كلما اقتربَ المُشاهِدُ من لوحات الفنانة التشكيلية ثريا ليسر، إلا واقتنع بشفافية وجمالية ذلك السديم، الذي يكاد يحجب غير قليل من تفاصيلها. سديم يبدو مفرطا في خِفَّةٍ لربما كانتِ السببَ الوجيهَ في إغراء المُشاهِد ذاته، بإبْداء المزيد من المشاكسة والمناوشة خلال متعة تلَقِّيه، أملا في استخلاصه لدلالات التشكيلات الغائبة، أو الحاضرة داخل دفء الإطار. كما لو أن هذا الحجاب السديمي، والمُمْعِنَ في مراوغته للرؤية، حريصٌ على الإمساك بزمامها، علَّها تقتنع للتو بإدماج جماليته ضمن ما تراه في اللوحات من إشارات وتجليات. وقبل ذلك، سيكون من الضروري التنويه، بأن السديم الذي يغري القراءة بطرح استفساراتها، هو نِتاجُ فائض البياض، الذي يتخلل النتوءات الهندسية الفرحة بقرب تلاشيها، والمستغرقة كلية في طقس الاستعادة. فالمرئيات التي هي الآن أمامنا، توحي للمتأمل بأنها أمست بفعل تقادم أزمنتها، لائِذةً بِقَدَرِ احتجابها عن العين، كما عن الذاكرة. لكن ما العمل والعلامات المفكر في استعادتها تشكيليا، هي الآن في ضيافة ذاكرة بصرية مضاءة بشعلة النوستالجيا، وغير واثقة تماما مما تراه الآن، أو لا تراه؟
وكما هو معروف، فإن الفنان بالمفهوم الحديث للكلمة، غير معني مطلقا بإعادة إنتاج المرئيات بصيغتها الأصلية. إنه بَدَل ذلك، مدْعُو لركوب مغامرة الخلق. بمعنى أنه يبادر إلى ممارسة حقه هو أيضا، في إبداع ما لم يَعرفْ بعدُ طريقه إلى الوجود، ليكون بذلك سيَّد عوالمه الشخصية التي لم يخلقها أحد سواه.
ومن المؤكد أن اجتراح هذا الأفق ، قد يتطلب من الفنان الانطلاق من الدرجة صفر للخلق، والمعبر عنها بذلك الفراغ الكلي والشامل، الذي لم يسبق لأي إشارة ما أن طرَقَت دائرته. وفي سياق آخر ومختلف، يحدث أن تتعذر على الفنان ذاته ممارسة قطيعته الجذرية مع العوالم الحافة به، كي يستبدلها بعوالم موغلة في تجريدها، خاصة حينما يكون ممسوسا بحالة شفيفة من النوستالجيا الباطنية.
وفي تصورنا أن تَمَكُّنَ هذه الحالة من ذات الفنانة ثريا، هي التي تكسبها القدرة على الحلول الروحي والجسدي في عمق أمكنتها الشخصية، وفي أزمنتها الأكثر حميمية، مهما شطَّ بها المزار. إنها تبعا لذلك تحملها في دواخلها أَنَّى حَلَّتْ وارتحلت، باعتبار أن أرواح الأمكنة والأزمنة، هي أيضا تمتلك ذاكرتها التي تحتفظ فيها بذكريات عبور الفنانة لها، حيث يظل التفاعل قائما بين الطرفين، ضمن الشروط السيكولوجية والسِّيرِيَّةِ، التي يمليها شرط النوستالجيا الفنية والجمالية. فالذات البشرية عموما، وبوصفها جماعُ مُقوِّماتٍ تتكامل فيها إوالياتُ العقل بإواليات الانفعال وبالحواس، لا يمكن أن تنفصل بشكل مطلق ونهائي، عن المقامات التي تعبرها في مساراتها الوجودية المتعددة، التي يؤثر تفاعلها المشترك في بلورة أحوال إنسانية على درجة كبيرة من التعقيد. بمعنى أن ذات الفنانة خلال هذا العبور، وانطلاقا من بنيتها المتعددة الأبعاد، تتقاسم مع أمكنة وأزمنة العبور، كل تلك التفاصيل التي تستمد منها الذات إنسانيتها. وضمن هذا التفاعل المتبادل، والمؤطر بأحواله الجمالية والفكرية، يشرع قماش لوحاتها في استقبال الحدث، بوصفه خلاصة تفاعلاتٍ هي مزيجٌ مدهش من الرهافة والشدة، ليكون حتما الإطار الذي تتموضع فيه تجربة الفنانة ثريا ليسر. حيث يضيء أفق الاستعادة بكل هِباته التشكيلية المنتظرة، مُحفَّزا من قِبل المكان في لحظة زمنية معينة، كما هو محَفَّزٌ من قِبل الفنان في اللحظة ذاتها، لكن ضمن منطق المسافة الفاصلة بين لحظة الاستعادة، بما هي طقس الإنجاز التشكيلي، و»المستعاد» بما هو خلاصةُ أطياف أمكنةٍ وأزمنةٍ مسكونة بأرواح كائناتها وتفاعلاتها، ومحمولةٍ على أجنحة النوستالجيا الممسكة بتلابيب الذات.
والمستعاد في أغلب اللوحات الأخيرة للفنانة ثريا، يأخذ شكل «منشآت» توحي هندستها المعمارية بانتمائها إلى المدن المغربية العتيقة، حيث تضيق الدروب الفاصلة بينها إلى حدود التلاشي، وتلتصق الدور في ما بينها إلى أقصى حدود التعاشق، كما تتعدد الطيقان التي يبدو أنها فٌتِحت على عجَلٍ، من أجل إطلالة شهوانية، ما من سلطة في الكون قادرة على لَجْم جموحها. وبفعل طول المسافة الزمكانية التي تعبرها تشكيلاتُ المعالم خلال لعبة ومتعة استعادتها ، فإن استراتيجية الفنانة ثريا، تتمثل في توظيف تقنية التشحيب. وهي تقنية تبدو معها اللوحات كما لو أنها تعرضت لنوع من التآكل والبتر الجمالي، ما يعمق الشعور لدى الملاحظ بحضور كيمياء الأثر، الدالة على انبثاقٍ حيٍّ ومتجدد، لِمَا أوشكت الأزمنة المتتالية والمتعاقبة أن تحجبه طيَّ مساراتها وتحوُّلاتها.
إنه الأثر الذي تستضيفنا نكهته الحليبية في رحاب طفولة حيَواتِ، تحتفي بها أفياء منازلَ ومقاماتٍ، هي الآن منذورة لمشاكسةِ شريعةِ الانمحاء.
يحدث ذلك عبر تطعيم بنيات المعالم /المنشآتِ، بركائز شاقولية بالكاد تهتدي إليها الرؤية من فرط رهافتها، وهي تنتشي بانْدِفانِها الحميمي والمتداخل على أديم القماش. ولعل التوجه الشاقولي لهذه الركائز ذي الإيقاع المتعامد، هو الذي يوحي للعين باندفاع هندسة الأشكال إلى أعلى، نكاية ربما في احتمال وهَنِ أو تداعي روحِ الاستعادة النوستالجية، التي غالبا ما تكون مَشُوبة بأحاسيس الفقْد، والتي من شأنها إشاعة مُسْحةٍ من الحزن على العمل الفني. إلا أننا ونحن في حضرة ثريا ليسر، نجد أنفسنا أمام مشهد مغاير، تأبى فيه جمالية الأثر، إلا أن تتقدم إلينا من تحت سديم المسافة، مضاءة برشاقة تلويناتها، وخفة إيقاعاتها.
قد يكون لمسحوق الرخام الذي زجَّت به أنامل الفنانة في محْفَل الاستعادة، دوره الخفي في تقوية أُسُسِ الأثر، كي يظل ماثلا أمام دهشتنا بكل إشراقته وتعاليه. فالرخام في الأصل ينتمي إلى مُدَوَّنة الإنشاء والتكوين، لذلك، سيكون من الطبيعي أن يساهم هو أيضا في تهيئة المجال وفي تماسك بنياته، بكل ما يمتلكه مسحوقه الحَيُّ من أرواحٍ، من شفافيةٍ، من سِرِّيَّة ومن ألَقٍ. ولربما كان لِحضوره دوْرٌ آخر، قد يتمثل في تمْكِينِنا من اختراق حُجُب السديم الفاصلة بين فضول الرؤية، وموضوعها، عسانا نتأكد من هوية «الأثر» بالمعاينة كما باللَّمْس، أو الإقامة. ولِمَ لا؟ فَرُوح الرُّخام هي الوحيدة المؤهلة لتكسير الجدار الرابع، كي نستمتع بالحلول، كما بالتجوال في فضاءات الحَرَم التشكيلي، وقد استعاد هويته الأصلية ضدا على فتنة الأثر.
أمَّا وأنتَ الآن هناك، داخل اللوحة التي تخلَّى فيها «الأثر» مؤقتا عن تَكَتُّمِه، ليكشف عن مخزون ذاكرته بوصفه فضاء جديرا بالسكن والإقامة والحلم. هناك أنت الآن، حيث بوسعك أن تهتدي لتلك المسالك اللامرئية، الموشكة على التَّخلي عن بريق ألوانها، والتي ستمضي بك إليها، وقد توزعت على جنبات الأثر، وأعني بها كائنات ذاكرة المكان، المستغرقة تماما في حلم استعادة أصداء وظلال الخبايا، متسللة من تفَشِّي المحو، أو ذاهبة إليه. معلنة أحيانا عن تمام اكتمال أطيافها، وأخرى عن تناهِيها بين ليل التفاصيل وفجرها، في صيغة وشْمٍ باهت، تتبادله الجهات، متسائلا في الآن ذاته، عن معنى شحوب ألوانها المستعارة حتما من وسَنِ الفراشة.
شاعر وكاتب من المغرب
هي لوحات تبحر بنا إلى عوالم أخرى مخفية منها ما يظهر لنا ومنها ما فضلت فنانتنا الإحتفاظ به والتعبير عنه عبر زخم من الألوان والمشاعر .. والمتأمل في لوحات ثريا ليسر يسافر إلى بلدان عدة وهو واقف بمكانه .كان لي الحظ الوفير أن حضرت العديد من معارضها شكرا لقلمك الذي قربنا أكثر من هذا الفن الفذ