التشكيلي العراقي كريم سعدون: أجساد حائرة تثير قضايا الوجود الإنساني

كريم سعدون فنان متعدِّد نشأ في تربة بغداد النقية، يعيش ويشتغل بغوتيبورغ في السويد منذ عام 2002، ويُعَدُّ من أمهر جيل التشكيليين العراقيين، الذين أبدعوا في ظل حروب مدمِّرة ظالمة. تتوزَّع إبداعاته التشكيلية بين الكاريكاتير الساخر والرسوم الإيضاحية، وكذا التصوير والنحت وفنون الغرافيك والنسخ الفني. سبق له التخرُّج في عدة كليات ومعاهد فنية متخصِّصة، عضو نقابة الفنانين التشكيليين العراقيين، وعضو نقابة التشكيليين السويديين، وعضو جمعية التشكيليين العراقيين، إلى جانب معارضه الفنية المتعددة في أقطار عربية وأوروبية كثيرة، فضلاً عن حصوله على الجائزة الأولى المخصَّصة لأحسن الأغلفة العراقية لعام 1992.

استعادة جمالية للتراث

في الكثير من أعماله الفنية التأسيسية، سعى الفنان كريم سعدون إلى استعادة جوانب مهمة من الموروث الثقافي والحضاري لبلاد الرافدين، من منظور إبداعي جمالي يحمل أكثر من رسالة، وأكثر من معنى، حيث ظهرت هذه الأعمال مفعمة بمفردات بصرية تحاكي الأساطير القديمة، طلاسم، رموزا معتقة، وشوما، وأخرى احتفت بالبيئة العراقية بأهم مكوِّناتها المقدَّسة عند السومريين والبابليين والآشوريين، على نحو رمزي يمتد لتوليفاته وإنشائياته التشكيلية التي يمتزج فيها التشخيص مع التجريد. وقد تميَّز اشتغال الفنان على هذا المستوى بالتصوير الإيحائي، لتثمين أصوله وجذوره الثقافية والتراثية، من منظور صباغي معاصر قائم على التجديد، وهو حصيلة أشغال متتالية داخل محترف لا يهدأ، حيث شغف الفنان وولعه بالإبداع الذي يجد فيه وسيلة للتنفس، والانتصار لمواقف شخصية صعبة، لم يكن من السهل استيعابها والتعبير عنها بتصويرية رمزية تتعايش فيها الألوان وحوامل الاشتغال، من الرماديات الملوَّنة، مروراً ببياضات نورانية وتسريحات لونية صمغية وترابية محمرة، مع زرقة كوبلتية وصفرة ساجية، بجانب درجات لونية بنية وكحلية وبنفسجية.. وغير ذلك من التطبيقات الطيفية المتنوِّعة التي نسجها الفنان في العديد من لوحاته، احتفاءً بالتراث وبالأرض التي لم تسلم من التخريب والتدمير، ومن الاعتداءات المتكرِّرة من طرف أعداء الحياة والوجود.. فكثيرة هي لوحاته الفنية التي مجدت المكان وتاريخه، المكان بما هو فضاء وذاكرة وتاريخ.. وثقافة الأسلاف أيضاً..

