التنافر اللوني في قصيدة «قراءات» للأردنية مريم الصيفي

تومئ الصورة اللونية إلى إطلالة أشبه بالظل الفكري، وإلى أعلى مراتب النشوة الروحية التي تتجلى بوضوح في تصميم الفنان. وكذلك الحال بالنسبة للشاعر؛ إذ ترقى روحه إلى فضاء التأمل، فينتقي ما يطابق إحساسه من ألوان، وأشكال، وأحلام، ينسجها جميعا؛ لرسم صورة راقية يمزج فيها عالمه الذاتي المثالي بالواقعي، فتنشأ من خلال التعارضات الفنية ومنها اللونية صور عاكسة لأفكاره وانفعالاته. فالصور المتنافرة تساهم في الكشف عن البعد النفسي للشاعر، إذ يوظف من خلالها البنى الضدية.
إن الصورة القائمة على التنافر، تكشف عن الوضوح والغموض، وعن الضوء والظلام في آن؛ ما يثير إدهاش المتلقي وتأملاته، فتجعله يقوم بعمليات من التداعي والترابط، خاصة إن كانت العلاقة بين الصورة والسياق الكلي تزيد من فاعلية هذه الصورة، التي يرسم الشاعر من خلالها معالم تجربته الشعرية، إذ تكتمل جماليتها عند إدراك المتلقي لبنيتها الكلية ودلالاتها المترامية، لأنه حاول جاهدا صعودا وهبوطا أن يتوصل إليها، فإذا أدركها فإنه ينجذب إليها متواصلا مع النص وصاحبه.
فمهمة الشاعر المعاصر هي الاكتشاف المستمر لاستعارات تصويرية، يقيم من خلالها علاقات فريدة وأصيلة، تتخلل بنية التجربة الشعرية، فتنتشر في اتجاهين متناغمين: اتجاه الدلالة المعنوي، واتجاه الفاعلية على مستوى النفس، وهي علاقات الاستجابة والتنافر والتعاطف بين الذات الإنسانية وما حولها.
ومن هنا أدركت الشاعرة مريم الصيفي أن البوح عن مشاعرها بلغة الألوان، يخضّب نصوصها بحلة جمالية مفعمة بالدلالات، وتأتي قصيدة «قراءات» من ديوان «أغان للحزن والفرح» ـ دار يافا للنشر ـ الأردن 2006 لتجسد هذه الأفكار.

الذات وألوانها

يا ذات اللون الغامض/ هلا قرأتني العينان/ من أين تسرب؟/ كيف تسرب منك إليك، ومنك إلى اللون؟/ ليبوح كفاكهة ناضجة/ وامتزجت في البوح الألوان/ وتقطر شهدٌ في الأوصال/ ارتهج ضجيجٌ أثمل/ رفرفة الأجنحة».
أجرت الشاعرة في القصيدة حوارا بين ذاتها المتشكلة من «اللون الغامق»، وذاتها «صاحبة زهو اللون»، وأرادت من قارئ نصوصها أن يمعن النظر في قصائدها المخضبة بألوان غامقة، «وليقرأ ذاك النظر الثاقب»، فيقرأ على مهل، ويتمعن في كل جزء «وليقرأ نقشا نقشا»، وأن يسلط الضوء عليها «كذات غامقة»؛ لينجلي الغموض ويكشف أناها المتشكلة الحقيقية صاحبة «زهو اللون»، ثم حولت الحوار الخارجي إلى منولوج داخلي، فتسأل ذاتها: «قالت.. من أنت؟/ ومن في غسق الكون تكون؟»، إنها كأي شاعرة تقرأ ما قد أبدعته مخيلتها، ولكنها هنا تعجبت من شدة الحلكة والظلام الواضحين في بنية نصوصها السطحية، وراحت تجيب ذاتها ما قد سألته نفسها، وتقول: «تلك خطوطٌ تتشابك/ في النقش المرئي/ الريشة ترتعش/ الخط تعرج../ ونعامة وجدك/ تخفي الرأس»، ويبدو أن عوامل عدة، شكلت تلك الحلكة البادية في البنية السطحية «النقش المرئي»، وهي: تكاثر ألوان الألم، والخوف من الوضوح؛ لذا فالخطوط المتعرجةٌ في قول الشاعرة، قد ترشدك إلى درجات من الدلالات، إنها لا تجرؤ على البوح عن واقعها، فإحساسها أشبه بالنعامة التي تلجأ لأن تخفي رأسها، ولكنها تترك العنان لمخيلتها في النص، ولكن نفسها لم تقنع بهذا الجواب، فتساءلت: «أين قراءاتٌ في المد الصاخب؟/ والتشكيل بعمق اللوحة؟»، إنها شكلت لوحات تصوير، تحمل ألوانا من عذاباتها الصارخة، لتلفت انتباه المتلقي إلى عمق الصورة وليس إلى شكلها، إنها تبوح، وتشهق، وتفسر ما حلّ في بلادها من طوفان (وهنا ترمز إلى النكبة وطرد سكان فلسطين منها إلى الشتات)، وتستطرد في الحديث مع نفسها، على أمل العودة إلى بلادها فلسطين، ثم تتساءل ما إن كان هناك أملٌ في جلاء لون التعب قائلة: «فهل من هدهدة تحمل هذا اللون المتعب؟».

ذاكرة اللجوء

فتأخذها حالة استرخاء، تجمع فيها بين الحلم والذاكرة، وتتيه في غابة «في الليل المتدثر.. الموجوع»، وتبحر في ذاكرة اللجوء «يبحر في أبحره البحر غيابا»، وتنظر إلى «ملكوت الزرقة»، فترى الكون يلملم ما تبقى من ذاكرة الأسى، ويعلو «في الأفياء حريق الشمس»، وتسترسل الألوان الشفيفة في خاطرها، وتروي «ورق النرجسة العطشى»؛ أملا في المضي «حيث ضفاف السوسن»، وترمز هنا لفلسطين حيث تسمى زهرتها الوطنية «بزهرة سوسن فقوعة» ـ أحد أنواع السوسن ينبت بالقرب من قرية فقوعة الفلسطينية ـ أخيرا تصرح أن ذاتها الشفافة تنبلج حينما يسلط الضوء عليها فيتسع مدى الرؤية، «أغرقها طوفان الضوء سكونا»، هنا يصبح الأمر واضحا للقارئ، إن الشاعرة حين البوح تحاول تكثيف الألوان؛ لتكشف عن مقدار الضيق والضجر الذي يعانيه أبناء فلسطين في الغربة، وعن مقدار اليأس والأسى بغيابهم عن بلداتهم، وهذا ما يشير إلى سبب توظيفها للألفاظ: «الغامض/ الغامق، العمق، غسق، تعرج، الصاخب، الطوفان، اللون المتعب، وحشة، الغابة، الليل، الموجوع، البحر، الزرقة، التيه، الغياب».
أرادت الشاعرة أن ترسم بهذه الألفاظ صورة معتمة وقاتمة لحياة اللجوء، في حين أنها احتفت بزهو اللون، في سياق القصيدة «الشمس، النرجسة، السوسن، الومضات، اللون شفيف، أحلام النجمات، الضوء، ضياء، الصبح»، وأكدت أن تسليط الضوء على نفسك قد تجلي به عتمات ذاكرتك، وأن ما بعد الضيق إلا الفرج، وأن الأشياء لا يحكم عليها بظواهرها بل بما تحمله بواطنها.

ناقدة من فلسطين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية