التمثلات السلبية لصورة الآخر في رحلة عباس الجَرَّاري

يندرج نص «ثلاثون يوما في الولايات المتحدة الأمريكية» لعباس الجراري ضمن رحلة قصد التبادل الثقافي والمعرفي بين المغرب والولايات المتحدة الأمريكية، أو في إطار ما يعرف ببرنامج فولبرايت الثقافي للجنة الثنائية المغربية الأمريكية. وتعدُّ هذه الرحلة بالنسبة لعباس الجراري أول سفر قام به إلى الولايات المتحدة الامريكية سنة 1981. ونتج عنه هذا النص الذي يمثل شكلا كتابيا جديدا عند المؤلف، بعد نتاجه الزاخر المتمثل في كتابات عديدة في شتى المجالات. ولا شك في أن مسار حياته الشخصية والعلمية والأدبية، لا يخلو من رحلات وأسفار عديدة نحو بلدان العالم؛ غير أن الرحلة تصبح لها فائدة وأهمية، حين تتحول حركتها إلى نص سردي إخباري، أي ما يعرف بتلفيظ الرحلة، حسب سعيد يقطين، فيتحول الفعل إلى نص مكتوب ينتج خطابا يتماهى «مع الرحلة وعوالمها، ويسعى إلى مواكبتها من البداية إلى النهاية».
وقد أنجزت هذه الرحلة، كما هو واضح من عنوانها الذي وسم به الكتاب، في ظرف زمني محدد وهو ثلاثون يوما. ابتدأت من الأحد 18 أكتوبر/تشرين الأول 1981، إلى غاية الخميس 19 نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه، وهذا التسلسل الزمني الذي تجلت فيه العناية بالتواريخ؛ يفيد بأن الرحلة وثّقت يوميات الكاتب، في ما يشبه تعبيرا عن مشاهداته وانطباعاته وتصوراته ورؤيته للآخر، الذي يمثل في هذا النص المجتمع الأمريكي في ذلك الوقت، بتنوعه الجنسي والثقافي والمعماري وغير ذلك..

صورة الآخر في رحلة الجراري

شكلت رحلة الجراري وسيلة تحقق أواصر التعاون والتعارف والتلاقح الثقافي، فهي سبيل إلى اكتشاف الآخر، في تجلياته الاجتماعية واليومية والفكرية.. وكل ما يحفل به هذا النص من صور ترتبط برؤية الجراري للأشياء والخلفيات والمرجعيات، لكون «النص الرحلي يحكي اكتشاف الآخرين على حد تعبير تودوروف». وهذا الاكتشاف يأتي بوجهيه الإيجابي والسلبي، فيشكل مكونا من مكونات خطاب النص الرحلي، بما يحتويه من صور وتمثلات ومعرفة عن الآخر، عبر سفر كان في إطار برنامج ثقافي بين المغرب وأمريكا.

1.2 الصورة الإيجابية للآخر

حرِص الكاتب على إغناء النص بالخصائص والسمات الثقافية والأدبية، مثل اهتمامه الدقيق والمفصل بالفضاءات الثقافية والعلمية؛ كالمراكز والمعاهد الجامعية، بما تضمه من المكتبات والمتاحف، لأنها تعدُّ من مظاهر التقدم الفكري والأدبي في الولايات المتحدة الأمريكية. كما أنه حرِص على ذكر العلاقات والزيارات الثقافية، واللقاءات العلمية مع العمداء والمديرين وأساتذة الجامعات والباحثين والطلبة… وشدد تركيزه على المهتمين بالبحث في تاريخ الثقافة العربية والمغربية بالخصوص، حيث صرح أنه اكتشف اهتمام الجامعات في أمريكا باللغة العربية «وبعض الدراسات العلمية الدقيقة، فضلا عن مستوى الأساتذة وأهمية المكتبات». فسجل تفاصيل لقاءاته، ذاكرا أسماء الذين تبادل معهم الحديث والحوار والكتب… ما يحيل على أن هاجس الهوية العربية والمغربية حاضر بقوة. وكل هذه العناصر أغنت النص الرحلي عند الجراري، إضافة إلى ملاحظاته وانطباعاته بخصوص الحياة الاجتماعية، من معاملات وعادات وأطعمة وغير ذلك، وكذا ظروف الحياة السياسية كالقوانين المؤطرة وما إلى ذلك، إضافة إلى ما أدهشه من مظاهر التقدم الحضاري والتكنولوجي، الذي يعتبر جانبا إيجابيا يحق أن ينظر إليه ويهتم بدراسته، ودراسة الظروف المصاحبة المنسجمة مع سياق النص، السياسية منها والثقافية التي تخص العالم العربي آنذاك، فتلكم الظروف مجملة، تمثل رافدا مهما في تلقي هذا النص الرحلي.

