النمط الاجتماعي والتاريخي، ويوسم بميسمه عبر التوازن المنتظم بين المستوى الفني والظاهرة الاجتماعية، والاثنان، يتخذان شكلاً ثابتاً من النشوء والارتقاء والتأثر والتجدد النوعي لجميع الفنون والآداب.
صعود العلاقات الطبقية
وما يهمنا هنا على نحو عام في هذه القراءة، أن التبئير السردي لدى المجتمع الواقعي في العصر الحديث مع النصوص، له سمات جديدة لا تخص المجتمعات وحدها، التي انتجت النصوص مثل اسبانيا وأمريكا وأوروبا، إنما شملت المحيطات الأدبية والاجتماعية للأمم الجديدة التي تدشن دخولها العصر الحديث، إذ عدّت القصة والرواية إحدى أدوات التحديث اللازمة حالها حال الصناعات التحويلية وإنشاء البنى الأساسية في الحياة المدنية والسياسية، ويرافق ذلك صعود العلاقات الطبقية إلى قدر يجعلها تدشن العالم الرأسمالي، أو تتشكل في مداه.
ولم تكن تلك الأداة التحديثية مطلقة في فضاء حرّ، بل تأثرت بما تطرحه برامج وتوجهات السلطات في مجتمعاتنا، وهذا ما سنعود إليه في نهاية السطور للمقارنة بين المحيطين الأدبيين المصري والعراقي، وما بلغته طرائق تحديثهما للقصة والرواية، وشكل التبئير السردي الاجتماعي عندهما. إذن فإن العلامية الجديدة للمجتمع والرواية، أو التبئير السردي للنص مع محيطه الأدبي والاجتماعي، في مجتمعاتنا الحديثة، يتسم بكونه أداة تحديث، ترافق مجتمعاً مبكراً في سياق العصر الحديث في غضون بنية تكوينية مشتركة بين النص والخطاب، أو النص ومحيطه العام.
وقد قطعت أداة التحديث هذه منذ أكثر من قرن من الزمان أشواطاً أولية، كما في مصر والعراق على سبيل المثال، وأوطأت عدداً من المحاولات القصصية والروائية التي كانت تتناغم مع القدرة والكفاءة التحديثية لمجتمعيهما الصاعدين، حتى ظهرت روايات نجيب محفوظ في شكلها الفني المتكامل قبل نهاية الأربعينيات من القرن العشرين في ما تشكل النص الروائي الفني العراقي في منتصف الستينيات لدى غائب طعمة فرمان وآخرين في القصة القصيرة والرواية. وإذا كان التبئير السردي حسب جيرار جينيت، يعتمد على تركز البؤرة، وتجمّع ترتيب الخبر والوقائع من مواقع المؤلف ـ السارد ـ الشخصية، فإن منظور التبئير السردي للمحيط الأدبي والاجتماعي، سيبدأ من المؤلف بوصفه مركز تجمع بؤري للمجتمع، لينتقل ثانية إلى النص، وبهذا سوف يتضح مفهوم الصيغة والصوت من داخل المجتمع، كما طرحها جينيت داخل النص.
كان الصوت والصيغة في المنظور الروائي والقصصي، يوضحان هوية ووعي السارد وأثره على الشخصية داخل النص، إلا أن الصوت والصيغة في التبئير السردي لدى المجتمع، يؤكدان هوية ووعي المؤلف النابعين من المحيط الاجتماعي قدما نحو النص، مثلما يكشفان عن مستوى المعالجة الفنية والتقنية للقصة والرواية بوصفهما أداة تحديث اجتماعية بيد السلطة والدولة وأيديولوجيا الأحزاب.
ومن هنا تدخل البرامج السياسية والحزبية في المنظور السردي، وتتبأر في مؤلف مثل غائب طعمة فرمان، ورواية له مثل «النخلة والجيران» التي تقدم المجتمع العراقي في الأربعينيات إبان الحرب العالمية الثانية من خلال ـ شخصيات روائية ـ تعيش في مستوى منخفض من الركود والكمون والانطفاء الطبقي، يصل حد العقم واليأس واللاجدوى، في الوقت الذي تتوارى بعيداً أو وراء المشهد الروائي القوى الاجتماعية وشبه الطبقية للملاكين الصغار التي كانت شخصيات الرواية تحيا في ظلالهم الاقتصادية ويشكلون تكامل علاقاتهم الطبقية، واشتغل فرمان بمعالجة فنية بارعة من تحويل من في الظل إلى النور، فيما جرى التعتيم على القوى الحقيقية الفاعلة في سياقاتها العامة، ولعل مرد ذلك هو منظور الانتقاء السياسي لدى الكاتب بوصفه مركز تجمع بؤري لقوى سياسية وفكرية داخل المجتمع، وينتقل إلى النص في إطار سياسي وفكري بعيداً عن الإطار الإنساني المباشر، الذي يستلزمه الرويّ، وإذا كانت شخصيات الرواية إنسانية بامتياز، وهذا لا اعتراض فني عليه، فإن الصيغة والصوت، أو هوية ووعي السارد، سوف تلقي العباءة الأيديولوجية الشاحبة على الجميع، وتنقل التبئير السردي من مستوى الشخصيات إلى مستوى السارد. وتُصبح الرواية «النخلة والجيران» كما تعتقد رؤية الكاتب السياسية، معطى قبلياً لما بعدها، تتضمن وتتقمص مجتمعاً مؤملاً، وما سيحدث له على مستوى الواقع من تغيير طبقي مستقبلياً، أي تلقى على محمول شرعة الأمل والحلم الحزبي الباحث عن حل سياسي زائف لتلك الفئات من الشخصيات الخدمية غير المنتجة، وكما سماه الناقد فيصل دراج في مقدمته للرواية «شخصيات البروليتاريا الرثة التي تبحث عن نقيض» ولكن عبثاً أن يأتي هذا النقيض بطريقة ثورية، إلا على مستوى وعي السارد وهويته السياسية، أي الصيغة والصوت، في ما يحتاج الفضاء والمحيط الاجتماعي لمنظور روائي مناسب ومجاور، لا يقوم على هدره ومصادرته من قبل وعي السارد.
