التفلسف في عصر بلا حكمة

الشائعُ أنّ الفلسفة هي صانعة المفاهيم، وأنّها بنت متخيّلها الميتافيزيقي على وجود انقطاع بينها وبين الحياة، كما لو أنّ التفلسف هو ضرب من استحالة التفكير في ما هو يومي، وهو بالذات مركز الإشكال المؤرّق اليوم بالنسبة للفلاسفة. يُمكن التذكير بفكرة جوهرية طرحها الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر حول نهاية الميتافيزيقيا، الذي اعتبر التقنية بديلا عن الفلسفة.

هل التخصص مشكلة؟

لقد انشغل الفلاسفة والمفكرون المعاصرون بقضية التخصصات المعرفية وتشعباتها، ما أدّى إلى بروز شخصية (الخبير) أو (المتخصص) في حقل معرفي بذاته، والذي أدّى إلى عزل الفلسفة، التي تبدو أنّها غير معنية بالتقسيمات العلمية الدقيقة، فالصرامة التي تتمتع بها الحقول العلمية تأتّت من تعريفها الدقيق لحدودها، فهي تعرف أين تبدأ وأين تتوقّف. من هنا جاء مفهوم «التناهي» الذي يعني، وجود حدود فاصلة بين الحقول المعرفية والعلمية المُختلفة. كظهور الخبير، وانتشار التخصصات العلمية والتقنية، التي كانت لها آثار على صعيد علاقة المعرفة بالحياة، لأنّ هذه التخصصات العلمية أحاطت نفسها بلغة تقنية لا يرقى إليها الناس العاديون.
في هذا السياق، ناقش الفيلسوف الفرنسي ميشال دو سارتو هذه المسألة في كتابه «ابتكار الحياة اليومية»، لما تحدّث عن الاختلاف بين الخبير والفيلسوف، فاعتبر الخبرة العلمية مصدرا للسلطة، وهو الفرق بينه وبين الفيلسوف، هذا الأخير تتحدد وظيفته في صياغة التساؤلات العامة أمام التوسع الكبير للحقول العلمية والتقنية. ومع ذلك فإنّ «الخبير يحذف (وبوجه ما يعوّض) الفيلسوف الذي كان متخصصا بالأمس في ما هو كوني» (دو سارتو: «ابتكار الحياة اليومية» ترجمة محمد شوقي).
نستنتج بأنّ التخصص مضاد للفلسفة، بل كلما تدخلت العلوم في معالجة الظواهر أدى ذلك إلى إبطال عمل الفلسفة، لأنه في اللحظة التي ينتمي فيها شيء ما إلى مجال المعرفة يتوقف ذلك الشيء عن أن يكون فلسفيا، على حد تعبير أندريه كومت ـ سبونفيل.

الفلسفة وهواجس اليومي

في كتاب الفيلسوف الفرنسي أدغار موران «تعلم الحياة: بيان لتغيير التربية»، يمكن قراءة واقع الفلسفة اليوم من هذه الزاوية الإشكالية، أي زاوية التفكير الفلسفي في الحياة، وكذلك حضور الفلسفة في المقررات التعليمية في المدارس، وهي الفضاءات الأساسية لبناء عقول المستقبل.
لقد طرح موران قضايا جوهرية للمناقشة، تمسّ أساساً علاقة الفلسفة بالحياة، متسائلا: ما معنى العيش؟ وهل يختلف العيش عن البقاء على قيد الحياة؟ (يجب أن نلاحظ بأنّنا ننتمي إلى مجتمعات لا تمتلك ثقافة العيش إلا في الحدود الدنيا، التي تضمن البقاء على قيد الحياة، لهذا تجد بأنّ أكبر هاجس بالنسبة للأغلبية الساحقة هو ضمان لقمة العيش، وفي غمرة البحث عن تلك اللقمة تطمس الحاجات الحياتية الأخرى، التي تبني من خلالها ثقافة العيش، مثل الاهتمام بالفنون والسفر، والتسلية والنشاط الرياضي، إلخ وفي مقابل كل هذا، فالمجتمعات التي ننتمي إليها تحمل تصورا سلبيا للحياة، باعتبارها مجرد جسر للعبور إلى العالم الآخر (الذي هو عالم أفضل) وبذلك، لا تغدو الحياة إلا مجرد وسيلة لتحقيق هذا الرجاء الأخروي. إنها مجتمعات أخروية في الأساس، تقيس وجودها على توقيت الآخرة).
وتزداد وجاهة هذه الأسئلة في هذا العصر الذي ننتمي إليه، والذي ينحو نحو تهميش الإنساني، بإلقاء الإنسان بين أنياب الغول الاستهلاكي. فالحياة المعاصرة أزاحت قيمة الإنسان ليتم استبدالها بقيمة الأشياء، وهذه القيمة تخضع لقانون السوق.