حرِص الكاتب على إغناء النص بالخصائص والسمات الثقافية والأدبية، مثل اهتمامه الدقيق والمفصل بالفضاءات الثقافية والعلمية؛ كالمراكز والمعاهد الجامعية، بما تضمه من المكتبات والمتاحف

الصورة السلبية للآخر

إن التركيز على الوجه السلبي لصورة الآخر، إنما هو انعكاس لنظرة الكاتب، التي تستقبح بعض المظاهر والسلوكيات التي لا تتساوق مع خصوصياته الثقافية، ولا تتماشى مع هويته وانتمائه. وللإشارة فإنه في الغالب العام يتم التركيز، وبشكل مفصل، على الجانب الإيجابي لما يحقق تصوره من دهشة وانبهار بمستوى تحضر الآخر، تلكم الدهشة التي تتلو صدمة اكتشاف الأنا المتأخرة عن الركب الحضاري الغربي، والصورة الإيجابية بتوهجها، لا شك، تغطي على الجانب السلبي في صورة الآخر، التي قد تتخذ لها في الأذهان تصورا مثاليا إلى حد الانصهار في ثقافة الآخر، في ما يشبه التبعية طبقا لرؤية ابن خلدون التي وردت في مقدمته: «المغلوب مولع أبدا بالاقتداء بالغالب».

أ. العنف والإجرام

يسجل عباس الجراري، أن المجتمع الأمريكي مجتمع تناقضات، كما أنه مجتمع عنف وصراع حيث قال: «ويبدو العنف أساس قيام هذا المجتمع، فهم أخذوا البلاد بالقوة منذ البداية، وحتى في ما بعد، وحتى الأرض التي اشتروها من الهنود كانت بثمن بخس». وهنا يشير إلى أن الحضارة الأمريكية الحديثة، في الأصل، قامت على إبادة الهنود الحمر (السكان الأصليين)، مما يترجم أن بنية هذا المجتمع، وحسب رؤيته، قائمة على الصراع والتدافع من البداية.
ولا شك في أن المجتمع الذي بُني على هذا الشكل تتجذر فيه طبيعة العنف، إذ يقول عن الأمريكيين، أنْ لا عاطفة لهم على الأطفال، فهم غالبا ما يحاولون التخلص من الأولاد، يقول: «بل إن بعض الأمهات يحاولن التخلص من أطفالهن بأبشع الأساليب، بإلقائهم من درج أو بحرقهم في فرن المطبخ». فإذا كانت هذه طبيعتهم مع أطفالهم فكيف سنتصورها مع غيرهم من الناس، الذين يشاركونهم الأرض والوطن.
وهذا المجتمع الذي يشوبه هذا العنف، لا تخلو فيه مظاهر العيد أيضا من بعض الخروقات، يقول: «وقد ذكر لي أن بعض المجرمين يرتكبون جنايات بهذه المناسبة، كأن يدقوا الباب فيخرج لهم صاحب البيت فيضربونه بالنار، طالما أنهم مقنعون. وكذلك ذكر لي أن منهم من يضع قطعا من أمواس الحلاقة داخل التفاح، وحين يأكل الطفل التفاحة يتعرض لجروح داخلية». فإذا كانت الأعياد للفرحة والترويح عن النفس، فهي في مجتمع غرست فيه نزعة العنف والإجرام، تصير مظهرا من مظاهر القلق والتوتر وعدم الإحساس بالأمان.
هذه الصور التي تتجلى فيها مظاهر العنف والإجرام، وقلة الأمن، دفعت الأمريكيين لأن يكونوا مسلحين. فقد تطرق الكاتب خلال مذاكراته مع الأخ رشيد، إلى أن في أمريكا ما يعرف باحترام الملكية، والدفاع عنها بالسلاح، حيث لا يستطيع أحد أن يطأ أرض حديقة جاره، رغم أن الحدائق مشتركة.. وقد يكون الحاجز مجرد سلك فاصل، ويؤدي خرقها إلى القتل.

