التفكير بالحب في رواية «عناق عند جسر بروكلين» لعز الدين شكري فشير

جود عدد من الروائيين النظر إلى الحب في متونهم السردية على نحو ما نجد في المدونة الروائية مثل «أنا كارنينا» لتولستوي، و«قصة الدفتر» لنيكوس سباركس، «والحب في زمن الكوليرا» لغابرييل غارسيا ماركيز، و«آمال عظيمة» لشارل ديكنز، و«إيما» لجين أوستر، و«مدام بوفاري» لغوستاف فلوبير، و«أحدب نوتردام» لفيكتور هوغو، و«الكبرياء والتحيز» لجين أوستن، و«ذهب مع الريح» لمارغريت ميتشل، و«الليل والنهار» لفرجينيا وولف، وصولا إلى رائعة مارك ليفي «ماذا لو كانت واقعية».
ويكاد الحب يشكل ثابتا في المتن الروائي العربي ارتباطا بسياقاته الاجتماعية والنفسية، وإن كان يقدم بشكل بانورامي، أو بأشكال مؤسطرة، أو مأساوية. لكننا رغم كل هذا المنجز لا نكاد نتوفر على تاريخ لمتخيل الحب في السرود العربية، ولا لرؤى نقدية مكتملة لتمثلاته في مجمل هذه السرود، التي تخلق لدى القارئ انطباعا مفاده أن مهمة المبدع ليست هي سبر أطراف الزمن الروائي بألوان الحب، إذ لا سبيل إلى ذلك في غياب بنى واضحة لمتخيله المخصوص. ولكتابة تعي تقلبات الحركة السردية والالتباس، والتوتر الذي يخلقه الحب، كاتصال ونفي. والحب انطلاقا من تجارب روائية عربية اتسم بقدرته على خلق الوهم، في ظل واقع الهشاشة، فالذات الإنسانية تتغذى في وجودها من هذا الحب. وتاريخه، هو تاريخ تأويل العلاقة بين الذات والآخر. الآخر بوصفه العالم، أو بوصفه الجحيم في اكتماله. وسينتج عن هذا التمثل تشييدا جماليا للأحاسيس في أرض الكتابة، وتجسيدا اللامرئي عبر أداة المعنى.

 يتجه الحب في هذا العمل نحو المجهول، لأنه لا يروم تقديم نهاية بسيطة لدراميته المؤثرة، ولا للحلول التعويضية المقدمة أمام التباس مصائر الشخوص.

