هذه الرواية «للا البهلولة» (دار الفردوس تونس 2024) «كتاب قصصي» أشبه بـ»الصحن الطائر» أو الجسم الأدبي «المجهول» أو «الرواية السرية» المحبوكة بمهارة، المكتوبة بلغة حية نابضة. وينهض بها صوت «شادية» المرأة التي تحمل «صدأ المواخير» وتتنقل بينها بأسماء شتى، فهي «بدرية» و»بدرة» و»بدور»؛ بل هي تنطوي على أكثر من صوت يتردد في أعماقها منذ «ثرثرة الكأس» وكأنها قراءة في الفنجان: الحاج الطيب زوج الأم والحارة والشائعات كرة الثلج التي تتدحرج وتكبر، والخالة مبروكة، والشاب الثلاثيني ولقاؤها به قبل أن يقبض عليها.. و»قرطاس الحماص» وشادية أما، وعمار الذي يريد أن يكون أبا لطفلها.. عمار الذي اغتالته يد المافيا في ما بعد.. و»الريتويتر» و»زهيرة» آخر طرزانات الماخور، وعلاقتها المريبة بشادية، والليبي «الجيلاني» الذي استقر في تونس، والمقبرة وعالمها، والبهلولة التي لا ظل لها سوى عنزتها.. و»الوشم» المحفور أسفل بطن شادية وهو «وحم» و»السرداب» وذكريات عن «بوسطر»، فخاتمة الرواية «روسة الشوالق» التي «تروح عايمة مبلولة».. التي كلما طافوا بها في شوارع القيروان وأزقتها نزل المطر.. ولعلها تصلح أن تكون عنوانا جذابا لهذا العمل الروائي القوي، أي «اسم علم»، وإن كان العنوان الذي وسمت به أسماء نصها «للا البهلولة» يحتفظ هو أيضا بدلالته من حيث أن «للا» هذه الزاوية «كالعنكبوت تسكن كل الزوايا»، وأقدّر أن الرواية محبوكة مثل خيوط العنكبوت، فلا ثرثرة ولا استرسال إنشائي ولا استطرادات لا مسوغ لها.
إذن يعيدنا هذا النص الأدبي القصصي، فضلا عن الأوضاع السياسية التي ينشأ فيها في تونس خلال العقدين الماضيين، وما سبقهما «الفلاش باك»، جملة أمور مثل هذا الاتجاه «التوثيقي»: فهل مرد ذلك العزوف عن الخيال الجامح، إلى التطور الصناعي والتكنولوجي الهائل؟ بل أيمكن أن يكون هناك أدب خيالي دون خيال؟ وفي تاريخ الآداب، ظواهر أدبية قد تختفي حقبة؛ ثم نجدها تعود بكل قوة، في حقبة أخرى. ونقدر أن من يتابع حركة الأدب في مجتمعاتنا العربية (الشعر والرواية)، قد يشاطرني الرأي في أن قليلا أو كثيرا منها، يصعب حده أو تصنيفه تصنيفا دقيقا مثل «ذات» لصنع الله إبراهيم، أو أعمال محمود درويش الشعرية التي مدارها على جوانب من سيرته.
وقد يستشعر القارئ عنتا غير يسير، كلما كان النص سردا تاريخيا مداره على الماضي، وغياب الذات المتلفظة، وليس تلفظا يُفسح المجال، في الملفوظ، لظهور آثار تلفـظه، أي الإشارات الدالة على ضمير التكلم وضمير الخطاب (أنا/أنت)، وظروف المكان والزمان (هنا/الآن)، واسم الموصول واسم الإشارة، وأزمنة الفعل، خاصة المضارع، أو «الحال» كما كان يسميه العرب، وما إليها من سمات التلفظ في الخطاب التي يصعب تأويلها، إلا إذا انتقلنا من الملفوظ إلى مقام التلفظ، أي إلى الضمير المتكلم وإلى مكان قوله وزمانه. ما يعنيني في السياق الذي أنا به، أن الكتابة «التوثيقية» مضللة، كما في هذا النص؛ فهي عدول من جهة، وتعاقد، من جهة أخرى. أما الذي هو عدول فغير نظامي ولا نسقي، أو هو غير معياري، أي لا يُقاس عليه. وهو مباغت يحد من التوقع إن لم يخيبه. وأما الذي هو تعاقد، فنظامي نسقي غير مباغت، وحصوله منتظر «عالم القيروان» أو تونس عامة. ومرد ذلك إلى أسباب قد يكون أهمها تدارك لغة الكاتبة المنشدة إلى الحياة، فلا غرابة أن يكون الخطاب في «للا البهلولة» وهي أبواب وسواكف وعتبات، محكوما، في جانب لافت منه، بالوظيفة التنبيهية، التي تستجلب مزايا الشفهي، أي ما يذكر بالمحكية التونسية: الشعر العامي. ولعلها محاولة من الذات للظـفر بـ»هويتها» كلما استغرقه التوثيق، وهو نوع من التجريب، وقد ينفرط منه الخيط؛ إلا في يد الماهر الذي لا ينسى أن الأدب تلفظ حي، وأن له مرجعيته حتى إن لم يستجب للتوقعات، أو كان بابا دوارا، لا ننفذ منه ولا نجوز إلى داخل؛ إلا بعنتٍ وصعوبة. وعلى أساس من هذه الإشارة، ندرك أن الأمر لا يتعلق في كل النصوص بمجرد «واقعية» تنشدها الكاتبة؛ وإنما بالثمين أو الجميل الذي مداره على ما هو نادر في عالم مدينة القيروان السري، أو أن الجمالية في النوع وليست في الكم. والكاتبة إنما تطرح الكلام بعضه على بعض؛ حتى تظفر بضالتها من الكتابة. ونحن وإن كنا لا ننازع في أن كثيرا أو قليلا من مُشْتمَلاتِ هذا النص وموضوعاته، مستمد إلى حد كبير من البيئة الاجتماعية التونسية وللقيروانية تحديدا، فإن تأثير البيئة في تقديرنا، قد يصلح لتفسير المنحى اللغوي المطلوب في مثل هذا النوع من القص، لا أكثر ولا أقل.
