يُنظَرُ إلى الرواية على أنها إحدى المنتجات الأكثر تميزاً التي جاء بها عصر الحداثة مع بدايات القرن العشرين – القرن الذي شهد ثوراتٍ عظيمة ساهمت في إعادة رسم المشهد الروائي بالكامل.
أولى هذه الثورات هي الثورة في ميدان الفيزياء النيوتينية التقليدية، التي قدحت زنادها النظرية النسبية Relativity Theory التي أعادت تشكيل صورتنا المفاهيمية، وبشكل خاص، عن طبيعة الزمان والمكان، وأبانت العلاقة المتلازمة بينهما. أما النظرية الثانية التي ساهمت في الثورة الفيزيائية فكانت (النظرية الكمية Quantum Theory) التي نسفت مفاهيمنا السائدة بخصوص التزامن Simultaneity والسببية Causality، وطبيعة المادة والضوء، وعملت بشكلٍ أساسي في تهشيم مواضعاتنا الراسخة حول الحتمية الفيزيائية وأحلت محلها القوانين الإحصائية والاحتمالية.
عملت هذه الثورات الفيزيائية على تغيير نظرتنا إلى الواقع وتغيير طريقتنا في التعامل معه وكيفية تناوله، الأمر الذي ترتب عليه حتماً تغيير طبيعة الاشتغالات الروائية لأن الطبيعة المفاهيمية للواقع تعد نقطة الشروع الفلسفية، التي تخدم كأرضية (أو خلفية) يقيم عليها الروائيون هياكلهم الروائية في كل العصور، منذ بدء الفن الروائي، الذي نشأ مع رواية سرفانتس «دون كيخوته» كما يعتقد الكثيرون، في حين يرى آخرون أن الرواية – كفن راسخ – بدأت مع نشر صامويل ريتشاردسون لروايته «باميلا» في القرن السابع عشر، وحتى أيامنا هذه.
إن المفهوم السائد عن الواقع في أي عصر هو بالتأكيد العنصر الأساس الذي يحدد طبيعة الرواية وكيفية اشتغالها، باعتبارها فناً يتأسسُ على رؤية فلسفية حول المظهر، والواقع، والأفراد وطبيعة علاقاتهم، وكيفية التعامل مع الزمان والمكان، والصور الذهنية التي يكونها الأفراد عن العالم المحيط بهم، وتلك موضوعاتٌ تجعلنا نديم التساؤل حول الموضوعات الفلسفية الممتدة منذ نشأة الفلسفة الإغريقية، وحتى هذا اليوم. ربما يكون من المثير أن أذكر في هذا المقام أن بعضاً من أفضل الروائيين كانوا فيزيائيين متمرسين ذوي باعٍ وخبرة في حقلهم الفيزيائي، وأذكر من هؤلاء: اللورد سي. بي. سنو المعروف بكتابه الأشهر «الحضارتان العلمية والأدبية : نظرة ثانية» وَأرنستو ساباتو صاحب الروايات الشهيرة، ومن الفيزيائيين – الروائيين المحدثين أذكر آلان لايتمان أستاذ الفيزياء في معهد ماساشوستس التقني MIT ومؤلف رواية «أحلام آينشتاين» الذائعة الصيت، وكذلك ريبيكا نيوبرغر غولدشتاين التي بدأت فيزيائية وانتهت فيلسوفة وأستاذة جامعية، وأذكر من رواياتها «خواص الضوء: رواية عن الحب والخيانة والفيزياء الكمية
Properties of Light : A Novel of Love , Betrayal and Quantum Physics
ثمة ثورة ثانية كان لها أبلغ الأثر في تحديث شكل الرواية: الثورة التقنية التي بدأت بواكيرها منذ عصر الثورة الصناعية، التي تعد المكائن البخـــارية والقطار أهم معالمها المميزة، وتبلورت مع بدايات القـــــرن العشــــرين مع بعضــ الشواهد التقنية التي ربما تكون الطائرة، ووسائل الاتصال، والسيارات العاملة بمحركات الاحتراق الداخلي أهمها، إلى جانب التقنيات العسكرية القاتلة، التي شهدنا نتائجها المهلِكة مع الحرب العالمية الأولى. أبانت الثورة التقنية أمام الإنسان القدرات الهائلة التي يجترحها في فعل الخير والشر معاً، وربما كانت قصيدة «الأرض الخراب» لإليوت تصف بطريقة رائعة المشهد الإنساني والخراب الذي رافقه بعد نهاية الحرب العالمية الأولى.