ب. الحرية الجنسية

يهتم الجراري في هذا النص بذكر التفاصيل والإخبار عنها، فهو يلتقط كل ما يثير استغرابه، سواء كان ذلك بالمشاهدة أو بالسماع. وقد أخبر أن الحرية الجنسية عند فئات المثليين، وصلت بهم إلى حد تشكيل شبه هيئة لها مراكزها ومفاهيمها وتقاليدها، حيث أن لها ممثلة في مجلس إدارة مدينة في فرانسيسكو، كما أن نائبة في واشنطن أعلنت مثليتها. وأخبره مرافقه أن لهؤلاء المنحرفين جنسيا مقاهي ومطاعم، وأنهم لا يخجلون من المجاهرة والتصريح بميولاتهم المنحرفة حيث أن «نائبة ولاية Massachusetts التي توجد فيها Boston صرحت قبل انتخابها وأثناء الحملة وحتى يعرفها الناس على حقيقتها أنها مثلية». فهذا الانحراف صار في المجتمع الأمريكي أمرا عاديا، يدخل في إطار الحرية الشخصية. وتبدو هذه الصورة أكثر جلاء، حين ذكر أن هناك مكتبة خاصة بالجنس «فيها مئات المجلات المتخصصة مع صور على أغلفتها، كلها تكشف العمليات الجنسية وما إليها»، وهذا الفضاء المختلِف الذي يظهر صورة الآخر في أقصى “انحلالها”، وتحرر تام من أي روادع ، جعل الجراري يتعجب قائلا: «والعجيب أن حركة الزبائن عادية وكأنه يبيع أي شيء آخر».

انطباعات الجراري التي يسجلها في هذه الرحلة لم تستثنِ ذكر المجاذيب والمجانين والمعتوهين من مختلف الأعمار والألوان، إذ يرى أنهم يسيئون إلى منظر مطعم في فرانسيسكو، حيث تناول فيه فطوره، ويقول إن «الحكومة لا تتدخل فيهم وتتركهم».

ج. المتسكعون والمعتوهون

ينطلق الكاتب في تشكيل انطباعاته عن المجتمع الأمريكي من القولة المشهورة البقاء للأقوى، التي يراها تنطبق على هذا المجتمع، الذي أصبح فيه الأمريكي يعيش ليعمل وليس «كما عند كثير من الشعوب: يعمل ليعيش». وهذا النمط من الحياة يجعل الأمريكيين – حسب رؤيته – ينظرون إلى المتسكعين والسكارى والمتسولين النائمين على قارعة الطريق، على أنهم غير مستحقين للحياة «فالحياة تقتضي أن يعتمد الإنسان على نفسه وأن يعطي»، بما يجعلنا نتصور أن الإنسان داخل هذا المجتمع، يتجرد من قيمه الإنسانية، ولا يؤمن إلا بمنطق الصراع قصد البقاء، والبقاء يستمد قوته من العمل لكسب المال، فتدور الحياة في دائرة مادية تتلاشى فيها إنسانية الإنسان.
لهذا فانطباعات الجراري التي يسجلها في هذه الرحلة لم تستثنِ ذكر المجاذيب والمجانين والمعتوهين من مختلف الأعمار والألوان، إذ يرى أنهم يسيئون إلى منظر مطعم في فرانسيسكو، حيث تناول فيه فطوره، ويقول إن «الحكومة لا تتدخل فيهم وتتركهم». ولاحظ الكاتب أيضا عند خروجه لتناول الفطور في مطعم يوناني قريب من نافورة، أن المتسكعين والسكارى شوهوا منظر المكان. كما أخبر أن بالقرب من المنطقة بين النافورة والفندق، الذي يقيم فيه، يوجد حي وقد مرّ به، يقول: «ذكر لي مرافقي أن أحدا لا يستطيع أن يتجول فيه بعد الثامنة، فكله دور بغاء، ولصوص وعصابات، بل كنا نلاحظ في الطريق وجود زجاجات الخمر مكسرة بكثرة..».
وإن كان الكاتب يسوق هذه الملاحظات، التي غالبا يستقبح من خلالها ما شاهده، فإنها دلالة على أن الجراري بصفته الأنا هنا، التي تمثل الإنسان القادم من الشرق، يحمل تصورا عن أمريكا أنها دولة متقدمة، لن يرى في شوارعها ومطاعمها ما يشوهها ويؤثر على جمالية أماكنها.