نعرف من السرديات الحديثة، أنه ينبغي عدم الخلط بين المؤلف والراوي، وأن النص السردي كالذي نحن فيه إنما هو مختوم، على واقعيته، بختم الخيال، وأن القصة المروية مهما يكن نصيبها من الواقع، ليست «حقيقية». وإن كنا لا نعدم علاقة «متخيلة» بين الراوي والمروي، والراوي والمروي له؛ ومردها في تقديري إلى توفق الكاتبة في تحرير نفسها ونصها من «فرضية الخيال»، وقدرتها على إيهامنا بأنها تحكي لنا قصة تتمثل تجربة واقعية، أو هي «قابلة للوقوع».
ولعل هذا ما يجعل النص في جانب منه، يأخذ بـ»ميثاق» السيرة، على الرغم من أننا لا نملك أي وسيلة لاختبار «واقعيته»، ما عدا مقارنة الحقائق المروية بالواقع القيرواني، الذي قد يعرفه بعضنا. إذن لأقل بقدر من الاطمئنان إن الكاتبة تعيد سرد تجربة شخص آخر؛ هذا لا يجعل الراوي بأي حال موضوع قصته، وليس ثمة عقد أخلاقي كما هو الشأن في السيرة الذاتية بين المؤلف الذي يلتزم قولَ الحقيقة أو يعد بها، والقارئ الذي يصدقه أو يكون من حسن الظن فيه. وحتى لو عرفنا أو افترضنا أن بعض «الحقائق» الواردة في النص لا تتطابق والواقع، فإننا سنعزو الأمر إلى ذاكرة خذلت صاحبها، أو إلى نوع من «التقية» السردية. وهذا افتراض مني لا غير، أسوقه استئناسا بتسلسل الأحداث وأزمنتها، الذي تؤمنه العلامات، بما يساعد القارئ على إعادة بناء الأحداث، وما إذا كان الراوي «يحكي» أكثر مما يقول؛ أو ما إذا كان يتخفى أو هو متهم الأصل مجهول الهوية. ومهما يكن فليس من حقنا أن ننزع إلى المقاربة بين النص وما يذكره من وقائع وكائنات وأشياء، أو أن يقع في ظننا أن «الجودة» تنحصر في «الإصابة» بإقامة أمثلة الأشياء مقام الأشياء نفسها، ولذلك مسوغات شتى لعل من أظهرها صوت السارد الذي يستوقفنا في كل فصول هذه الرواية. وقد يكون من المفيد في دراسته أن ننطلق من ذلك التمييز الدقيق الذي يجريه المعاصرون بين القصة أو الحكاية من جهة، والقص والسرد من جهة أخرى.
فالملفوظ السردي أو القول السردي ينهض برواية قصة أو مغامرة تنتظمها حبكة، يقوم بها شخوص يتحركون في فضاء وزمان مخصوصيْن. وهم يؤدون القصة في ضوء الممكنات السردية، وما يتعلق منها بالتغييرات الزمنية، وإدارة فن الدخول إلى العالم المحكي، سواء أقيدته وجهة نظر داخلية أم لم تقيده.
وقد استطاعت الكاتبة أن تخرج لنا من شوارد الأخبار والوقائع ومتخلف الآثار في القيروان و»عالم المواخير» شخصيات نابضة بالحياة؛ وهي تنسقها تنسيقا خاصا بكثير من المهارة اللغوية؛ حتى إن النص أشبه بـ«بورتريه» أو بلوحة تشكيلية. وهذا من شأنه أن يثير قدراً كبيراً من الالتباس والغموض في العلاقة بين الداخل والخارج، بين الواقع والوهم أو الحلم، وهناك حركة بصرية في هذا النص، حيث يتقاطع التشكيلي والسردي، بل هو أشبه بزجاج نافذة مكسور، تتناثر شظاياه على بلاط غرفة.
وقد لا يخفى أن الكاتبة تعمدت هذا «الكسر» لتعيد إنتاج مشاهد روايتها. وهذا الزجاج المكسور هو الذي يضع العلاقة الحقيقية بين الشيء المعاد إنتاجه أو لحمه أو سبكه موضع سؤال، ومن ثمة بين الإنسان والواقع؛ وهي توزع ظلا هنا، وضوءا هناك، عسى أن تحفظ لـ»شادية» أو»عروس الشوالق» كما أحب أن أسميها، نوعا من الاتساق وتظهر لنا بذلك سير التفاعل بين الشخصية وأثرها أو كيف تأثرت ببيئتها وعصرها. فهذه وغيرها أقرب ما تكون إلى نمط من الكتابة الواقعية.. أجل «عروس الشوالق» أو «عروس المطر»، كما تتمثلها تلك الأغنية الغريبة التي هي أشبه بـ»أغنية استسقاء»، وكنا نرددها في طفولتنا البعيدة؛ في الأعوام القاحطة في القيروان، عندما يحتبس المطر ويشتد الجفاف، وتيبس الأرض وتغلظ وتتشقق، ويحمر الشجر؛ ويصاب الناس في رزقهم وعيشهم:
«مطرَا.. يا مطرَا
حلْ عيون الشرشرَا
واسق محمد وعلي
وفاطمة بنت النبي»