النظام الدولي الحالي هو نتاج الحرب العالمية الثانية التي أطرت هياكله العامة في تثبيت مؤسسات الاستغلال الرأسمالية؛ أجلت النازية حينها التناقضات العالمية إلى حد كبير ترجمت بتشكيل جبهة الحلفاء، وإذا كان تحالف الطرفين الرئيسيين ظاهريا قائما على ضرورة وقف الزحف النازي فإنه في الباطن يضمر أهدافا وغايات أخرى، حيث راهنت الولايات المتحدة الأمريكية على إضعاف جميع الأطراف وتحديدا أوروبا والسيطرة عليها ووراثة مستعمراتها، بينما الاتحاد السوفييتي يرى في دحر النازية مدخلا يفتح الطريق أمام شعوب العالم في الخلاص من الوجود الاستعماري والاضطهاد الطبقي ولم تكن النتائج بعيدة عن توقعات الطرفين المتحالفين.
مشاريع إعادة الإعمار
فمن جهة خرجت أوروبا منهكة اقتصاديا وإلى حد كبير مسلوبة الإرادة السياسية، الأمر الذي مكن أمريكا من بسط هيمنتها عليها عبر مشاريع إعادة الإعمار وغيرها، ولم تستطع الخروج منها إلى الآن.
وعلى الجانب السوفييتي شهد العالم النهوض العارم للثورات الوطنية وحركاتها التحررية ونالت الكثير من دول العالم استقلالها الوطني ؛ هذه التحولات أوجدت واقعا جديدا ولد بدوره صراعا دوليا جديدا ؛ وضع العالم كله أمام استحقاقات تاريخية جديدة.
وكان من نتائج التحولات المباشرة على صعيد بلدان العالم الثالث التفكير في صيغة تحفظ للبلدان النامية استقلالها وسيادتها وقد توجت المحاولة الأكبر والأهم بانعقاد مؤتمر باندونغ سنة 1955 والذي ضم الرئيس الإندونيسي سوكارنو والهندي جواهر لآل نهرو والمصري جمال عبد الناصر والغاني كوامي نكروما، وهم أبرز قادة البلدان النامية إلى جانب الزعيم اليوغسلافي جوزيف تيتو، وتشكلت على إثره حركة عدم الانحياز التي حاولت شق طريق للبلدان المستقلة حديثا في اختيار شكل نظامها السياسي والاقتصادي بعيدا عن التبعية لهذا القطب أو ذاك، وبما أنه لا يوجد أفق في ظل التجاذبات الاستقطابات الدولية الجديدة فلم يتمكن هذا الإطار من الصمود طويلا حيث اقتصر دوره على الجوانب التضامنية والأخلاقية بينما في الجوانب الاقتصادية فإن معظم أطرافه منحازة لأحد النمطين الاقتصاديين.
ومن المعروف أن البنية التحتية وتكوينها هي التي تحدد البنية الفوقية وشكل النظام السياسي وتحالفاته.
اتسمت تلك المرحلة التاريخية بطابع الصراع الإيديولوجي الشامل بين المعسكرين الكبيرين الاشتراكي والرأسمالي ولم يستطع أحد أن يفلت منها والتي أطلق عليها تسمية الحرب الباردة وهي بالطبع تسمية خاطئة ..
وإذا كان الصحيح أنها باردة من قبل المعسكر الاشتراكي الذي احتكم لما عرف بسياسة التعايش السلمي فهي لم تكن كذلك على الجانب الآخر الذي أبقى على لهيبها وسخونتها حتى الإطاحة بالمعسكر الخصم .
ومازالت الإمبريالية الأمريكية تعمل بالنظرية الاستراتيجية نفسها، وإن الكيان الصهيوني منذ نشأته إلى الآن يتخذ الأسلوب نفسه حيث يسمي جيشه بجيش الدفاع، بينما يمارس في الواقع الهجوم بشكل يومي .
هذا الاستعراض المختزل يتيح لنا التساؤل عن ماهية الصراع الدولي الراهن وطبيعته والقوى التي تحركه واستشراف آفاقه.
والسؤال هل يمكن تثمير الاستقطابات الراهنة لمصلحة قضية الاستغلال السياسي والاقتصادي؟
من المؤكد أن المظهر الرئيسي للصراع العالمي القائم ليس من أجل نمط اقتصادي جديد، وإنما من أجل علاقات دولية متوازنة على قاعدة الرأسمالية وشروطها الاستغلالية بصرف النظر عن بعض التراكمات الأولية التي بدأت باتجاه التوازن الاستراتيجي مما قد يوحي باستنتاجات ملتبسة.
الدولة الديمقراطية
والآن هل يمكن الرهان على الصراع الراهن الذي يجري بين النموذج الرأسمالي الأكثر نضجا والمتجسد في الدولة الديمقراطية التي أوجدت المؤسسات التي تمارس عبرها عمليات الاستغلال والاضطهاد بحيث يمكن المستغلين اختيار من يضطهدهم كل أربع سنوات وبين أشكال أخرى من الرأسمالية لم تكتمل مقوماتها بعد؟
وما هو أفقها بالنسبة للأغلبية العظمى من سكان الأرض التي ترزح تحت نير الاستغلال الرأسمالي ويطحنها البؤس والفقر والحرمان والتي حولتها الرأسمالية إلى آلات تنتج فائض القيمة والجوع معا .
لاشك أن الصراع العالمي قد يوفر ظروفا موضوعية غير متوفرة في العقود القريبة الماضية .. إنما كيفية استثمارها غير ممكنة دون استعداد البديل التاريخي الذي يمر في أزمة خانقة بل وتيه فكري وسياسي وتنظيمي.
كاتب عماني