أعادت الثورة التقنية، على وجه التحديد، تشكيل صورة الإنسان عن المكان والزمان – لا على المستوى المفاهيمي، مثلما فعلت الثورة الفيزيائية، بل على مستوى الإحساس الفردي والتعامل اليومي – بعد أن انتشرت سكك الحديد خاصة، ومن هنا صار يُنظر إلى القطار (إلى جانب السكك الحديدية) على أنه واحدٌ من أهم وجوه الحداثة، التي ساهمت في إعادة ترتيب المشهد الروائي، بسبب انتشارها ورخص كلفتها، التي باتت في متناول الجميع، بعكس الطائرة التي انحصر استخدامها بين بعض الطبقات الثرية، ولم تصبح وسيلة متاحة أمام الكثيرين، إلا مع منتصف الخمسينيات في القرن العشرين، بعد تطوير المحركات النفاثة. من الجدير الإشارة إلى أن القطار يظهر كمكون رئيسي في الكثير من الروايات، باعتباره أداة ساهمت في تهشيم مفهوم (الزمن الراكد والممتد بلا نهاية) وصار الزمن مفهوماً ديناميكياً يتسم بالتغير والنزعة الثورية الدافعة إلى التطور والارتقاء المتواصل بلا هوادة.
فتحت الثورة الليبرالية آفاقاً واسعة أمام أنماط تجريبية مستحدثة من الأفكار والفلسفات، وماعادت الأطر والمؤسسات القديمة مما يمكن – أو ينبغي – العمل في ظلها، وهنا يمكن ملاحظة الحقيقة الصارخة في أن بدايات القرن العشرين التي شهدت نشوء الرواية الحديثة، هي ذاتها التي شهدت ولادة وانطلاق الحركات الثقافية ذات الطبيعة التثويرية مثل: السيريالية.
أما الثورة الثالثة التي كان لها أبلغ الأثر في تثوير المشروع الروائي وتحديثه، فهي الثورة السايكولوجية التي أعادت تشكيل مفاهيم العقل، والحتمية والإرادة الحرة، والدوافع، والحاجات، وربما تكون السايكولوجيا الماسلوية (نسبة إلى عالم النفس المعروف أبراهام ماسلو هي، الإنجاز الأكثر أهمية في الميدان السايكولوجي في القرن العشرين – من وجهة نظر تأثير السايكولوجيا في الرواية – بعد أن جاء ماسلو بمفهوم التدرجية الهرمية للحاجات الإنسانية Pyramidal Heirarchy of Human Needs وكذلك بمفهوم الطبيعة الروبوتية الشبيهة – بوضعية الطيار الآلي – التي يعيش معظم البشر حيواتهم فيها وهم يعانون من أقصى درجات الضجر واللامبالاة، ومن الطبيعي أن تكون مفردات مثل الحاجات الإنسانية، والضجر، واللامبالاة، موضوعات دسمة أمام الروائي المنشغل بالحياة ومعضلاتها السائدة.
ثمة ثورة رابعة على المستوى الفلسفي طالت الاشتغالات الفلسفية التقليدية، وأثمرت كشوفات فلسفية جديدة لعل حركة التحلــــيل اللغــوي Linguistic Analysis والنزعة التحليلية Analiticity في الفلسفة عامة، تعد أهم معالمها، وقد ساهم فلاسفة مثل برتراند راسل وَلودفيغ فيتغنشتاين في قيادة ركب الفلسفة التحليلية إلى جانب جمهرة من الأساتذة الكامبريدجيين والأكسفورديين المميزين، ولا يخفى حتماً التأثيرات التي جاء بها هذا الاتجاه التحليلي الفلسفي – اللغوي إلى اللغة الروائية، التي نزعت عنها ثوب الرطانات اللغوية المفخمة، والاستعارات البلاغية المحتشدة، التي كانت سمة الرواية الفكتورية، وحل محل هذا لغة مقتصدة تحتكم إلى معايير الانضباط ومقاربة الأهداف بلا وسائل التفافية على صعيد اللغة. تنبغي الإشارة هنا إلى العلاقة الوثيقة بين الفلسفة والأدب عامة – والفلسفة والرواية خاصة – ويمكن إيراد قائمة طويلة بالفلاسفة الروائيين، لعل أيريس مردوخ تقف في طليعتهم، وما زالت رواياتها تلقى صدى طيباً حتى يومنا هذا، رغم أن بعضها وضعتْه الكاتبة في مطلع الخمسينيات من القرن الفائت.
ينبغي في هذا الميدان عدم إغفال الثورة الليبرالية التي تعاظم مدها في القرن العشرين، بعد وضع قواعدها التأسيسية الأولى في القرن التاسع عشر، على يد آبائها المؤسسين، وفي طليعتهم الفيلسوف التنويري جـــون ستوارت مل.
تعد الفردانية Individuality التمظهر الأجلى المقترن بالليــــبرالية، والميزة الأساسية لها، وبات في عداد الحقائق الواضحة التي ترقى إلى مستوى البديهيات، أن الفرد مسؤول مسؤولية تامة عن صناعة حياته وتشكيل مستقبله، وأن كل النظم الحكومية ينبغي أن تساعده في تحقيق فردانيته المميزة والثمينة، وظهر تأثير تلك الميزة في أوجه عدة: في الحقل السياسي قادت الليبرالية إلى توسيع المشاركة الفردية في الحياة السياسية، وتحجيم الفكر الشمولي والطغياني، خاصــــة الفكر الديني العقائدي، والمشاركة الواسعة للنساء في المشهد السياسي، وتخفيف غلواء البيروقراطية الحكــــومية، والتأكــيد على حقـــوق الطفل، والتركيز على حقوق الإنسان. على الصعـــيد الاقتصـــادي قادت الليبرالية إلى الارتقاء بنوعية الحياة، وظهر إلى العلن مفهوم دولة الوفرة Welfare State كما تم تحديد ساعات العمل اليومية والحد الأدنى للأجور، وطُبقت برامج الحماية الإجتماعية وبرامج التأمين الصحي (في القارة الأوروبية خاصة) الأمر الذي ساهم في تعزيز قدرة الفرد اقتصادياً وتعزيز شعوره بالأمان الذاتي تجاه المجاعة والفاقة، وتمكينه من الاستمتاع بوقت الفراغ المتاح له، وتدعيم فضائه الذهني ونوازعه العقلية العليا، بعيداً عن المكابدات اليومية المرتبطة بتأمين الحاجات البيولوجية البدائية.
أما في ميدان الثقافة فقد فتحت الثورة الليبرالية آفاقاً واسعة أمام أنماط تجريبية مستحدثة من الأفكار والفلسفات، وماعادت الأطر والمؤسسات القديمة مما يمكن – أو ينبغي – العمل في ظلها، وهنا يمكن ملاحظة الحقيقة الصارخة في أن بدايات القرن العشرين التي شهدت نشوء الرواية الحديثة، هي ذاتها التي شهدت ولادة وانطلاق الحركات الثقافية ذات الطبيعة التثويرية مثل: السيريالية، كما شهدت ظهور المدارس الحديثة في الرسم مثل: التكعيبية. ساهم الحس الفرداني بتهشيم القيود الثقيلة التي كانت تكبل الفرد من جهة، والتي عملت في الوقت ذاته على تشظية فضائه العقلي والنفسي وأطاحت بحس الطمأنينة والسكينة والانتماء التي اعتادها في أحضان عائلته أو التشكيلات المؤسساتية التقليدية (مدرسة، جيش، مزرعة، مصنع، كنيسة) وهو الأمر الذي انعكس في طبيعة الاشتغالات الروائية التي تحتم على الرواية الحديثة أن تتعامل معها بجدية فائقة. ترافق نشوء الرواية الحديثة أيضاً مع الثورة الاجتماعية التي عمت العالم الغربي، وكان من أهم مظاهرها هو إعادة الاعتبار لإنسانية الكائن البشري، وتعاظم الحركة النسوية Feminism وتهافت التراتبيات الطبقية التي وسمت العهد الفكتوري (في بريطانيا خاصة) وإعلاء شأن الدعوة إلى نوعٍ من العدالة الاجتماعية المرشدة أو المعقلنة، وليس غريباً أن نرى أعاظم الكُتاب الحداثيين البريطانيين (مثل إج. جي. ويلز، برناردشو) أعضاءً في الجمعية الفابية Fabian Society التي دعت إلى اعتماد نوع من الاشتراكية الهادئة والمنضجة بعيداً عن الدوغمائيات الشعبوية، التي سادت مع بواكير القرن العشرين. أما على صعيد الرواية فقد عملت هذه الثورة الاجتماعية على تفكيك الأنساق الطبقية ذات التراتبية الهرمية، وأوجدت ما بات يعرف بِـ (الوعي المرتبط بالطبقة Class – Bound Consciousnss) وحيث صار واضحاً كيف يمكن للأوضاع الطبقية الراسخة أن تشكل نمط الوعي الخاص بكل طبقة، وقد وجدت مفاعيل هذا الوعي صداها في الرواية الحديثة، حيث لم تعد الرواية محض توصيف لحالة طبقية محددة مكتنفة بالإحساس الذي يبعث على التعاطف الميلودرامي (مثل طفل يتيم يُعامَل بقسوة، أو امرأة مكسورة الجناح فاتها قطار الزواج، إلخ من الحكايات السردية التي شاعت في العصر الفكتوري خاصة) بل باتت الرواية لوحة بانورامية تضم كل أشكال التوصيفات الاجتماعية من غير عزل طبقي مصطنع، الأمر الذي ترتب عليه أن الروائي الحداثي، بات عنصراً مساهماً في الثورة الاجتماعية، ولم يعُد محض شخصية محافظة تركن لطلب الراحة والاستكانة، بعيداً عن هز أساسات الظلم الاجتماعي الذي رسخته التراتبيات الطبقية لعقود طويلة.
