يعتقد كثير من الناس أن الانتقال من العاميات إلى الفصحى أو من الفصحى إلى العاميات لا يحتاج ترجمة، كالذي يحتاجه الانتقال من العربية إلى الفرنسية أو الإنكليزية أو الإيطالية أو الإسبانية، أو غيرها من اللغات الطبيعية الأخرى.
لست متأكدا أن من لا يعرف الفصحى يفهم فهما تامّا نشرة الأخبار، التي ما تزال الإذاعات العربية تقدمها بالفصحى. أعتقد أن من لا يتقن الفصحى من المدمنين على نشرات الأخبار، كان يستعمل العامية وسيطا لفهم المحتويات لكنّ كثيرا من التراكيب والعبارات لا يمكن أن يفهمها بواسطة الكلمات أو التراكيب العامية التي هي في متناول استعماله. حين ننتقل من بلد عربي إلى آخر نحن نمارس عمل الترجمة الفورية بأن نبحث عن معنى الكلمات والتراكيب بوضعها في سياقات لغوية مشابهة، هذا عمل ترجمة وإن لم يكن معلنا. تبدأ الترجمة حين تنقل كلمات وتراكيب من لغة، أو لهجة مصدر إلى لغة، أو لهجة هدف أو مصبّ. لكن توجد بين اللهجات فراغات معجمية وأحيانا تركيبية تجعل الترجمة بين العاميّات العربية عملية كثيرة التعقيد. حين يقول اللبناني متغزلا لمن أعجبته (تؤبريني شو حلوة) وأريد من يتكلم العامية التونسية أن أترجمها إلى لهجتي المحلية، فإنّي لن أجد العبارة المناسبة في اللهجة التونسية التي تقابل (تؤبريني) فالعبارات التي نستعملها وهي قريبة من هذه العبارة بالتونسي هي (تشتاقني (بالقاف المثلثة) التي لا تستعمل في سياق غزلي، بل في سياق الدعاء على الذات بالفقد رغبة في الراحة من المخاطب، إذ الموت أفضل على الداعي من معاشرة المخاطب. والأمر نفسه يقال إن أردنا ترجمة (تؤبريني) اللبنانية إلى العربية الفصحى بعبارة (لِتُقْبِرِيني ما أجملكǃ)؛ فإنّ هذه العبارة لا تتناسب مع الحاجة الحقيقية للتعبير عن الجمال. هذا الفراغ الذي تعبر عنه في العاميات العبارات الجاهزة مثلا، من الصعب أن يترجم، وإن ترجم فإنّه لن يحمل مضمونه الأصلي؛ فعلى سبيل المثال فإنّ الترجمة العربية للعبارة اللبنانية المذكورة تقتضي تصرّفا كبيرا كأن نقول مثلا (ما أجملكِǃ جُعلتُ فدَاءَكِ) وهذه الترجمة تنقص من وهج العبارة الأًصلية، وتنقص الكثير من إشعاع الروح المعجبة بجمال المرأة.
ثمّ إن المقارنة بين (تقبرينني) الفصيحة وغير المستعملة في هذا السياق و(جعلت فداك) العربية لا يمكن أن تفضي إلا إلى ضرب من عدم التناسب بين المعنين، على الرغم من أنهما يتقاسمان الاستعارة من موضوع الموت؛ غير أنّه موت مختلف من جهة خلفياته الثقافية فعبارة (جُعلتُ فداءَك) تقال عادة في سياق خال من الغزل؛ في سياق التضحية بالنفس من أجل شخص نفيس، لا يكون في العادة الحبيبة؛ لا يقدم الرجل نفسه قربانا لامرأة يعشقها، بل يقدمها لذي صلة ومهابة كالأب والحاكم وغيرهما ممّن له يد طولى على من يتكلم. القربان في المعنى الفصيح للجملة فيه ضرب من العدول عن هذا الأصل الدلالي الأوّل: الفدية لمن له الرفعة إلى معنى غزلي، وهو عدول غير موفّق في الغالب، ولاسيما في الثقافة التي تقبل في العشق معنى القتل بعين المعشوق ولا تقبل أن يموت المرء تضحية وقربانا فالعشق القاتل هو حالة عامّة وليس حالة مخصوصة.