إنّ مهمة الفلسفة اليوم هي الانتباه إلى فن العيش، الذي عرّفه موران بأنّه القدرة على إثراء خصالنا واستعداداتنا الخاصة، ومن شأن هذه الوظيفة أن تنتشل الفلسفة من الدوائر الضيقة للتخصصات المعرفية، وتحررها من قاعات الدرس.

ما معنى فن العيش؟

إنّ مهمة الفلسفة اليوم هي الانتباه إلى فن العيش، الذي عرّفه موران بأنّه القدرة على إثراء خصالنا واستعداداتنا الخاصة، ومن شأن هذه الوظيفة أن تنتشل الفلسفة من الدوائر الضيقة للتخصصات المعرفية، وتحررها من قاعات الدرس. فلم تعد البرامج الدراسية تولي اهتمامها لفلسفة العيش، أي لم يعد التفكير في الحياة هاجسا فلسفيا ولا تربويا. يقول موران موضّحا موقفه: «لابد أن نكفّ عن اعتبار الفلسفة اختصاصاً حتى تصبح محركا ودليلا في تعليمنا لفن الحياة. ولابد أن تعود من جديد سقراطية أي أن تثير الحوار والنقاش بدون انقطاع».
إنّ التفكير في الحياة هو بهذا المعنى استعادة للروح السقراطية، حيث تسترجع الفلسفة مقدرتها على التفكير والمشي في الطرقات والسعي في المدينة، بحثا عن الحقائق الحيوية، التي لا يمكن بلوغها إلا بوجود الآخرين، ومشاركتهم في بنائها من خلال روح المناقشة وروح الحوار. وعلى الرغم من أنّ الواجهة العامة اليوم تُوحي بأننا ننتمي إلى عصر وسائل التواصل، إلاّ أنّ كثرة تلك الوسائل أدّت على نحو متناقض إلى غياب روح الحوار والنقاش، بل أنّ الأساس هو غلبة الفكر الأحادي حتى داخل أعتى الديمقراطيات. إذن، فإنّ ما يبدو مهمة طارئة بالنسبة للفلسفة اليوم هو الإجابة عن هذا النوع من التساؤلات: «ماذا أفعل بالمعارف بعد امتلاكها؟ ماذا أفعل بها كي أسيّر حياتي؟ المسألة الحقيقية ليست «ما هو الإنسان؟» رغما عن كانط، بل هي « كيف نعيش؟» (فلسفات عصرنا، ترجمة: إبراهيم صحراوي).

التفكير في الكارثة:

إنّ النقطة الحسّاسة في علاقة الفلسفة بالحياة اليومية هي التفكير في الكارثة؛ فالقرن العشرون كان عصر الكوارث البشرية الكبيرة، وكلها كانت إنجازا بشرياً، كشفت عن الانهيارات الكبرى التي مني بها مشروع التنوير والحداثة، أما القرن الواحد والعشرون فقد كانت فاتحته تراجيدية. فهل نستطيع ان نتصوّر حداثة دون كارثة ما؟ وهل يبقى للتفكير من جدوى في زمن الكوارث والموت العابر للهويات والجغرافيات؟ ولماذا فشلت الفلسفة في التصدي لها؟ قد تبدو وظيفة الفلسفة اليوم، هي البحث عن علاجات لأمراض الحضارة، إذا ما اعتبرنا بأنّ الكارثة هي تمظهر للعضال الحضاري، إذ كان هولدرلين يقول «حيثما ينمو الخطر تنمو معه وسائل الإنقاذ أيضا»، وأنا من جهتي أتساءل: لماذا تسبق الكارثة الفلسفةَ؟
سلّط موران الضوء على كارثة مفاعل فوكوشيما في اليابان، متأمّلاً دلالات إنشاء مفاعل نووي وسط تجمعات سكانية، هل هناك من فكّر في السيناريوهات المحتملة لوقوع حوادث قد تسبّب كوارث حقيقية؟ بل كيف يمكن بناء مفاعل نووي في قلب مدينة مأهولة بالبشر؟ يجيب موران بأنّ كارثة فوكوشيما إنّما تعبِّر عن عماء مضاعف، بسبب جشع الآلة الاقتصادية التي لا تكترث بالإنسان ولا بمستقبله، بل لا شيء يوحي بأنّ مسار التطور التقني والعلمي والاقتصادي اليوم يخضع لرقابة أخلاقية من طرف الفلاسفة، أليس دور الفلسفة بتعبير الفيلسوف الفرنسي لوك فيري هي أيضا وظيفة أخلاقية (فلسفات عصرنا).

التفكير حرا

ما معنى أن تكون حرّا اليوم؟ سؤال كهذا قد يبدو للوهلة الأولى ضرباً من التخمة الفكرية، خاصة أنّ هذا العالم يشهد ثورات في مناطق عدة من العالم، خاصة العالم العربي، هدفها الأساسي البحث عن الحرية. غير أنّ إدغار موران ينبهنا إلى أنّ الحرية قد تشكّل خطرا، خاصة إذا مارسناها داخل الحقل السياسي، ويزداد خطرها عندما تُترك في متناول أصحاب العقول الفاسدة أو الجاهلة. ومن جهة أخرى، فإنّ التفكير خارج السائد السياسي أو الاجتماعي هو في نظر المؤسسات ضرب من ممارسة الحرية المحظورة.

يقول موران «إننا نعيش أزمة حضارة وأزمة مجتمع، وأزمة ديمقراطية تداخلها أزمة اقتصادية، تؤثر نتائجها تأثيرا خطيرا في أزمة الحضارة، وأزمة المجتمع وأزمة الديمقراطية».

التفكير في الأزمة

لا يفصل موران بين أزمة التعليم وأزمة الثقافة، على الرغم من أنّه حدث منذ القرن التاسع عشر فصلا بينهما، وقد بلغت اليوم درجة القطيعة. والنتيجة أن «الثقافة العلمية تنتج معارف لم تعد تتناسب مع ما تنتجه ثقافة الإنسانيات». بمعنى أنّ الفصل بين المعارف العلمية والمعارف الإنسانية أدى إلى الجهل بالذوات الإنسانية، فضلا عن غياب أي أفق تأملي يكون بمثابة العين التي تراقب النشاط العلمي والتقني. أليس التطور العلمي الذي لا يخضع للتأمل الفكري والفلسفي والأخلاقي قد يشكل خطرا على مستقبل البشرية؟ فالتطور قد يكون أعمى.
إن العلوم والتقنيات هي مجرد وسائل فقط، تشتغل وفق نظام آلي، ولا تحتكم إلى أي رؤية أخلاقية، فهل بمقدور العلوم حل المشكلات الأخلاقية؟ فالتكنولوجيا، بحسب تعبير سوزان عبد الله إدريس في كتابها «لا أخلاقية العنف عند جان بودريار» تثير مشاكل جديدة في محاولاتها لحل المشكلات القديمة. إنّ السبب في هذا الفصل الحاد هو طبيعة النظرة إلى العلوم الإنسانية بأنّها تخصصات بلا جدوى، وأنها لا تقدم للبشرية إلا ما ينتمي إلى حدود الترفيه والتسلية. نظرة كهذه أدت إلى تآكل مساحة الاهتمام العام بهذه التخصصات، سواء في المدارس أو في الجامعات أو في الحياة بشكل عام، ومن آثار هذه الرؤية القاصرة هي اعتبار الفلسفة محض ثرثرة.
يقول موران «إننا نعيش أزمة حضارة وأزمة مجتمع، وأزمة ديمقراطية تداخلها أزمة اقتصادية، تؤثر نتائجها تأثيرا خطيرا في أزمة الحضارة، وأزمة المجتمع وأزمة الديمقراطية». التفكير في الأزمة هو انتباه إلى كون الأزمة هي خلل ما يصيب النظام فيهدد استقراره. فأزمة الحضارة هي خلل ما في نظام التربية وفي نظام تصورنا للحياة. إنّ أزمتنا اليوم أننا لا نعرف كيف نعيش، وسؤال العيش هو في صلب مشكل التربية وأزمتها بتعبير موران دائماً. ومن مظاهر الأزمة مشكلة (الفهم)، خاصة في عصرنا هذا الذي يميل أكثر إلى تعزيز شروط عدم الفهم (أؤكّد هنا بأنّنا أمام مفهومين مختلفين: أقصد (عدم الفهم) و(إساءة الفهم) وأنا أرجّح المفهوم الثاني، لأنّ إساءة الفهم تندرج ضمن سياسة تأويلية تهدف إلى فرض تصورات أحادية، تتغذى من الصور النمطية ومن الاختزالات المعرفية التي تقصي الحقيقة الكلية). لقد أصبحت مقدرتنا على الفهم مهددة أكثر من أي وقت مضى، بدون أن ننسى بأنّ «عدم الفهم يحمل في صلبه بذور الموت». نفهم بأنّ الحروب والنزاعات سببها هو سوء الفهم المتبادل بين الأفراد والجماعات والقوميات المختلفة، فالكل، يقول موران، يحاول فرض رأيه باعتباره هو الصواب. فسوء الفهم يعني امتلاك طرف ما من الحقيقة أو ادعاءه بأنّه وحده من يملك الحقيقة، ووحده من هو على صواب، وغيره على خطأ. في هذا الوضع، يكون الخوف من الفهم من درجة الخوف من عدم الفهم نفسها.

٭ كاتب من الجزائر

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية