التفاصيل المتناهية الصغر

حجم الخط
1

■ ما الذي تحدثة الأشياء الصغيرة أو المتناهية الصغر؟ في مشوارنا اليومي نعبر من أمام أشياء كثيرة، من دون أن نعيرها اهتماما أو لا نلتفت نحوها، ولا نهتم أصلا بالتفاصيل ولا بالاشياء الدقيقة، فقط لأنها لا تشكل شيئا مهما، هي صغيرة جداً، وقد تكون متناهية الصغر، هي تلك الأشياء التي نتجاهلها ولا تثير اهتمامنا.
قد لا تخلو حياتنا من مصادفات ووقائع ربما تكون غريبة، نتركها ملقاه لا نعيرها أي اهتمام، ربما لعدم أهميتها أو لقلة حجم تأثيرها علينا. الفراشة التي نصادفها أكثر ما يثيرنا فيها، وهي ترفرف، ألوان أجنحتها الزاهية الجميلة، يحدث ذلك من دون أن نفكر ما الذي توحيه تلك الخفقات لتلك الأجنحة وما تحدثه من تأثير تلك الخفقات المتناهية الصغر.
ما الذي يحدث لك عندما تضع أمك يدها بحنان على كتفك، أو صديق لك يواسيك ويربت بكفه عليك. ما الذي تحدثة الابتسامة العابرة، أو الكلمة الطيبة التي تقال. مفعول الكلمة ووقعها شيء سحري لا يقاومه شيء، فهي الشجرة الطيبة كما وصفها الباري عز وجل. وقال تعالى « أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ». وهي الصدقة التي تسري في نفوس الفقراء والمحتاجين ، كما وصفها النبي محمد (ص) «الكلمة الطيبة صدقة». البعوضة مخلوق صغير جداً، ربما لا يرى لكن الله عز وجل ضرب بها مثلا لعظمة تأثيرها.
الكلمة الطيبة التي يلقيها كل يوم ذلك العامل على الحارس، هي التي أنقذته من الهلاك. تقول الحكاية بأن عاملا في مصنع الأسماك دخل في ثلاجة الأسماك لينجز بعض الأعمال، فسقط هناك وأخذ يصرخ من دون أن يسمعه أحد، ومرّت الساعات عليه وهو في الثلاجة وكاد أن يتجمد، لولا ذلك الحارس الذي ذهب وفتح الثلاجة وأنقذه. فلما سأله صاحب المصنع كيف عرفت به؟ قال: منذ ثلاثين سنة وأنا أعمل هنا، يدخل المصنع العشرات من الموظفين والعمال، وهو الوحيد الذي يلقي عليّ التحية ويسألني عن حالي، وعندما افتقدته في نهاية اليوم ولم يخرج مع العمال، ولم أسمعها تلك الكلمة منه، فعلمت أنه في المصنع فبحثت عنه فوجدته.
تصور حبات صغيرة جداً غير مرئية من الغبار تتراكم يوميا على سطح طاولة المكتب، بعد فترة طويلة، ماذا سيكون تأثيرها فيك؟ سوف تصاب بالعطس والزكام والحساسية وقد تقعدك تلك الحبات المتناهية الصغر الفراش لأيام.
تحفل حياتنا بالتفاصيل الدقيقة، قد تكون منجاة وتكمن فيها حياة وبهجة. في الأدب اشتهر شعراء كثر بالاحتفاء بالتفاصيل الدقيقة اليومية والصغيرة التي قد لا يلتقطها أي أحد. أذكر منهم الشاعر العراقي سعدي يوسف، محمد الماغوط ، صلاح عبد الصبور، سيف الرحبي، وغيرهم. ليس من شيء كالسياسة تهتم بالتفاصيل والأشياء الصغيرة الدقيقة جداً. في القرآن نرى كيف دخل بنو إسرائيل في جدال مع النبي موسى، وأرادوا أن يعرفوا التفاصيل الدقيقة عن البقرة التي أمرهم الله أن يذبحوها. في التفاصيل الدقيقة يكمن الشيطان كما يقال. في عام 1960 كان إدوار لورنز العالم الفيزيائي والمراقب الجوي قابعا في المختبر في معهد ماساشوستش للتقنية، يرقب من نافذة مكتبه الطقس وتقلباته، من دون أن يعلم بأن تلك اللحظات التي يراقب فيها الطقس قد تضع اللمسات الأولى لنظرية علمية مبنية على مراقبة الطقس والمناخ وتقلباته، ومن دون قصد تبين للورنز أن تغييراً طفيفاً في المنظومة الجوية قد يغير كل التنبؤات الجوية، وأدرك أيضا أن الأحداث الأولية الطفيفة قد تؤثر في عمل المنظومة ككل، وأن الأشياء الصغيرة التي غالبا ما يتم تجاهلها ينتج عنها تأثير كبير قد يقلب الكثير من الموازين.

ما نريد أن نقوله بأنه ليس هناك في الكون صدفة لأمر ما، وما الأشياء الدقيقة بتفاصيلها إلا ووراءها حكاية وحكمة. الكون كله وطبيعته مبني على أنظمة وقوانين تحكمه وموازين تضبط إيقاعه. كم هي محيرة تلك الأشياء الصغيرة جداً.