رواية «النخلة والجيران»
ولم يمر أكثر من عقد من الوقت حتى صارت رواية «النخلة والجيران» حجر الزاوية لمجمل حالات التبئير السردي السياسي، وتمويه المجتمع في روايات جديدة مثل «الرجع البعيد» لفؤاد التكرلي و«الوشم» لعبد الرحمن الربيعي، بل أدى قيام مؤسسة الشؤون الثقافية في بداية السبعينيات إلى مصادرة وهدر المحيط الاجتماعي بالكامل، وتحديد شروط أيديولوجية صارمة، تتركز عبر الرقيب الأدبي، الذي عدّ حتى روايات «النخلة والجيران» و«الرجع البعيد» وغيرهما بأنها روايات شبه ممنوعة، ويتم تناولها أو نشرها بتحفظ.
ولم تكتف هذه المؤسسة القمعية بذلك، بل حددت من خلال رقيبها السياسي صيغة الشخصية الإيجابية المصنّعة والبطل الثوري الزائف لدى كتابة أي عمل أدبي ولن تقبل شخصية سواهما. وإذا كانت الأداة التحديثية للقصة والرواية في العراق، قد بدأت في محاولات أولية منتظمة ومتوازنة مع محيطها الأدبي والاجتماعي وسرعان ما أنهتها مؤسسات السلطة، فإنها نفسها المحاولات التي تدرجت في المجتمع المصري لكي تتكامل في شكلها الفني المعين عبر روايات نجيب محفوظ في الأربعينيات، غير أن المؤسسة الحاكمة المصرية في بداية الخمسينيات لم تحدد برنامجاً أيديولوجياً على نحو مباشر، يحاصر الفن الروائي وعلاقته الاستلهامية والتصنيعية من المجتمع، ما جعل كاتباً مثل محفوظ، يتوقف عن الكتابة في أبريل/نيسان 1952، للفصل والاستعادة بين عالم المجتمع القديم ومسار المؤسسة الحاكمة الجديدة قائلاً: «كانت سلسلة كتبي محاولات لتحليل المجتمع القديم ونقده، فلما انهارت مؤسسات ذلك المجتمع، وجدت نفسي في موقف من يبحث عن قيم جديدة، يستلهمها في عمله» نقلاً عن عبد الإله أحمد في كتابه «في الأدب القصصي ونقده» بغداد 1993.
تغيير المؤسسة الحاكمة
إذن ما السبب الذي يكمن وراء ذلك، كما يرى الدكتورعبد الإله أحمد، يعود إلى موقف نجيب محفوظ من تغيير المؤسسة الحاكمة في 1952، ولم يطمئن إلى صواب نهجها، فيما لم تعمل إنجازاتها اللاحقة على تغيير قناعاته تجاهها. وحينما استعاد محفوظ موقفه الفني والاجتماعي الحاسم بين العالمين القديم والجديد للمجتمع المصري، شرع يكتب من جديد بعد ما يقرب على العقد من الصمت، لتنطلق مرحلة ثانية من القيم التحليلية التي يستلهمها في الكتابة، فينشر رواية «اللص والكلاب» و«السمان والخريف» وغيرهما، موجهاً نقده المتزن للمؤسسة الحاكمة، دون أن تعمل الأخيرة على إقصائه، أو منعه في الوقت الذي كان فيه محيطه الأدبي والاجتماعي مصدر استلهامه وحقل تصنيعه وخلقه.
إن المؤسسة الحكومية المصرية آنذاك، وعلى الرغم من إطارها المسيس، لكنها لم تذهب بعيداً في عزل المحيط الأدبي والاجتماعي، وأبقت شكلاً من التوازن بين المجتمع بوصفه حقلاً مصنعاً في النص، فيما صادرته المؤسسة العراقية في ذلك الوقت عبر القناع السياسي.
كاتب عراقي
جميل….
نص رؤيوي ناضج يجسد العلاقة بين النص الروائي والمؤسسة الحاكمة في فترات سايقة
للأسف تبقى الطابوهات السياسية و الاجتماعية عاءقا