2021-07-18_17-02-15_070652

أجساد المنفى

تبدو الأجساد في لوحات الفنان كريم سعدون ثائرة ومتمرِّدة ضِدَّ كل زيف وضِدَّ كل مساومة رخيصة، وتظهر بهيئات إقلالية (مينيمالية) لكنها متينة وقوية تحمل بعض السمات الكاريكاتيرية بأنفاس تعبيرية، في مقابل أخرى واقفة ومتعامدة تحيط بها أحياناً حروف وأرقام وإشارات غرافيكية لها دلالات بصرية تشترك في إنتاج المغزى، ورسم مسالك المعنى، وتكسوها أحياناً أخرى خدوشات وإمحاءات بمخفيات لونية تكشف أكثر مما تحجب.. وتبوح أكثر مما تخفي.. وهنا تكمن المفارقة! إنها أجساد وشخوص حائرة ومحيِّرة في آن، تتجاوز حالات الارتباك والتيه والانتظار وتقاوم واقعاً جوانيّاً محمَّلاً بهموم وقلق وجودي يعيشه الفنان في ظروف المنفى اللااختياري والهجرة القسرية، مع ما يصاحب ذلك من صراعات وإكراهات يفرضها العيش خارج الوطن. يقول الفنان شارحاً ومعلِّلاً: «المنفى يقدِّم لك كل شيء بدءاً من الحرية، لكنه لا يحتفي بحلمك، ولا يمنحك حتى القدرة على إعادة ترميم الذاكرة، فتكوّن لديّ شعور بأن كل الأشياء ترافقني بتوازٍ مما يدفع للركون إلى نوع من العزلة».
وسط هذا الاشتغال الإيحائي الرامز Symbolisant، صرخة داخلية تقف إلى جانب الكيانات البشرية في مواجهة أعطاب التاريخ، وآثار الحروب والأوبئة والكوارث الطبيعية المميتة. أجساد جريئة ترفض العيش في الهامش، لتظل بذلك حالمة تحتج دون ضجيج، يلفها الصمت ويعمُّها التأمل في أوضاعنا المزرية وتطرح في كل مرة أسئلة جوهرية وعميقة حول جدوى وجودنا الجديد.. أجساد متشظية وعارية لا كساء لها سوى جلدها المغلف بإسكيزات الفنان، تتمدَّد ببهاء الحبر الأسود الذي يؤسر النماذج المرسومة داخل توليفات واستعمالات لونية «تقشفية» في بعض الأحيان تسودها شفوف وبياضات، بجانب رمدة مفتوحة ومكثفة أحياناً أخرى بشرائح وطبقات متعدِّدة متراكمة، الأمر الذي يمنح اللوحة أبعاداً تشكيلية معاصرة قائمة على التضاد والتباين (الكونتراست) الذي تتيحه التقنيات التلوينية المستعملة (زيت، أكريليك، حبريات..). من ثمَّ تمسي الأجساد في لوحات الفنان سعدون ترميزات تحيا داخل منظومة واسعة من الاستعارات البصرية، مثل إمضاءات خفيفة التنفيذ تحمل سرّاً ما.. وتعيش وسط تجريب صباغي لا يتوقف، لأنه يلازم الذهن والفكر اليقظ للفنان، الذي يتبوَّأ مكانة إبداعية متميِّزة مستحقة داخل مشهدنا التشكيلي العربي. لكن، ما هو السرُّ الذي تحمله هذه الأجساد؟ لعلَّ في الأمر دهشة وحيرة عصية على الفهم والاستيعاب على الأقل خلال التلقي الأول!
في لوحات أخرى، جموع بشرية متحلقة حول بعضها تتقاسم أحاديث يومية، وبورتريهات مصطفة يقظة وفي حالة تأهب بأعناق طويلة، تلفها لمسات لونية عريضة لم تسلم هي الأخرى من المحو والكشط والدعك والتطريس أيضاً.. وجوه بملامح غير مقروءة حجبتها الألوان المتضادة المتعاقبة على مدار فترات متنوِّعة من الصباغة وشغل مساحة السند بتلوين مغاير تندمج فيه الخلفية مع الموضوع، إلى جانب كراسي، أقدام وسيقان حافية ومربعات صغيرة وأرقام متجاورة تشغل الفراغات التي تصير معادلاً للامتلاء بمفردات بصرية شديدة الدلالة، مع وجود شرائط أخرى متراصة تتكثف فيها دوائر صغيرة مثل منافذ بعيدة ظهر البعض منها محسوساً في لوحات صباغية، وظهر البعض الآخر منها ملموساً عُرضت حيَّة في تجربة تجهيزية (أنستليشن) شغلت فضاء العرض بعد أن استعان الفنان فيها بقماشات ولفافات ورقية طويلة (رولات) موشاة بطوابع وأختام وآثار غرافيكية دالة مع ما تطلب ذلك من جهود مكثفة على مستوى الطباعة والتلوين والتعتيق، بواسطة الأحبار وصبغات الأكريليك وغيرها. هذه التجربة التركيبية والطباعية عرضت قبل سنوات في بورلوف في السويد تحت عنوان «بعض ما تبقي» رام الفنان من خلالها استحضار مخلفات الوجع وتداعيات التدمير والتشتيت الذي تعرَّض له تراث وثقافة بلاده. فضلاً عن ذلك، أبدع الفنان سعدون أعمالاً فنية أخرى عديدة نالت حيِّزاً وافراً من أساليب التغرية وإدماج قصاصات الصحف مع جِلد السند (قماش، ورق..) إدماجاً تشكيليّاً منسجماً مع باقي المكوِّنات التعبيرية التي أمست تشكل المعجم البصري المعاصر للفنان.

