«نواح الآلهة» مجموعة قصصية للكاتبة العراقية عالية طالب، تتكون من أربع عشرة قصة قصيرة، وتقع في حوالي مئة وأربعين صفحة، صدرت طبعتها الأولى في 2023 عن مؤسسة شمس للنشر والإعلام في القاهرة.
وإذا كان العنوان يُحرِّك مؤشر الدلالة لتلقي سرد يدور حول عالم الآلهة القديمة، فإن القارئ حينما يدخل إلى عالم هذه المجموعة يفاجأ بأن السرد يتناول اللحظة الراهنة، ولا يمت بصلة واضحة إلى عالم الآلهة القديمة وخصوماتها المعروفة لقارئ التراث الميثولوجي. لكنه يلمس التسريبات الأسطورية على مستوى البنية العميقة في الكثير من قصص هذه المجموعة، فتطل بعض ملامح أسطورة تموز، وحبيبته عشتار، خصوصا الدماء التي نزفها تموز أثر طعنة الخنزير البري له، ومحاولة عشتار المستميتة من أجل إرجاعه مرة أخرى، وأخذها زمام المبادرة والفعل في هذا السياق. ومن هنا فإن الحبيبة عشتار هي الباحثة عن تموز الذي هبط إلى عالم الموت والصمت.
وبذا تتجاوب البنية العميقة مع عنوان هذه المجموعة القصصية «نواح الآلهة» فالنواح دائما ما يرتبط بالفقد، وليس هناك أغلى من تموز كي تنوح عليه عشتار، كما أنه ليس هناك أفدح من غياب الحبيب كي تنوح عليه الحبيبة من خلال صوتها السارد في هذه المجموعة. وهنا يبدو بوضوح مدى هيمنة الأسطورة على الفكر المعاصر، وكيفية تسربها عبر مساربه، سواء كان ذلك عن طريق الوعي، أم عن طريق اللاوعي. وكان لهذا التجاوب بين الماضي المقدَّس – متمثلاً في الأسطورة التي تسربت في البنية العميقة لهذه المجموعة ـ والحاضر؛ دورٌ في استحضار الكثير من التراكيب والجُمل الدالة على الحيرة والنواح. وإذا كانت كلمة النواح قد جاءت صريحة في العنوان، فقد جاوبها عبر قصص من هذه المجموعة حضور صورة الدم بغزارة شديدة، ما ترك أثره واضحا على شخصية الذات الساردة، وإحساسها الضاغط بحالة من الاغتراب الشديد عن نفسها وواقعها.. ففي قصة «أجراس ثيابي» نجد الحضور الطاغي لعالم الموت المجاني بلا جريرة، والأشلاء الممزقة بسبب الانفجارات الفجائية، وفقد الأحباب واحدا تلو آخر، وليست هذه الأجواء بعيدة عن أجواء الأسطورة القديمة/ أسطورة تموز، التي كُرِّست في الكثير من كتلها السردية لحضور القتل والدم بلا رحمة وحضور الفقد المُر للأحباب. كما نجد أيضا في القصة نفسها الحضور الطاغي لفقد الذات الساردة لنفسها القديمة، رمز البراءة والطمأنينة، لدرجة الانفلات من واقعها وسماعها الدائم لرنين هاتفها المحمول، والمفاجأة أنها تجد في كل مرة أن من يتصل بها ليس سوى اسمها هي أو نفسها، لكنها في حالة نفسية لا تسمح لها بالعودة السليمة لطمأنينتها السابقة، ويظل الرنين متصلاً. تقول في قصة «أجراس ثيابي»:
(أيُّ رُعب سيصلني من كل أمكنتي؟ مَنْ يتصل بي؟ وهل فعلاً أنا من أرنُّ على نفسي؟ وكيف أفعل هذا؟ وبأي هاتف، وأنا لا أملك غير هذا، فكيف أتصل بنفسي؟ ولماذا يحصل هذا بعد أن يهوى صوت الجلاد بالتكبير على أرواح تغادر مسافاتها الباردة؟!). وقد ظهر الصوت السارد في بعض القصص، وهو في حالة خطاب واستحضار لشخصية أخرى، وهنا يظهر شخصان: الشخص الأول هو الحبيبة المتكلمة، والشخص الثاني هو الحبيب الصامت، بل قد يصل الأمر إلى أن تكون القصة كلها تحمل صوت الحبيبة من بدايتها إلى نهايتها، والحبيب صامت، على نحو ما نجد في قصة «حب في زمن الوحشة». ولا ندري هل هو موافقٌ على ما يتلقاه من خطاب الصوت السارد أم رافضٌ له؟ أم موافقٌ على بعضه مخالفٌ لبعضه الآخر؟ وهل هو يسمعه أصلاً أم لا؟ ففي قصة «ظلال امرأة» تقول الذات الساردة:
(ـ أقفز وإياك في بحر اللؤلؤ.