للمقارنة لا بدّ أن نعرف المجال الدلالي التصوري الذي جاءت منه (ما أجملك جعلت فداءك) من ناحية و(تؤبريني شو حلوة) من ناحية أخرى. في قول الشاعر الجاهلي عنترة (رَمَت الفؤادَ مليحةٌ عذراءُ // بسهامِ لَحْظٍ ما لهُنَّ دواءُ) قتل بالمعنى الاستعاري: العين وهي تبصر أو ينظر إليها يمكن أن يكون مفعولها في النفس شبيها بالقتل، بل هو القتل نفسه. القتل هو انفعال أو وقع شعوري على النفس من جمال عين المعشوقة، هو ضرب من استحالة العين إلى أداة حرب؛ لكنّ المعنى العامّي في (تؤبريني) وإن كان قريبا من هذا المعنى، فإنّ فيه وصفا لعملية مواراة المرأة الجميلة الترابَ، كأنّها وهي بجمالها تطلّ قد جعلت حياته تأفل وهو يصرخ: نموت، نموت ويحيا الجمال. أن مشهد الإقبار والدفن هو مشهد عنيف من جهة وقعه على النفس الميتة، بل هو أمر يتجاوز القتل. القتل ينهي الحياة لكنّ مشاهدة الإقبار، أي مشهد الدفن وغادرت الروح جسدها من هول العشق هو أكثر عذابا. في العامية التونسية كثير من العبارات التي لا يمكن أن تجد لها نظيرا في الفصحى لكني سأتحدث عن ظاهرة التعبير فيها عن المبني للمجهول.
ليس في العامية التونسية ما يناسب ترجمة البناء للمفعول كما يقول النحاة القدامى في تسمية الفعل المبنىّ للمجهول. فلو اردت أن أترجم حرفيا إلى العامية قوله تعالى في سورة عبس (17) (قُتِلَ الإنسانُ ما أكْفَرَهُ) فإنّي سأجد صعوبة في المحافظة على مجهولية الإسناد في الفعل (قُتِل) وسوف أضطر إلى أن أبني الفعل للمعلوم، على الرغم من أنّه غير موجود في السورة المذكورة: سأعيده بضرب من التأويل للنص أبحث فيه عن القاتل الحقيقي فسأقول بالتونسية قولا من نوع (ربي يهلك الإنسان قداه كافر) وهي عبارة ستكون ترجمة للتالية: (قاتل الله الإنسانَ ما أكفره) وليست نقلا أمينا للآية القرآنية المذكورة.
بعض المفسرين يجعلون (قُتل) في معنى (لُعِنَ) أو (عُذِّبَ) وهذا أمر مشكل في التأويل لأن هذا المعنى لا يؤول في اللهجة التونسية بهذا المعنى، فنحن لا نستعمل لفظ (لعن) فعلا، بل نستعمله عبارة جاهزة رأسها اسم وهي (لعنة الله) عليه ولا نستعمل الفعل عذب في معنى قتل أيضا إلا في سياقات مخصوصة من المبالغة في وصف التعذيب النفسي لذلك يميل كثير من مبسطي التفسير في المساجد إما إلى التأويل البعيد، وإما إلى التفسير الفصيح الذي تضيع فيه كثير من التفاصيل.
لكنّ عبارة (ما أكفره) التي تعني ما أشدّ كفره تطرح في ترجمتها إلى التونسية مشاكل أخرى، ليست أقل صعوبة من السابقة. (ما أفعله) تستعمل أيضا في العامية في معنى التعجب، لكنها تستعمل في إصدار أحكام معيارية كقولهم في المدح والإعجاب (مذكاه: ما أشدّ ذكاءه) وفي الذم والهجاء (ما ابهمو: ما أشدّ بلهه) لكن لا يستعمل التونسي (ما أكفره) في معنى ما أشد كفره، لأنّ التونسي يتصور الكفر شيئا غير قابل للتدريج والتكميم حتى يتعجب منه.
ولو تأولنا مثلما فعل القرطبي في تفسيره (ما أكفره) بالاستفهام: (أي شيء أكفره؟) فإن ذلك سيكون ملائما للترجمة بأن نقول في التونسية (شنوة إللي كفّرو؟) لكنّ هذا المعنى لن يتناسب مع المعنى الأصلي (ربي قتل الإنسان ، شنوّة اللي كفرو؟) تركيب كهذا حمّال تأويل متداخل يمكن أن نقدم فيه عينات للتدليل على ضياع المعنى الديني الأصلي. فهذا التركيب يعين أشياء كثيرة من بينها (أنّ الله قاتل الإنسان فما الذي جعله يكفر؟) أو (أنّ الله قاتل الإنسان بذنب كفره) و(أن الله قاتل الإنسان فلماذا كفر حتى يقاتله؟) وهذه المعاني الثلاثة لها تأثير في العقيدة، من بينها الاعتقاد أن الله يميتنا في نهاية الحياة لأنّا نكفر به وهذا قد يجرّ إلى أن بعض الموت قدر، لكنّ بعض الموت عقاب.
