التشويق والتحليل النفسي في رواية السلسلة لأدريان ماكنتي

تبدأ رواية السلسلة للروائي أدريان ماكنتي بتقديم صورة مألوفة لبطلتها كايلي، التي تجلس على مقعد في محطة انتظار حافلة المدرسة، غارقة في عالمها الافتراضي على الإنستغرام. في هذه اللحظة، لا شيء يشي بأن هذه الفتاة المراهقة العصرية، التي يبدو أن حياتها متعلقة بشكل كامل بالعالم الرقمي، على وشك أن تشهد تحولا دراميا يهز كيانها. الواقع المعاصر يتداخل مع هذا التصوير، حيث تُظهر الرواية تزايد ارتباط الجيل الجديد بوسائل التواصل الاجتماعي بشكل يومي، وهي بذلك تقدم انعكاسا حقيقيا لواقع الشباب الذين يواجهون تحديات عديدة تتمثل في الضغوط الرقمية، مع غياب الوعي الكامل بعواقب ذلك التعلق.
ولكن، كما هي العادة في الأعمال الروائية المتميزة، تأتي هذه البداية العادية لتبني جسرا بين الحياة اليومية والتهديدات المخفية التي ستؤثر على الشخصيات الرئيسية. فهل التناول النفسي العميق يفتح مجالا لفهم الشخصيات بصورة أكثر تعقيدا، ويتيح للقارئ الانغماس في عالم الرواية بشكل أقوى؟
يقدم ماكنتي البداية بشكلٍ هادئٍ على نحو ملحوظ، ما يوحي في البداية بتأثير نفسي عميق وأثر بالغ في إيقاع القصة. ومع أن المشهد يبدو مألوفا وهادئا، إلا أن الأجواء التي تحيط بكايلي تنطوي على شيء خفي، على مستوى التوتر والتهديد. تأخذ الرواية منحى مفاجئا حين يظهر الرجل المسلح فجأة أمام كايلي، حاملا مسدسا موجها نحوها، ما يغير مجرى الأحداث بشكل مفاجئ ويخلق تحولا دراماتيكيا مميزا. هذا التحول السريع من اللحظة الطبيعية إلى التهديد العنيف هو ما يعزز التشويق ويشعل جذوة الإثارة في نفس القارئ، ما يجعله متسائلا حول مصير كايلي في هذا الموقف المروع، فهل استطاع ماكنتي أن يعكس ببراعة تحول الحياة العادية إلى واقع مرير مليء بالخوف والتهديد؟
تُظهر الرواية براعة الكاتب في استخدام العنصر النفسي كأداة أساسية لخلق التوتر، إذ لا يتوقف البناء الدرامي على التهديد المباشر، أو العنف المادي فقط، بل يعتمد في جوهره على توظيف الصراع الداخلي للشخصيات. كايلي، وهي في لحظة تهدد حياتها، تُظهر ردود فعل غير متوقعة. يبدأ ذهنها في العمل بسرعة محاولا إيجاد منفذ للهروب، وتبدأ في تطبيق تقنيات التنفس التي تعلمتها من صفوف اليقظة الذهنية لتساعدها على الحفاظ على هدوئها وسط الفوضى. هذا الاختيار للمؤلف يجعل الشخصية أكثر تعقيدا، حيث لا تُعرض كضحية خاملة، بل كإنسانة تسعى للتفاعل مع المخاطر والتعامل مع تهديدات حياتها بطريقة عقلانية. فهل التغير المفاجئ في مجرى الأحداث يستثير القارئ ليجعله غير قادرعلى الإفلات من قبضة الرواية؟ إن تصوير الصراع الداخلي لبطلة القصة يتداخل مع أفعالها الخارجية التي تتمحور حول النجاة. فالكتابة تتسم بالدقة وتستخدم لغة بسيطة ولكنها مشحونة بالتحديات والجرأة المعقلنة، حيث يستمتع القارئ بكل لحظة من توتر الأحداث، بدءا من الأفكار التي تراود كايلي وصولا إلى تصرفاتها الهادئة والمضطربة في آن واحد. المؤلف، من خلال هذه التوازنات الدقيقة بين مشاعر البطلة وحركاتها، يخلق جوا من القلق المستمر في نفوس القُرّاء، ما يجعلهم على أهبة الاستعداد لكل حدث مفاجئ.

في نقطة أخرى من الرواية، نجد أن كايلي، مثل العديد من الشخصيات المعقدة، تُقدّم لنا في مشهد آخر، حين تشعر بحالة من التشتت النفسي الذي تزداد وطأته عندما يتم استهداف عائلتها. هذا التناول الفعّال للقلق يعكس قدرة المؤلف على إبراز الطابع النفسي لشخصياته، حيث يتم خلط الصراع الخارجي بالصراع الداخلي. على الرغم من أن كايلي تحت تهديد جسدي واضح، فإنها تجد نفسها أيضا في صراع داخلي مع قلقها العاطفي. السرد يعكس ذلك التداخل بين اللحظات العاطفية والأحداث الدرامية التي تتوالى عليها بشكل مفاجئ، وهو ما يعكس تمسك البطلة بالأمل في اللحظات الأكثر ضبابية من حياتها، إضافة إلى الشخصية الرئيسية كايلي، نجد أن الشخصيات الأخرى مثل الرجل المسلح والمرأة المرافقة له، رغم كونهم جزءا من التهديد المباشر، يتم تصويرهم بشكل يُعطيهم أبعادا إنسانية وتفسيرا نفسيا معقدا. العلاقة المتوترة بينهم تُظهر جانبا نفسيا آخر من خلال تفاعلاتهم. لا تُظهر الكتابة هؤلاء الأفراد كمجرد أشرار عاديين، بل تُلقي الضوء على التشتت الأخلاقي في داخلهم، خصوصا عندما يظهر الرجل في حالة ضياع وارتباك بعد إطلاق النار على الشرطي. هذا التناول المتعدد الأبعاد يعزز من التوتر النفسي في القصة ويجعل القارئ يواجه أسئلة أخلاقية عميقة حول الدوافع الإنسانية وراء الأفعال.
الكاتب يختار أيضا التصوير الدقيق للانعزال النفسي الذي تعيشه كايلي أثناء وجودها في القبو، وهو المكان الذي يعكس تماما حالة حصارها النفسي والجسدي. مع ظهور ضوء أمل في ذاكرة كايلي عن قصص الفتيات المفقودات، مثل إليزابيت سمارت، يتم إحياء رغبتها في المقاومة. هذا التصوير يعزز من معاناتها، ولكن في الوقت ذاته يقدم نافذة للأمل، حتى إن كان ضئيلا. هناك تداخل بين الزمن والمكان في هذا الجزء، حيث نشعر بأن الوقت يمر بشكل مختلف بالنسبة لها؛ فهي لا تستطيع تحديد متى حدث ما يحدث من حولها، ولكنها تدرك تماما وقع الأحداث على حياتها.
تتسم هذه الرواية بعمق درامي في استعراض الصراع الداخلي لرايتشل، التي تكافح بين طيف مرضها السرطاني، وتهديدات الحياة التي تطرأ عليها. في الجزء الأول من الرواية، نجد رايتشل في طريقها لفحص روتيني، ولكنه سرعان ما يتحول إلى حالة من القلق المستمر على صحتها، وعلى ما قد تكشفه الفحوصات. التوتر النفسي الذي يتخلل هذه اللحظات يُظهر براعته في جعل القارئ يعيش كل لحظة من هذا القلق، ويتساءل مع رايتشل عن مصيرها. يتداخل الصراع الداخلي مع الواقع المحيط بها، حيث تواجه تحديات جديدة تتعلق بحياتها الشخصية والمهنية، بينما تبقى تحت تهديدٍ دائم. يتميز النص باستخدام لغة حادة، تملؤها الرمزية التي لا تقتصر فقط على الأحداث، بل تشمل أيضا العلاقات والشخصيات. الرمزية في الرواية هي أداة مهمة تمكّن القارئ من الدخول إلى أبعاد أعمق للحالة النفسية للشخصيات، فمثلا تظهر الكتب في القبو كرمز للهروب من الواقع المؤلم. أيضا، سلاسل الحديد التي تُستخدم لتقييد كايلي قد تمثل كبحا داخليا لروحها، إضافة إلى أبعاد أخرى تتعلق بالاحتجاز الجسدي والنفسي. إن استخدام التقطيع الزمني غير التقليدي في الرواية يُقدّم لنا تسلسلا غير منتظم للوقت، فيؤكد لنا أن الأزمات النفسية تتلاعب بالزمن بطريقة مختلفة. تتداخل الذاكرة مع اللحظة الراهنة، ما يعزز من التوتر والشعور بالعزلة فهل البناء الدرامي المتقن هو الجاذب الحقيقي للقارىء لهذه الرواية؟

الرواية هي عبارة عن مزيج من التشويق النفسي، الصراع الداخلي، وعمق الشخصيات. ببراعة الكاتب في إدارة التوتر النفسي، بناء الشخصيات، وتوظيف الرمزية، ينجح النص في دفع القارئ للتفاعل مع كل لحظة من القصة. القارئ لا يكتفي بمجرد مشاهدة الأحداث، بل يعيشها من خلال عيون الشخصيات، ويغوص في أعماق تجاربهم النفسية والعاطفية. من خلال هذه الرواية، يتم عرض الواقع بشكل مرعب وواقعي، حيث يتشابك الخوف مع الأمل في محاكاة للواقع الذي نعيشه، والذي لا يمكن التنبؤ بمفاجآته. فهل يشعر القارىء بتركيز قوي على التصوير النفسي للمأساه التي تمر بها شخصيات هذه السلسلة المحبوكة روائيا بقوة ؟

كاتبة لبنانية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية