ما أثاره سؤال الكاتب محمد سامي الكيال في مقالته «هل العرب لا يهتمون بالثقافة؟» المنشورة في «القدس العربي» يوم 22/نوفمبر/تشرين الثاني 2024 دفعني إلى ما يشبه «العصف الذهني» لمناقشة قضايا تخص وجودنا الثقافي، وتهدد الموجود منه في الحياة، وفي إدارة السياسة والاجتماع، فضلا عن كونها وضعتني إزاء مفارقة، أو فجيعة محنتنا في عطالة القراءة الثقافية، وفي رثاثة تحويلها إلى معرفة، فالتهمة بأننا لا نقرأ قديمة، لكنها تظل مثارا للجدل، ورغم أنها مدونة في الإحصائيات والبيانات، لكن معطياتها هي الأكثر فجاعة، والأكثر إشارة إلى عطالة المعرفة، وإلى شيوع ظاهرة الفقر الثقافي، وإلى ما يتبدى منه في تراكم أزماتنا الكبرى في التنمية والسياسة والتعليم، فبقدر ما يبدو «الدرس الفلسفي» غائبا عن منظومة المعرفة، وأولويات القراءة، فإنه يعدّ واحدا من مؤشرات الرثاثة في خيارات القراءة، وفي تغول الظواهر الطفيلية للاستهلاك والإشباع الرمزي، وعلى نحوٍ يجعل من توصيف تايلور الأنثروبولوجي للثقافة فقيرا وهشا وعموميا، ولا شأن له بالثقافة التي «تصهر الآفاق» بتوصيف رورتي..
المهم في هذا المقال هو الوضوح في ربط أزمة القراءة بمفهوم «التسييس» الذي تمارسه الأدلجات الحزبية والشعبوية، وحتى الدينية، التي جعلت الكثيرين يمارسون الطقس السياسي كنوع من الفرجة، أو التماهي مع ما تصنعه المطابخ « الوطنية»، رغم أن المخفي من هذه «السياسة» هو الأكثر بشاعة، مقابل ذلك يذهب البعض إلى توصيف الثقافة من منطلق أنها جزءٌ من الرفاهية، ولا علاقة لها بالسياسات الوطنية، ولا بالصناعات الثقافية التي تخص المعرفة والأفكار والوعي بالحقوق والحريات، وأن التشييء في النظر العميق إلى الثقافة الفعالة سيكون محدودا، وجزءا من فاعليات الاستهلاك والإشباعات الغرائزية والرمزية، وربما يكون احتيالا على السياسات التي تسوّقها المركزيات الحاكمة، بعيدا عما يسمى بسلطة «الثقافات الرفيعة» ونخبها العاطلة عن الشأن العام، الذي يعمل باتجاه تحويل المواطن/ مستهلك الثقافة، إلى كائن سوقي وتجاري، مطيع، مسالم، لا علاقة له سوى بالمتعة، وبلذائد ما تصنعه مطابخ وتطبيقات «السوشيال ميديا»، بعيدا عن هموم الشأن الوطني، وحتى عن برامج الحكومات ومشاريعها السرية أو العلنية.. مفهوم المواطن «المسيّس» قد يكون ملتبسا وغامضا، فالهموم العامة، والصراعات الأهلية، وحتى الشأن القومي ومركزة الغرب وحرب الصهيونية، على عقولنا وأرضنا جعل من موضوع التسييس مجالا للانفعال وللإثارة، وربما إلى شيء يسعى للنفور عن «المسكوت عنه» رغم محدودية الحديث عنه بجرأة وموضوعية على كثير من المنابر والمنصات الإعلامية، وحتى في الندوات الثقافية، لأنه سيسبب للبعض حرجا، وحساسية الربط بين التصريح الثقافي والتصريح السياسي، وهذا ما أعطى هامشا لكثير من القنوات الفضائية العربية، لصناعة براديغمات خاصة للسياسي والثقافي والاجتماعي والديني، عبر انتقاء خبراء ومحللين استراتيجيين وعسكريين وأمنيين، وفقهاء وعارضات ازياء وخبراء في التجميل، مُصممين لبيان القصد الواقف وراء سياسة هذه القناة أو تلك، كناية عن تمثيل هذه الدولة أو تلك، وطبعا باتت البرامج الإخبارية والتحليلية والوعظية والمطبخية والعائلية هي السائدة، مقابل هامشية البرامج الثقافية، المعنية بأزمات الشارع والفقر والهجرة والكتاب والحرية والحق وفوبيا العلاقة مع الآخر، وأحسب أن ما أشار إليه الكيال يدخل في سياق فضح علاقة أزماتنا السياسية العام، برثاثة «أدبيات العالم الثالث» وهي تسمية مريبة وغير إنسانية، إذ يكون «الجدل السياسي» مضطربا، وعموميا، وشعبويا، ومجذوبا إلى البحث عن حلول هي أقرب للأوهام، رغم أن المطابخ السياسية العربية لا شأن لها بالأوهام الثقافية، ولا بوضع الثقافة في سياقات التنمية والأمن القومي.
عدم الاهتمام بـ»الأفكار العميقة» كما أشار الكيال، ليس سوى نتيجة لتراكم سياسات التعويم، وتعطيل مسؤولية النقد، والذهاب إلى أنواع مباحة من «النقائض» الثقافية، فصناعة الترفيه تقابلها صناعة الخطاب الديني الشعبوي، والمواطن المستلب في حكايات التاريخ والوصايا، كما أن صناعة الرياضة تقابلها صناعة الاستعراض و»الأساطير اليومية» التي تحدث عنها رولان بارت، فهي صناعات إشباعية صالحة لمواطن افتراضي في المستقبل، إذ يكون فيها البطل الرياضي والداعية الديني والمطرب الشعبي والنجم التلفزيوني ونجمة العري، أكثر إغواء من الفيلسوف والروائي والشاعر والمعرفي، وربما العمل على فرض نوع العزلة على «النخبة الثقافية» لتعيش أوهامها العالية، كما يقول علي حرب، ولتعيش أيضا نوعا من الاغتراب الثقافي بعيدا عن أطروحات طالما رددها الكثيرون حول «المثقف العضوي» و»المثقف النقدي» و»المثقف الثوري»، وهي توصيفات مهملة ومؤدلجة، رغم أنها تمنح المثقف مسؤولية المواجهة والنقد والمراجعة..
بعيدا عن توصيف مرجعية المثقف، فإن ما يجري يكشف عن متغيرات عميقة وصادمة، تمس بنية الثقافة، وهوية المثقف ذاته، فبقدر ما أننا غادرنا المجال النمطي للتداول الثقافي، وغياب أثر المثقف الفاعل في أثره وفي أسئلته وفي حضوره، فإن المجال اليوم أصبح أكثر إثارة، وأكثر تمثيلا لفكرة الاستهلاك الثقافي، لاسيما مع شيوع تكنولوجيا التواصل، ومنابر الحوار الثقافي المرئية، ومواقع « اليوتيوب» أي العمل على تأمين مساحات أكبر للجذب الثقافي في أقنعته المتعددة، وعبر برامج تتعرض أحيانا للملاحقة القانونية والأخلاقية، والسبب هو «المحتوى الهابط» وهذه هي المشكلة المُغيبة، التي باتت تهدد رهانات التلقي والقراءة والمتابعة، رغم ما يشوبها من تهم تربط تضخم ظاهرة منابرها، بالإخوانيات والمصالح، وربما بوجود «أدلجات تحت الطاولة».
الدولة بين السياسة والثقافة
صناعة الجمهور من أكثر الصناعات تعقيدا، فمن الصعب السيطرة على مفردات هذه الصناعة، وإخضاعها إلى موجهات سياسية وأيديولوجية، إذ أحسب أن مفهوم «الشعب» بات متحفيا وهوياتيا، وربما هو الأقرب للتوصيف الأنثروبولوجي، فما بات حاضرا هو الجمهور، بوصفه المجال التداولي للاستهلاك، ولتيسير الطابع الوظيفي الذي يخص الدرس والمسح والبياني، ولمعرفة التحولات والتغيرات في البيئات الاجتماعية والسياسية والثقافية، ومنها ما يخص التعرف على بيانات القراءة والمشاهدة، وكلّ ما يخص الإحصائيات المعرفية، والمدى الذي تشتغل به مؤسسات الدولة الرسمية في هذا السياق، مقابل المدى الذي تشتغل به مؤسسات المجتمع المدني، وأصحاب رؤوس الأموال الذين يعملون في مجال توظيف أموالهم في الاستثمار الثقافي، وفي دعم الإنتاج الفني السينمائي والدرامي، لذا لا أعتقد بوجود ثقافات يمكن توصيفها بأنها من «الدرجة الأولى» و»الدرجة الثانية»، لأن كلّ الصناعات الثقافية أصبحت موجهة، وخاضعة لقصديات سياسية وأيديولوجية وإنتاجية وسياحية، فعولمة الإنترنت وجهاز الموبايل والسوق، جعلتنا نخضع لمفهوم «القرية الصغيرة» وربما مفهوم «الكف الإلكتروني الصغير» حيث تحول التداول إلى قوة فرضت تقاناتها على فنون المشاهدة، وعلى تعويم الجمهور الذي يستهلك صناعاتها.
الدولة «الوطنية» لم تعد تملك أدوات الرقابة الخاصة، لأن الرقابة أصبحت عالمية، وأن اللصوصية التي يمارسها جهاز الموبايل هو اللعبة الخطرة التي تعزز تضخيم مظاهر الاستهلاك للثقافات، أو للإخبار أو للترفيه وللمتع الجنسية، لذا تبدو «الثقافة الرفيعة» التي سخر منها علي الوردي ذات يوم، وكأنها تحولت إلى نوع من الكوميديا السوداء، فهي ثقافة مراثي لـ»الزمن الجميل» ولـ»البطولة القومية» ولـ»شعرية الديوان» لكنها في المقابل تحولت إلى عزلة ارستقراطية، أو إلى ثقافة سرديات طبقية، أو «مدينية» لم تعد لها سلطة، ولا قوة، لأن العالم الآن بلا «ملاحم» ويحكمه سياسيون شعبيون وتجار فاسدون وطفيليون ولصوص، وربما مطربون للتعرية على طريقة الرئيس الأوكراني زيلينسكي، فضلا عن عطالة الروايات والسرديات الكبرى التي فقدت مجالها العام في التحكم بالعالم، فصعود السرديات الصغرى صار أكثر رعبا، ونزوعا للهيمنة، إذ دخل في صياغة هويات البنوك والأسواق والاستهلاك والمواطنة الشعبية، وبات أكثر تشكيكا بالمعنى وبالحقائق، مثلما صار رعبا وتطرفا وتمويها، وأكثر تهديدا للدول القديمة التي تتحصن بالمعسكرات والأدلجات الكبرى..
كاتب عراقي