المجموعة القصصية تتفاعل مع واقع العراق في الأعوام الأخيرة، ذلك الواقع الذي كثُر فيه القتل المجاني بلا رحمة، وكثُرت فيه الانفجارات الفجائية التي تجعل حياة أبنائه، وكأنها جحيمٌ لا يطاق، ونظرة سريعة على القصص فيها تُرينا الحضور الطاغي لكلمات مثل التفجير والموت وبقع الدماء.
لم تسمعني، أعرف ذلك، لكنني أشعر بالراحة وأنا أتخيلُك تعرف ما أُفكِّر فيه، وقد تكون لا تعرف، كلا الحالتين لا تهُمَّاني كثيرا، فأنا فيهما، يكفيني أن أستحضِرُك أمامي مثلما أريد وكيفما أشتهي، وحيثما أكون).
تحمل كلمة بحر هنا ثِقلاً دلاليا واضحا، حيث تتواءم مع استعارة نحيا بها، مضمونها أن الهوى بحر عميق، وأن العاشق كلما تمكن منه العشق فإنه يغوص بالتالي في هذا البحر اللُجي الغدَّار، وفي الوقت نفسه يتجاوب مع اسم تموز، لأن كلمة «تموزي» باللغة السومرية القديمة تعني «الابن الحق للمياه العميقة» وهنا تظهر كلمة الماء باعتبارها أصل هذه الحياة، وبالتالي أصل الحب. وتظهر ثيمة الحضور/ الغياب، فالحبيب حاضر رغم غيابه، أو بمعنى أصح تستحضره الحبيبة أو تستحضر صورته في كل تحركاتها. ولأن الحبيبة في حالة عشق ظاهر لا فكاك منه، فقد كثرت رحلتها إلى الداخل أكثر من رحلتها إلى الخارج، حيث تقوم بدور المراقبة لأثر الحبيب على نفسها، ومن هنا فإن الحدث الفعلي على أرض الواقع يبدو في حالة انحسار ليفسح المجال لمراقبة الذات الساردة لمجاهل أعماقها.