إنّ ما قدّمناه من تأويلات من الممكن أن تكون تمثيلات حادثة في الذهن لدى من لا يعرف الفصحى ويترجمها ذهنيا بما يعتقد أنّه يناسبها من العامّية؛ ولهذا تجد لدى الناس اعتقادات متضاربة حتى مع روح النصّ القرآني؛ لكنّها ترسخ من باب الاستسلام للترجمة المطمئنة من الفصحى إلى العامية. لذلك فإنّ الترجمة المضبوطة إلى العامية مفيدة في إماطة اللثام عن الغموض والإبهام والفراغات المعجمية والتركيبية، التي تحدث أثناء الترجمة الذهنية لمن لا يعرف العربية إلاّ عبر الوساطة العامية.
سيقولون، كقولهم الدائم، أنتم اللسانيين تفتعلون مشاكل لا نفكر فيها وما نراها بمشكلة، لكنّ كثيرا من الإشكالات في حياتنا اللغوية ذهنية ومضمرة وتظلّ حيّز الصمت لكن لا دليل على أنّها ليست موجودة ولا مانع في العلم أن تثار.
أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية
بسم الله الرحمن الرحيم
الرحالة الشهير بطوطه لم يكن يحسن العربية الفصحى وبدعم من سلطان المغرب أبو عنان فارس، ابن بطوطة أملى كتابه في رحلاته على “محمد ابن جُزَي” خطيب جامع غرناطة الأعظم حيث التقى به في غرناطة. وكان المصدر الوحيد لرحلات ابن بطوطة هي المخطوطة (تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار).
محمد ابن جُزَي نال شرف الشهادة حيث قتله الصليبيون بعد ذلك في معركه طريف 30 أكتوبر 1340م. اسبانيا
و هي أول معركة في الحروب الإسلامية الصليبية استعملت فيها الأسلحة النارية بكثافة. و ذلك من جانب المغاربة.
أستاذ توفيق قريرة الكريم .
أرى أن نجتهد في تفسير ما عسُر فهمه من القرآن بالعربية الفصحى عوض العامية، فهذه الأخيرة خاضعة لتجارب محلية متعددة التأثيرات لن تفي بضبط الفهم المقصود. يمكن أن نستعين في الإفهام بالتراكيب الدارجة و ليس بالمفردات و المصطلحات التي يجب أن تبقى عربية فصيحة
شكرا على هذه الأسئلة المطروحة أصلا في أذهان من يفكرون في قضايا اللغة، فصيحها وعاميتها. هنا نطرح قضية الترجمة الداخلية أي ترجمة بين لغتين أصلهما واحد، وهي عملية تمارس بين اللغات حتى وإن كان بعض المنظرين ينكرونها بدعوى وحدة اللغة الفرنسية والإنكليزة ، مثلا … وإمكانية التفاهم بين الكندي والفرنسي، أو النايجيري والبريطاني…
لكن مع العربية، كان هناك اعتقاد سائد (ويظل قائما) مفاده أن الوضوع سوف يتطور من العامية أو العاميات إلى الفصيح مما يُوجد تلاقحا بين العامي والفصيح، وذلك بفضل انتشار الثقافة اللغوية … لأن مجتمعاتنا تعوزها المعارف اللغوية… لكن الأمر ازداد تدهورا بفعل اللغات الأجنبية “المفروضة” …
وللحديث بقية …
لأن الإشكالية، هل التنظيم، خطأ، أو حرام، أم هو (حلال) يا د زياد؟!
وأقصد موضوع (تنظيم الحج)، من خلال تصريح، كما أعلن (السديس)؟!🫣🤭🤣
كما هو حال نموذج، من الخبرة الصينية/التايوانية/الكورية، وتشاهده عينه في أتمتة إدارة وحوكمة (الدولة) بداية من (عمود الكهرباء/إشارة المرور)، في شوارع (بغداد)، وليس فقط في ذكاء مدينة (الجواهري) الصينية أو مدينة (بسماية) الكورية،
السؤال هل يوجد شيء من ذلك في أي دولة من دول حلف الناتو (الروم)، بداية من (تركيا)، أو دول شرق آسيا (الفرس/الهندوس/عبيد البقر/النار) بداية من (إيران)، أم لا؟!🫣🤭🤣