إن تهميش الحب ارتبط بهيمنة ما سمي بالواقع، والأيديولوجيا وبالمادية والعقلانية ما أدى إلى نسيان الوجدان، وبالتالي ضياع متخيل الحب. غير أن فصول رواية «عناق عند جسر بروكلين» للروائي المصري عز الدين شكري فشير، تكشف أن الحب يتجه في هذا العمل السردي يتجه نحو المجهول، لأنه لا يروم تقديم نهاية بسيطة لدراميته المؤثرة، ولا للحلول التعويضية المقدمة أمام التباس مصائر الشخوص. فالمشهد الوصفي للرجل العجوز الجالس على مقعده يشكل منطلقا بنائيا لتطور المحكي السردي وتعالقاته الاجتماعية والنفسية، مادام مهددا بالزمن المحدود لحضور المدعويين (يوسف، سلمى، رامي، ليلى) لحفلة عيد الميلاد في نيويورك. سيصلون في الثامنة وينصرفون في الحادية عشرة والنصف.
وفي انتظار الموعد المحدد تخطر في بال العجوز فرز المكتبة القديمة. الجد سينتقل إلى الشاليه وعليه أن يأخد معه جزءا من مكتبته، حسب الحسابات الدقيقة للرفوف والمساحة، ونوعية الكتب وقيمتها العلمية.
الجد باع بيته لأنه أصيب بسرطان متقدم في الرئة، وقد رفض العلاج الكيميائي فعلم أن حياته باتت محدودة، لذلك اتصل بليلى لترسل له سلمى لقضاء شهر معه ليراها قبل موته. وفي انتظار الحفلة تتساوق الأحداث فيتذكر العجوز جين صاحبة الشعر الكستنائي، حين كان يعد أطروحة دكتوراه في القاهرة، وهي التي جاءت إلى القاهرة لتعلم اللغة العربية لمدة عام في إطار منحة تدريبية. وابنه يوسف الذي لا يحب القراءة، ويما التي اهتمت به وبالبيت. وزينب اللطيفة والرقيقة والجذابة والذكية التي التقى بها في المستشفى الذي كانت تعمل فيه حين كانت أمه تخضع للعلاج. أتت إلى بيته للعناية بأمه بطلب من الجد وموافقة الطبيب. ورغم الفرق الكبير في السن وفي أشياء أخرى «لكن السن لم يكن الفارق الوحيد بينهما: فهو سريع وهي بطيئة، هو شديد التركيز وهي تائهة، وهو حاد الطباع وهي حساسة، هو طموح ومصمم، وهي حالمة ومتشائمة، هو شديد الاهتمام بالأمور الفكرية وهي لا، هو شديد الكبرياء لدرجة الغرور وهي شديدة التواضع لدرجة التهاون،
هو حريص على حماية صورته أمام الناس وهي مستسلمة لاستهانة الناس بها، هو يكره الناس لكنه يجبر نفسه على الانخراط معهم، وهي تحب الناس لكنها تنأى عنهم، هو مناور وهي صريحة، هو يلمع وهي هادئة، هو خبير بالحياة وهي مبتدئة.»
ورغم كل هذه التناقضات انجذب إليها بقوة فوقعا معا في الحب. هي صرحت له أثناء إصابته بالحمى أنها أحبته منذ أن رأته أول مرة، وأنها لا تعرف كيف ستعيش بعد أن يتركها. وحين وضعت قبلة طويلة ودافئة على شفتيه تزوجها. وحين غاب الحب عن البيت انهار درويش ومعه الأسرة، وأصبحت حياتهم حربا مستمرة. فرحل درويش مع زينب تاركا طفلين هما عازم ويوسف. غير أن زينب لم تتأقلم مع الحياة في نيويورك وكانت قرارات درويش الصارمة عائقا آخر لزينب زادت من الهوة الكبيرة بينهما. وبعد رحيلها عزفت نفسه عن النساء.
روائية الحب في «عناق عند جسر بروكلين» ترتبط بقوة الأحاسيس وبالاختلالات الاجتماعية والنفسية. وبالروابط الفكرية. روائية الحب ترتبط بالمكان وبالهوية وبتعدد الأصوات والمصائر وبسطوة الحنين، وبحالات الإخفاق الممتدة عبر فصول هذا العمل السردي، الذي قدمه الروائي عز الدين فشير وفق هندسة دقيقة تشبه ثمانية أفلام سينمائية منفصلة ومتصلة في الوقت نفسه. ذلك أن آليات التصوير السردي وجماليات الوصف المساهم لغويا في التشكيل البصري تبعا لرؤية السارد من غير توقف للتسلسل الانسيابي للسرد. وينطلق التشكيل السردي لهذه الرواية من شخصية الدكتور درويش المصري الأصل والمنتمي إلى ما يسمى بعرب أمريكا. وحمل الفصل الثاني درامية الحياة لدى رامي، في حين خصص الفصل الثالث لسلمى الشخصية المهيمنة في الرواية. أما الفصل الرابع فقد خصص لجيمي زوج أميرة، العارف بتفاصيل سياسية دقيقة مثل، أحداث 11 سبتمبر/أيلول، والمسكون بحنين نحو الماضي مثل حرب 1967. ويرصد الفصل الخامس علاقة لقمان بالهولندية ماري. وارتبط الفصل السادس بعدنان القاطن في فرجينيا.
وخصص الروائي عزالدين فشير الفصل السابع لرباب، التي تحاول اللحاق بموعد حفل الميلاد، لكنها تخفق مثل الشخصيات الأخرى. وخصص الفصل الأخير لمحطة «بن» حيث تجتمع المصائر لتحقق الفشل الذريع في حضور الموعد الذي حدده الجد الدكتور درويش للقاء أحبته قبيل موعد موته المؤجل. وتبعا لهذه السياقات التعبيرية وما تحمله من مكر دلالي فإن رواية» عناق عند جسر بروكلين» هي رواية الحب غير المكتمل.

تكشف رواية «عناق عند جسر بروكلين» لعبة السياسة، وتقاطعات القيم، ومركزية المعرفة، وأوهام الأصولية، والهوية غير المكتملة، وتشظي الذات في علاقتها بالغير.

يلتقي لقمان مع ماري عند جسر بروكلين، ورغم الحب المتبادل بينهما والعناق الحار فإنهما يفشلان في الزواج. أمام استحالة استقراره في لندن، واستحالة استقرارها في القاهرة. فيظل بصمت حبها معلقا بجسر بروكلين. غير أن تحقيق عدالة مفقودة من قبل الجد الدكتور درويش دفعته للتفكير في جمع شمل العائلة في حفل عيد الميلاد، الذي يفترض أن يبدأ في الساعة الثامنة وينتهي في الساعة الحادية عشرة والنصف ليلا، لذلك وجه درويش دعوة لابنه يوسف الذي تأخر في الوصول هو الآخر إلى الحفل، ولسلمى ضيفة الشرف التي تأخرت بدورها. فلا أحد يصل في الموعد المحدد. وهذا الإخفاق المرتبط بالفصول الثمانية، يجسد تعدد الرؤى واختلاف الهويات. ومع وصول هذا الإخفاق إلى درجة الصفر في الفصل الأخير للرواية الموسوم بمنتصف الليل في محطة «بن»، فالكل يحاول أن يسترد الزمن ليصل في الموعد المحدد أو بعده بقليل. وينبغي الإشارة إلى أهمية هذا الإخفاق وقدرته على تفكيك المماثلة مع الواقع الذي تتشكل وتنمو تحت جناحه مشاعر الحب في عوالم ملتبسة.
إن الدكتور درويش الشبيه بشوبنهور في دقته وهواجسه وشكه، هو الرابط بين كل أحداث الرواية وشخوصها ، كان يعتقد أن الحياة تسير وفق المنطق والعقل، لكنه سيفكر بموجب الحب الإنساني مرتين. الأولى حين فكر بالزواج من زينب نقيضه في التفكير وفن العيش، والثانية حين فكر في إقامة حفلة عيد الميلاد رغبة منه في صناعة فرح قبل رحيله المحتوم. وهكذا قدم عز الدين شكري فشير رؤيته للوجود . فكان الحب أفقا لتعدد التصورات حول الوجود بالذات وبالعرض، وسيتمكن من إعادة اكتشاف الحياة، لأنها ليست نسقا مغلقا.
وعلى هذا النحو يغدو التفكير بالحب ليس بالأمر الهين، ذلك أن باراديغم الحب ارتبط بعسر الكتابة عنه، كما هو الحال لدى نيتشه وهيدغر، بل حتى لدى تلامذته مثل حنا أرندت وليفيناس. وستبرز المفاجأة في الرؤى التي قدمها بول ريكور للحب حين ربطه بالعدالة، «الحديث عن الحب أمر سهل جداَ أو قل عنه صعب جدا. كيف يمكن الحديث عن الحب من دون الوقوع في المدح او في الابتذالات العاطفية؟ إن إحدى الطرق في شق منفذ بين هذين الحدثين تكمن في الاسترشاد، عبر فكر تأملي، بالجدلية القائمة بين الحب والعدالة.»
لا يؤسس عز الدين شكري فشير «دزاين» روايته وفق رؤية أحادية، أو صوت وحيد، لأن موضوعية التفاصيل جعلت التشكيل الروائي وطيد الصلة بالعالم، وفي كل فصول الرواية الحب يعيد نسج علاقاته بالذوات والعالم وفق منظور هيرميونيطيقي يخرج عن سلطة الحب بالمعنى الإيروسي، ليرتبط بالتوتر، وتجاذب العلاقة بين الذات والعالم، وبالهوية غير المكتملة.
لقد فهم الدكتور درويش بعد فشل مشروع الذاتية المحضة المتعالية، أن الذات لا توجد إلا في علاقتها بالآخر، فالعالم أفق مفتوح، ومن هنا تأتي رغبتُه في الانفتاح والتفاعل في أفق مشتركٍ لتحقيقِ الاحتفاليةِ قبل الشروع في الغياب. وكأن الدكتور درويش كان عليه أن يمر بكل هذه الاختلالات كي يدرك ماهية الوجود الإنساني، لكنه وهو في مرحلة حرجة من مرضه لم يستطع أن يغير عالمه بشكل جذري، ولكنه يتطلع لتحقيق الفرح.
لقد أثبتت تفاصيل الرواية أن الحبَ لا يمكن تجنبه ولا يمكن تحققه بدون غيرية ترسخ ضدية تستعيد كينونة الذات وتحركها في كل الاتجاهات، لتعيد تشكيل فن العيش مع ومن أجل الآخرين. والتفكير في الحب يتساوق مع الصيغ الشعورية، ومع الوصف السيكولوجي وما يقابله من تمثلات. ترتبط بالمشاعر والخواطر والذكريات والقلق. ورغبة جامحة في التعاطف مع الجد من لدن شخصيات متباعدة في الأماكن، وفي مرجعياتها الأخلاقية والفكرية، وفي نمط عيشها وفي أفقها، لكن المشترك الإنساني هو المنتصر في مسارات الإخفاق. والحاجة إلى الحب لدى هؤلاء، ولدى العالم المعاصر- بالمعنى التأويلي للرواية – هي المولدة للرغبة في صناعة الفرح.
إن رواية «عناق عند جسر بروكلين»، تكشف لعبة السياسة، وتقاطعات القيم، ومركزية المعرفة، وأوهام الأصولية، والهوية غير المكتملة، وتشظي الذات في علاقتها بالغير. وتؤكد أن الإنسانَ لا يمكن أن يعيش وفقا لمنطق صارم، لأن الصدفوي يستطيع تحقيق السعادة على نحو مدهش. بيد أن إنجازات الفرد العقلانية يمكن أن تتحول بالقوة نفسها إلى أداة لتدميره، كما حصل للدكتور درويش ومن هنا تنبع الحاجة إلى الحب كمؤسس للابتهاج. وهذا الطموح لا يمكن أن يتحقق إلا بالابتعاد عن الحلول التعويضية، والتفكير فيه بوصفه سيرورة من التجارب الترميزية، ومن هنا فالحب يمتلك إرادة تحققه الأنطلوجي في مآزقه، لأن الحب الحقيقي يكمن في انخراطه في الاختلالات وليس في التحليق فوقها. وتبعا لرواية «عناق عــــند جسر بروكلين» فما ينقد العالم من عقلانيته القاتلة، وأدلجته الاستبدادية، هو الحب بوصفه كائنا حيا يشيد مسكنه في الحلم المؤجل.

٭ باحث في جماليات التعبير

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول ابوتاج الحكمة.شاعرسوري.باريس:

    ( عبدالسلام دخان ) قد سما وعلا:
    بخور مسك وعن نجوى القلوب جلا!

اشترك في قائمتنا البريدية