تقول في قصة «ظلال امرأة»:
(في صوتِك شيءٌ لا أحتمله، أكبر من كُلِّ مُكابرتي وقوتي، وغروري، يدخل متسللاً كالملائكة إلى أدقِّ نبضٍ في جسدي ويبدأ بالدوران مع دمي). ودائما ما تستحضر الماضي، فتقول أيضا في قصة «ظلال امرأة»: (قُلتَ لي أشياء كثيرة سمعتُها منك عبر زمن لا أُحدِّده بدقة). وفي أسطورة تموز حضورٌ واضحٌ للعالم السُّفلي الذي هبط إليه، هذا العالم الجحيمي الذي يدور الإنسان فيه في دائرة مغلقة، وهذا الملمح نجده بوضوح في قصة «صوت الجدار» حيث يظهر فيها الجحيم بعينه حين يحاول البطل على مدار سبعة أيام الخروج من الدائرة المغلقة لكن هيهات هيهات. وفي قصة «هو من يسألني» نجد حضورا طاغيا للنوم والكلام مع الحبيب أثناء النوم، وكأن عالم اليقظة في أرض العراق أصبح لا يحتمل وجود الحب بسبب القتل والترويع، فتلجأ الذات الساردة لعالم النوم، كي تُشبع فيه حاجتها إلى حبيبها. وفي قصة «الوجوه» يوجد أيضا الموت العنيف، وهذا ملمح أصيل من ملامح أسطورة تموز، تقول في قصة «الوجوه»:
(سقطتْ نظراته وسط الحلقة المزدحمة، بُقع حمراء تنتشر بكثافة، ووجه أسمر يحنو على وجه جميل شفَّاف، فيما تنام حقيبة حمراء يعرفها جيدا وراء عجلة سيارة كانت تعدو مُسرعة). وفي قصة «معك» السارد بالضمير الأول/ أنا، لكنه ينتمي إلى الأب، وفي هذه القصة يحضر ملمح أصيل من أسطورة تموز، وهو غيابه، وذهاب الزوجة في رحلة دائبة للبحث عنه، من أجل استرجاعه، يقول الأب: (خمس ساعاتٍ أخرى والليل أطبق على أنفاسي، وبكاء ابنكَ الذي تركتْه زوجتك وحيدا وخرجتْ لتبحث عنك؛ يكاد يُفقدني عقلي).
وفي هذه المجموعة القصصية «نواح الآلهة» للكاتبة العراقية عالية طالب يوجد ملمح آخر من ملامح أسطورة تموز، وهو ملمح الغُربة والاغتراب، فتموز يغترب عن عالمه ليهبط إلى عالم الظُلمة والصمت المطبق، والذات الساردة تشعر بالغُربة الفادحة في مكانها، لأن الانفجارات ذهبت بأحبابها، فأصبح المكان مشوشا في ذهنها… تقول في قصة «مساحة بلا ضوء»: (تستقبِلني أمكِنتي بأذرُعٍ مُتهالكة تشوبها الشيخوخة، تتناثر الشوارع التي كنتُ أعرفها، وتتداخل الأرصفة معها، فتضيع مسافاتي، لا أجد مُنعطفًا أسلكه، ولا أزِّقة تحمل ذاكرتي معها، أقترب مني وأكاد ألوذ بنفسي علَّها تُوقظ في داخلي معرفتي بالمجهول الشاهق الذي يترَّبص بي في كل اتجاهٍ ألتفِتُ إليه). وهناك ملمح أصيل من ملامح أسطورة تموز، وهو ملمح الاستماتة من أجل عودته، وإذا كانت الأسطورة القديمة تذكر أن عشتار نجحت في إعادته فعليا من العالم السُّفلي مرة كل عام، وهذه المرة تستغرق نصف العام يكون فيها الخصب والنماء، فإن الذات الساردة تُرجع الغائب بطريقة أخرى، وهي أن تضع في الشارع ُملصقًا له فيه صورته لكي يكون حاضرا في هذا العالم… تقول في قصة «الرحيل»: (ألا يُمكن أن نضع له ملصقا جديدا؟ وجدتُ صورة رائعة له ستكون جميلة جدًا بابتسامته الطيبة و…).
هذه المجموعة القصصية تتفاعل مع واقع العراق في الأعوام الأخيرة، ذلك الواقع الذي كثُر فيه القتل المجاني بلا رحمة، وكثُرت فيه الانفجارات الفجائية التي تجعل حياة أبنائه، وكأنها جحيمٌ لا يطاق، ونظرة سريعة على القصص فيها تُرينا الحضور الطاغي لكلمات مثل التفجير والموت وبقع الدماء. ومن هنا تظل الحاجة لقدرة عشتروت وعزيمتها الفائقة من أجل العودة بتموز من عالم الظلام إلى عالم الخصب والنماء، ولعلَّ ذلك يكون قريبا.
أكاديمي مصري
إنما هو إله واحد، ولو كانوا أكثر من إله لاقتتلوا، فسبحان الله عما تصفون وسلام على المرسلين واخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين 😊✋