هي ثورة بكل المعاني. ثورة الشعب الجزائري باتجاه الحرية والكرامة الإنسانية. ولأنها ثورة الحرية فهي ثورة على الظلم والاستبداد التاريخي، الذي يمثله الرئيس بوتفليقة ونظامه المسيطر منذ عشرين عاما. وقد ترافقت مع انتفاضة الخبز السودانية، والتي تحولت إلى ثورة لاستهدافها الرئيس وعصابته الحاكمة منذ ثلاثين عاما، ودعوته للاستقالة وتغيير النظام بالكامل. فنحن أمام ثورتين في الربيع العربي المستمر حتى يتخلص من أنظمة الاستبداد والقتل والتي سيطرت على الدول منذ الاستقلال وحتى الآن.
ويشير العديد من الباحثين الجزائريين إلى أن هذه الثورة هي الثورة الثانية في الربيع العربي والذي بدأته الجزائر عام 1988، بانتفاضة عارمة شملت كل المجتمع، وكان الهدف تحسين الوضع المعيشي المتردي والبطالة والاقتصاد المنهار والحرمان والانسداد السياسي. وبسبب تدني القدرة الشرائية، وإعلان عدد من الشركات الوطنية افلاسها، وعدم قدرتها على استيراد القمح. رافق التظاهرات التخريب للأملاك العامة والخاصة، مما استدعي الشاذلي الجيش لقمع التظاهرات، وتم قتل خمسمئة شخص.
انتفاضة الحرية
ولم تكن أحداث تشرين الأول/أكتوبر «شغب أطفال» كما وصفتها السلطة، إنما كانت انتفاضة الحرية ضد منظومة الحكم السياسية والاقتصادية، التي أوصلت الوطن إلى الارتباك السياسي والافلاس الاقتصادي، نتيجة أزمة البترول وانخفاض أسعاره في عام»1986». وكان ربيعاً جزائرياً تزامن من ربيع أوروبا الشرقية، التي نجحت في التأسيس لأنظمة ديمقراطية، في حين فشلنا نحن، النظام والمعارضة. حيث «لجأت المعارضة إلى اختزال الديمقراطية نحو مسار انتخابي هامشي، أي في صناديق الاقتراع للوصول إلى السلطة، دون مرحلة انتقالية» يمكن من خلالها تغيير النظام القديم بالكامل، «بتعبير عثمان لحياني».
وقد تم التأسيس لدستور جديد يعترف بالتعددية السياسية والإعلامية، وحرية التعبير. لكن هذا «كله تم بيد السلطة دون انعقاد مجلس تأسيسي توافقي يشمل كافة الطبقة السياسية والمدنية في المجتمع. واحتفظت السلطة بمؤسسات المرحلة السابقة كالبرلمان والحكومة والجيش والأمن، دون أن تقطع مع المؤسسات القديمة». والممارسة السياسية للأحزاب لم تكن موجودة قبل»1988»، ومع العنف السياسي والعسكري الذي بلغ ذروته مع «العشرية السوداء»، في «1992-2002»، بين النظام و»الجبهة الإسلامية للإنقاذ»، الذي أعقب الانتخابات البرلمانية في «1991»، وحققت الإنقاذ أغلبية ساحقة، حيث رفضها الجيش وأعلن العنف المسلح حيث راح ضحيته مئة ألف قتيل. وكان آخرها قانون العفو العام الذي صدر بموجب «ميثاق السلم والمصالحة الوطنية» الذي استفاد منه الإسلاميون، وتم الاجهاز على الانتفاضة الديمقراطية، والحريات التي تم إنجازها في تشرين الأول/أكتوبر»1988»، وعادت السلطة إلى الأسلوب الاستبدادي تجاه أحزاب المعارضة الإسلامية والديمقراطية.