ساهمت هذه الثورات الست في إعادة تشكيل المشهد الروائي بكامله وكل بطريقته وفي ميدان اشتغاله، لكن المساهمة المشتركة التي قدمتها كل هذه الثورات مجتمعة في الميدان الروائي هي، التأكيد على التشظي الذي أصاب الزمان، والمكان، والعقل البشري، والروح الإنسانية، والعلاقات بين البشر، وعلاقات البشر مع البيئة المحيطة بهم، والعلاقات بين الطبقات الاجتماعية، وذاك هو بكل تأكيد المَعْلم الأساسي الذي يسِمُ أي رواية حديثة ويدمغها بتوقيعه الصارم.
* كاتبة وروائية ومترجمة عراقية تقيم في الأردن
من خلال إشارتها إلى العلاقة بين الفلسفة والأدب (وخاصةً الرواية)، تقول لطفية الدليمي: «ويمكن إيراد قائمة طويلة بالفلاسفة الروائيين، لعل أيريس مردوخ تقف في طليعتهم، وما زالت رواياتها تلقى صدى طيباً حتى يومنا هذا».
حينما كنتُ عددًا من السنين الغنية فكرًا وفلسفةً في الهيئة المركزية لما يُسمى بـ«المجمع الفلسفي الإيرلندي» Irish Philosophical Society، نشأتْ بيني وبين آيْرِسْ بالذاتِ (واللفظ، هنا، ليس «أيريس»، كما تتصوَّر لطفية الديلمي لفظها المعرَّب لهذا الاسم الإيرلندي الجميل)، نشأتْ بيني وبين آيرس صداقة حميمة جدًّا من خلال واحدٍ من تلك المؤتمرات التي شاركنا فيها سويةً، وكان الموضوع الفلسفي العام للمؤتمر حينذاك «فلسفة العقل». وكانتْ أيرس معجبةً جدًّا بـ«إنكليزيتي» وبالطريقة التي أتكلمُ بها «الغيلية» (لغة إيرلندا الأصلية)، وسرعانَ ما ازدادت هذه العلاقة الودِّيَّةُ حميميَّةً بيننا واستمرَّت حتى آخر يوم من حياة آيرس حين رحلت عن هذه الدنيا (يوم 8 شباط 1999)، وعلى الرغم من الفارق الكبير في السنَّ ما بيننا – فكانتْ تعتبرُني ابنَها وكنتُ أعتبرُها أمي (وثمَّةَ تفاصيلُ عميقةٌ حولَ هذه العلاقة الودِّيَّة الحميمة ليس هذا المكانُ منامسبًا لذكرها)!
[يتبع]
[تتمة]
حقيقةً، إن جئنا لمسألة العلاقة بين الفلسفة والأدب (وخاصةً الرواية)، لم تكن آيرس تعتبر نفسها «في طليعة الفلاسفة الروائيين» (والتوصيف الأصح، هنا، هو: «الروائيين الفلسفيين»)، كما تجزم لطفية كيفما اتفق. كانت آيرِس تفتخر بكتبها الفلسفية أكثر مما كانت تفتخر برواياتها التي كانت تقول لي بأنها (أي الروايات) تكتبها فقط «حين تأتي آونةٌ ينغلق عقلها وينفتح قلبها فيها» – وكانت آيرس، على فكرةٍ، تنتقد الفيلسوفين رسل وفتغنشتاين، من بين فلاسفةٍ آخرين، تماما على النقيض مما تحاول لطفية الديلمي أن تبيِّنَ فهمَها لهذين الفيلسوفين. وفي رأيي الشخصي، ها هنا، إذا كان هناك توصيفٌ فكريٌّ آخرُ مضافًا إلى صفة «الروائية» بالنسبة لآيرس فهو توصيف «الروائية النفسانية» وليس «النفسية»، ويتجلى ذلك أكثر ما يتجلى في رواياتها تلك التي تخاطب فيها «قوَّة اللاوعي» – فمثلا، لا حصرًا، ثمَّةَ فارقٌ مفهوميٌّ كبير بين مدلول «التزامن» الذي تظنُّ لطفية الديلمي أنه ترجمةٌ عربية للاصطلاح الإنكليزي Simultaneity وبين المقابل العلمي الدقيق والدالِّ لهذا المصطلح (قريبًا سأكتبُ مقالاً بحثيًّا مفصَّلاً يتناول نقاطًا كهذه من بين غيرها من الفكرات)!
تصويب مطبعي (بعض الكلمات تظهر تلقائيًّا قبل الإرسال):
** أيرس >> ** آيرس / ** الديلمي >> ** الدليمي / ** منامسبًا >> ** مناسبًا