علميا فكّر إدوارد لورنز بما تفعله حركة رقم عشري ضئيل جدا يشبه تأثير حركة خفقان أجنحة الفراشة، الذي يؤدي إلى تحول مسار أعاصير مثلا من أستراليا إلى البرازيل.. أو قد يمنع حدوث إعصار آخر في مكان آخر من العالم، وهذا ما عرف علميا تأثير أجنحة الفراشة، إذ ينتج عن خفقان أجنحة فراشة واحدة، تغيير صغير في حالة الغلاف الجوي، وعلى فترات متفاوتة من الوقت، ومن ثم في مدة قد يحدث تغير في الغلاف الجوي غير متوقع، وبذلك قيل بان ضربات أجنحة فراشة في هونغ كونغ، قد تغير أساليب الأعاصير في تكساس.
إن تأثير أجنحة الفراشة وخفقان أجنحتها، وما تحدثه من حركات متناهية في الصغر غير مؤثرة في حينه، أوحـــــت بنظـــرية علمــــية شائعة متعارف عليها. خرجت تلك النظرية العلمية من رحم المختبرات الفيزيائية،عرفت فيما بعد بنظرية الفوضى (Chaos Theory). تقول النظرية إن التغير البسيط الذي يحدث في البداية، يمكن أن يحدث تغيرات هائلة على المدى الطويل، والأحداث العشوائية غير المنظمة تتجمع مع بعضها بعضا في منظومة متماسكة ينتج عنها تأثير بالغ الخطورة، وإن الأشياء العشوائية التي لا يحكمها قانون قد تكون جزءا من منظومة أكبر بالغة التأثير ولها قوانين خاصة. في كتابه الرائع «نظرية الفوضى وعلم اللامتوقع» يعرض جيمس غليك، تجارب ومحاولات نخبة من علماء الفيزياء والرياضيات والبيولوجيا والكيمياء، المشتغلين على ظواهر الاضطراب والفوضى (الكايوس) تلك الظواهر التي مازالت تحير العلماء، فهم يبحثون في الظواهر المغايرة لما اعتادوا عليه علميّاً، مثل الفشل «المحتوم» للتوقعات الفلكية طويلة الأجل، وتحولات الأنواع الحية وأعدادها، وحركة أمواج البحر، والتذبذب في عمل القلب والدماغ، وسبب الخلل المفاجئ في الكمبيوتر وغير ذلك من ظواهر مشابهة.

نظرية الفوضى تستخدم بجانب تلك الظواهر لمعرفة تغيرات أسواق المال والشركات الكبرى والسياسة الخارجية؛ بل لمعرفة التقلبات المزاجية اليومية في حياتنا العادية، كما قال أحد الباحثين، إن صرخة عادية في الشارع توقظ نائما متعكر المزاج، ينتهي به اليوم مستقيلاً من عمله، أو ابتسامة جذابة من زوجة المدير، تنهي يوم موظف عادي وقد ترقى في وظيفته. إن المتتبع للأحداث التي تمر بعالمنا والكوارث التي تعصف به من كوارث طبيعية، ناتجة عن غضب الطبيعة كالأعاصير والفيضانات والزلازل، أو كوارث سياسية مفتعلة، يدرك ما ذهب إليه لورنز في نظريته أن خفقات صغيرة من أجنحة فراشة قد تؤدي في نهاية المطاف إلى كارثة بيئية كبيرة لها قوة تدميرية. وهذا يذكرنا بالطبع بالأنواء المناخية التي مرت ببلدنا، وتفسيرات المختصين عن الأسباب التي أدت إلى حدوث إعصار جونو، وبعده فيت، بأن تلك الأعاصير ناتجة عن رياح صغيرة مقبلة من آسياظن تجمعت في بحر العرب، أو المحيط الهندي، وبمعنى آخر لعل فراشة خفقت بأجنحتها في الصين، وخلقت تأثيرا كبيرا في الغلاف الجوي نتجت عنه أعاصير مدمرة. أثر الفراشة لا يرى.. أثر الفراشة لا يزول. كما قال محمود درويش.
في ذاكرتنا العربية الجمعية شي من هذا القبيل، معظم الأشياء الكارثية الكبيرة تبدأ من الأشياء الصغيرة، فكما قيل بأن معظم النار من مستصغر الشرر. لا أحد ينكر أن أشياء صغيرة جدا تحدث لا نعيرها أدنى اهتمام، وغالبا ما نتجاهلها ونركلها بعيدا، قد يصيب أحدا جرح صغير لا يهتم به، يكون سببا لمرض عضال والأمثلة كثيرة في ذلك. ليس بعيدا عن المعنى، سوف توحي الفوضى بأن نظرية الفوضى، سوف يستدعيها عباقرة العولمة واستراتيجيها من الذاكرة، فيطلقوا مصطلح الفوضى الخلاقة لضمان الهيمنة والتفتيت للعالم وتلك عوالم أخرى.
ما نريد أن نقوله بأنه ليس هناك في الكون صدفة لأمر ما، وما الأشياء الدقيقة بتفاصيلها إلا ووراءها حكاية وحكمة. الكون كله وطبيعته مبني على أنظمة وقوانين تحكمه وموازين تضبط إيقاعه. كم هي محيرة تلك الأشياء الصغيرة جداً.

٭ كاتب عماني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول fahd:

    مقال رائع تحياتي

اشترك في قائمتنا البريدية