لم تكن الحالة الاقتصادية السيئة للجزائر في مطالب التظاهرات الآن. حيث أن مصدر الدخل للعملة الصعبة هو النفط بنسبة»97٪». وتعتبر الجزائر رابع احتياطي عالمي في انتاج الغاز، وسابع احتياطي بالنفط. ومع تراجع أسعار النفط في «2014»، هو الذي أدى إلى الأزمة الاقتصادية، ولم تتجاوز نسبة النمو الـ «1٪». حيث تسيطر الدولة على الاقتصاد كلية، وجرى تصنيف الجزائر الدولة الـ»166» من أصل «190» دولة، في عام»2018». وعملت الأزمة على زيادة البطالة وخاصة بين جيل الشباب وارتفعت إلى «27٪»، وبين النساء إلى»20٪»، علماً أن «80٪» من الشباب متعلمون، حسب إحصائيات صندوق النقد الدولي. لكن هذه الأزمة والبطالة الواسعة أمام الشباب هي التي دفعتهم إلى الاحتجاج والتظاهر السياسي ضد ترشيح الرئيس بوتفليقة للمرة الخامسة. مما يؤشر إلى صراع بين جيلين:
الأول: هو جيل السلطة والذين عملوا على ترسيخ حكومة استبدادية، برئاسة حزب جبهة التحرير الوطني – وبمشاركة التجمع الوطني الديمقراطي، وتجمع أمل الجزائر، والحركة الشعبية – ومنعت السياسة في المجتمع، والتهمت كافة الثروات، ووضعت كافة أشكال المعارضة في السجون، والذي يحكم النظام منذ «2013- نيسان/أبريل» يوم أصيب الرئيس بالجلطة الدماغية وجلست على الكرسي المتحرك، الطغمة العسكرية مع حزب التحرير، وبقيادة «السعيد بوتفليقة» شقيق الرئيس، وبمساعدة رئيس الأركان، والذين عدلوا الدستور مرتين كي يترشح بوتفليقة للمرتين الثالثة والرابعة والخامسة» بتعبير حسين بن جديد وهو جنرال متقاعد».
والجيل الثاني: هو جيلان للشباب والذين أعمارهم أقل من الأربعين، والذين يبحثون عن الحرية والشغل والكرامة، ويريدون في جيل الشباب هو الذي يجب أن يحكم، والخروج من دائرة الرموز القديمة والتي تتربع في كراسي الرئاسة منذ نصف قرن.
وكانت التظاهرات كبيرة للغاية، انضم إليها الطلاب وأساتذة الجامعة، والمحامون والقضاة، ونقابات العمال، والكثير من أفراد الشعب، عدا جمعية التجار والحرفيين وأصحاب الأموال الذين وجدوا مصالحهم مع استمرار النظام. وانضمت الطبقة السياسية المعارضة إلى التظاهرات وعبر الجميع بصوت واحد: «الشعب يريد إسقاط النظام». حيث لم تعد الصيغة عدم ترشح بوتفليقة «82 عاما» فقط، إنما إزالة النظام مع كافة مرتكزاته الأمنية، الذي لم يعد يملك أية مشروعية دستورية، أو ثورية كما يسميها.
وقد رفضت التظاهرات اللعبة الأولى التي عمل عليها النظام، وهي ترشيح بوتفليقة رسمياً، مرفقاً ببرنامج عمل-أعلنه مدير حملته الانتخابية- بأن «الرئيس تعهد بانتقال سلمي للسلطة في غضون عام»، «وأنه سيضمن ندوة وطنية للحوار»، «ودستور جديد»، «وإنه سيعمل على تغيير النظام» كما يطالب المتظاهرون، وستجرى الانتخابات في موعدها المحدد في «18 نيسان/ابريل».
العائلة الحاكمة
كما أن التظاهرات اللاحقة استمرت حتى بعد مجيء بوتفليقة إلى الجزائر، تحت شعار «لا للتمديد، لا للتأجيل»، وعبر عن اللعبة الثانية أو «التحايل الجديد»، بقوله أنه لم يكن ينوي الترشح-مما يؤشر إلى أن الرسائل الأولى كانت من صنع «العائلة السياسية والعسكرية الحاكمة – وأنه لم يترشح لعهدة خامسة، ودعا إلى حل الحكومة، وجرى تكليف وزير الداخلية- وهو وزير المعتقلات والسجون -بتكليف حكومة جديدة، تبين أن أغلبهم من الرموز القديمة، وكذلك دعا إلى ندوة وطنية للحوار مع المعارضة-كما فعلت كافة الأنظمة التي تصدت لثورات الربيع في تونس ومصر وسوريا واليمن، والسودان، ودستور جديد والاستفتاء عليه، وتم إلغاء الانتخابات وتأجيلها إلى فترة غير معروفة، وسيبقى هو الرئيس خلال العام الحالي، أي أنه سيمدد رئاسته عاماً آخر.