د. سلبية الحياة في المجتمع الأمريكي

لاحظ الجراري أنه أثناء وجوده في هذا البلد أصبح مضطرا للجري والسرعة، وكثرة المشي بما يدل على وتيرة إيقاع الحياة الاجتماعية وسرعتها، التي تجعل الإنسان في صراع مع الوقت، إلى درجة أن وجبة الغداء، قال إنها، لا تأخذ منه ربع ساعة، فيحيل هذا على سلبيات تلك الحياة التي لا تجعل الإنسان يستمتع بوقته، مادام يعيش ليعمل. وقد أشار الكاتب وهو في مدينة شيكاغو أن «إحساسا باطنيا بالخوف يسيطر على كل الناس». على أن هذا الإحساس استنتجه الكاتب من خلال مخالطته للناس، بل شعر بذلك منذ أول يوم وصل فيه.
وقد وصف الجراري الطبيعة الجسدية والمظاهر الشكلية للأمريكيين، وقال إنهم يعانون من السمنة بسبب الأكل الذي يتناولونه «وهو دسم ومليء بأنواع من الفيتامينات والدهون.. ولهذا يقال إنه يموت كل سنة نحو مئة ألف بالجلطة». وهذه المعاينة شدت انتباه الجراري في غير موضع واحد، فقد تعجب من الخليط الذي يتكون منه الشعب الأمريكي، حيث قال: «فالسود بطبقات ألوانهم المختلفة، والبيض والأشكال والسحنات متباعدة، وهي معظمها غير جميلة، فضلا عن الأجسام السمينة والهياكل الضخمة سواء عند الرجال أو النساء».
وحتى تكتمل الصورة السلبية للحياة داخل المجتمع الأمريكي، فقد أشار الكاتب إلى أن نسبة الطلاق مرتفعة جدا، فهو يقول إن «ثلاثة أرباع الزيجات الأمريكية تنتهي بالطلاق لظروف متعددة أغلبها اقتصادية». ولا شك في أن هذه الظروف الاقتصادية، التي أشار إليها تؤثر على حياة الأمريكيين، وقد تكون الأسباب كثيرة، ذكر واحدا منها حين تحدث عن الضريبة، فقال إنها تعتبر «في الولايات المتحدة شبحا مخيفا، إلى حد أنهم يعتبرون أنه لا مفر من أمرين: الموت والضريبة»، واعتبار الضريبة شبحا، يدل على أنها مرتفعة جدا، تنغص مسار حياة الأمريكيين. ولعل هذا النمط السريع، الذي يتصف بالضغط جعل الإنسان الأمريكي يفقد معنى الحياة، ما أدى ببعضهم إلى الانتحار، فقد سجل الجراري ما أخبره به رفيقه الأخ رشيد، وهما في مبنى عمارة Empire state المكونة من 102 طابقا، أن عمليات الانتحار بالسقوط تتم من هذا المبنى.

خاتمة

هذا النص يحمل تجليات الأنا المرتحلة نحو الغرب، وهي هوية مثقف اتجه صوب فضاءات حضارية وتكنولوجية، واضعا في مساره منهجا من مراحل يبتدئ بالاكتشاف، ثم بالتواصل والانفتاح، ثم بالاستفادة من الإيجابيات، مع إضاءة واعية للسلبيات التي قد تنتج عن حركة الاستهلاك الثقافي والتقني، في ظل الحداثة التي تدفع بالعالم إلى التطور والتقدم الحضاري الذي تنتج عنه سياسات وحروب تغير خرائط التواصل بين الناس والدول، وتؤثر على الحياة المعنوية والنفسية للإنسان.
وإن في هذه الرحلة ما يدل على حجم تلك المسؤولية الملقاة على عاتق مثقف يؤمن بمشروع ثقافي نهضوي لا يقصي مبادئ الهوية والخصوصيات الثقافية، رغم الانشغال بالانفتاح على ثقافة الآخرين للاكتشاف والتعريف معا، لأن رحلة الجراري وإن كانت تكتشف الآخر، فهي بالمقابل تمثل تعريفا لصورة الأنا، التي تحدد مرجعياتها الثقافية المثقلة بهم القضايا الوطنية، منها على سبيل الذكر قضية الصحراء المغربية، والقضايا العربية والإسلامية كقضية فلسطين المحتلة، فظهر ذلك جليا في نقاشاته المتعددة مع الآخر خلال محطات هذه الرحلة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول هيثم:

    الرجل نموذج للمثقف المخزني الرجعي والتقليدي. يتجلى ذلك من خلال نظرته الدونية للحرية الفردية في مجتمع متقدم. أتذكر رحلة لأمريكا قام بها الصحفي المرحوم عبد الجبار السحيمي في منتصف الستينيات من القرن الماضي دون مجرياتها في مقالات ممتعة بجريدة العلم عن المجتمع الأمريكي.

اشترك في قائمتنا البريدية