2021-07-18_17-02-17_095827

سؤال المغايرة

منذ سنوات عديدة، أدرك الفنان كريم سعدون أن الفن لم يكن ضِدَّ الإنسانية، بل خَدَمَهَا في الكثير من المناسبات ووقف الفنانون طويلاً إلى جانب البشر، نساء ورجالاً، لتجاوز العديد من النكبات والمعضلات، في الحروب السياسية والعسكرية وغيرها، بمقدار إدراكه أيضاً كون الفن وسيلة للتأثير في أفراد الشعب، ذلك أن مجموعة من الرهانات والتحدِّيات التي شكَّلت أهدافاً وأوتاراً حسَّاسة عَزَفَ عليها المبدعون لكسب تأييد الشعب لهم، لأنها قريبة منهم وتعبِّر عن همومهم وصراعاتهم اليومية مع الغطرسة والجبروت وديكتاتورية السُّلط.. وقد حملت الكثير من إبداعاته التشكيلية (المسطحة والمجسَّمة) رسائل أيقونية كثيرة عميقة المعنى والمبنى أبرزت أهمية الفن في التغيير وبدوره في تنوير المجتمع ثقافيّاً وسياسيّاً تناغماً مع نظرية الفنان جوزيف بويز حول «مفهوم الفن» من خلال دعوته إلى زيادة الوعي عند الناس بأهمية الفن حيال المناخات السياسية التي تحيط بهم وتحدَّد مصائرهم.
هكذا يغدو الفن أداة فاعلة لمواجهة شبح «البوليتيكا» وقضاياها المعقدة بلغة كونية سامية تقف إلى جانب الإنسان وتدافع عن رهاناته وحقوقه المشروعة، وفي عمقها الحق في العيش والوجود.. وهكذا يصير التعبير في تجربة الفنان سعدون فن الصمود ووسيلة مؤثرة لصياغة الوعي وتشكيل الفكر والمعرفة على نحو فعلي وفاعل، يضمن للكائن البشري قيمته كإنسان أولاً ويمنحه القدرة على تشييد الحياة التي يريدها. أليس الفن في نهاية الأمر «أداة أو سلاحا سحريا في يَدِ الجماعة الإنسانية في صراعها للبقاء» كما يقون إرنست فيشر؟

2021-07-18_17-02-14_045122

الفنان كريم سعدون

بهذا الإدراك الجمالي الصاحي، يواصل كريم سعدون تجريبه وأبحاثه الصباغية المتميِّزة، ويبرز مبدعاً معاصراً مسكوناً بسؤال المغايرة، وقد تنبَّه مبكراً لدوره كفنان عضوي يعيش داخل معترك عالم متغيِّر يسير بوتيرة سريعة مخيفة.. هذا العالم أضحى يشكل مختبر الفنان المنشغل بسؤال الهوية والوجود والمصير الإنساني المهدَّد باستمرار..

ناقد تشكيلي من المغرب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول كريم سعدون:

    قراءة متمعنة ووافية تنم عن ثقافة بصرية ووعي كبير من فنان كبير وناقد ومعرفي متمكن ، سعيد جدا بأن تنال تجربتي المتواضعة مثل هذا الاهتمام وهذه القراءة الرائعة اشعرتني بالفخر بها وبكاتبها، شكر لصحيفة القدس العربي الغراء لاحتفائها بها بالشكل المتميز.

  2. يقول حسين ثامر بداي:

    قراءة رائعة وواعية بحق،احيي الجهد المائز والأسلوب الذي يستحق التتبع والمواصلة، تحياتي للكاتب ابراهيم الحيسن والفنان التشكيلي الرائع كريم سعدون

اشترك في قائمتنا البريدية