وقد عمت التظاهرات في اليوم التالي، رفضاً لتمديد الرئاسة بعد التحقق من عدم الترشيح. وكانت تظاهرة «جمعة الرحيل» هي الأقوى والاشمل، حيث انضم إليها نصف الشعب الجزائري، رافعة شعار إسقاط النظام، وتم إخراج «جاب الله» ممثل الإخوان من التظاهرة، كي لا يتم إفساد التظاهرة بالشعارات الإسلامية، وتذكير الجزائريين بالعشرية السوداء التي ألمح اليها رئيس الوزراء. رغم العطلة التي فرضتها وزارة التعليم والتربية، والتي وصفها الأساتذة أنها مثيرة للسخرية، وإيقاف حركة المترو والقطارات وكافة وسائل النقل البري لعدم انتقال الشباب إلى التظاهرات في المدن.
ويتم رفض تسمية الثورة في الجزائر أنها تشبه الثورة السورية، التي تسلق إليها الإسلاميون ودول الخليج الوهابية، دون أن يتم الذكر أنه في سوريا استمرت ثورة الحرية السلمية لمدة ستة أشهر حيث حصد النظام آلاف الشهداء قبل أن يتم الانتقال إلى الحالة المسلحة، وهي ثورة للحرية مثل الثورة الجزائرية.
وتتفق المعارضة السياسية بكافة تنوعاتها المختلفة مع التظاهرات وحقها بالتغيير الشامل للنظام، وأن النظام غير قادر على قيادة المرحلة الانتقالية، وترفض إقحام الجيش في الحياة السياسية، ودعوا نواب البرلمان للانسحاب، واستقالة بوتفليقة فوراً، وإيجاد جمعية تأسيسية تدير أمور الوطن وتؤسس لدستور جديد، وتحدد تاريخاً جديداً للانتخابات الرئاسية والبرلمانية الجديدة. دون اعتراف المتظاهرين بأحقية أي تيار سياسي يمثلهم، ورفضهم لأي تدخل دولي خارجي.
والمهم ألا تنضم المعارضة إلى الندوة الوطنية برعاية النظام، لأن ذلك سيكون «ضحكا على اللحى». إنما الندوة الوطنية هي بمثابة مؤتمر وطني جامع، وانعقاده مرهون أولاً، باستقالة بوتفليقة، وثانياً، توفر قيادة وطنية للندوة، وهي التي ستكون مسؤولة عن كافة الخطوات الوطنية والدستورية والتنظيمية اللاحقة. وهو المسؤول عن بناء الجمهورية الديمقراطية الجديدة.
إذن نحن أمام ثورتين في الربيع العربي المستمر، في السودان والجزائر، تهدفان إلى تغيير الأنظمة. ومع أن الأفق غير متاح لانتصار الثورات الشعبية السلمية، رغم ما تسببه من حالة الارتباك للأنظمة، والانشقاقات التي تحصل بداخلها، لأنها تبقى متحصنة بحماية الجيش لها كما يصرح قادة الجيش، أن حقوق الشعب محفوظة، والتظاهرات محقة، واعتبر «أحمد صالح» رئيس الأركان أن الجيش حالة محايدة في الانتخابات، والعلاقة وطيدة مع الشعب»، وعلى الجيش حماية الدولة والأمن.
ورغم أن الثورات الشعبية بما تحمله من قيمة كبرى في تغيير الأنظمة والقوانين، إلا أنها بمفردها غير كافية للتغيير بدون وجود قوة مادية تجبر النظام على الرضوخ لمطالب الشعب، وهذه القوة في منظورنا العياني هو الجيش، والأجهزة الأمنية. وفي منظورنا لتجارب الربيع العربي نجد أن الجيش هو الذي أجبر الرئيسين المصري والتونسي على الرحيل، والقوات الدولية في ليبيا أزاحت القذافي وقتلته، والتسوية اليمنية لم تنجح والحرب مستمرة، والنظام السوري باقٍ بالدعم الروسي والإيراني. وبالتالي كل العمل يجري على أساس حيادية الجيش، أو انضمامه للمعارضة الشعبية.
ومن الضروري إبعاد الجيش عن الحياة السياسية كي لا تتكرر في الجزائر التجربة المصرية، وتقوم الدولة بانقلاب عسكري على الديمقراطية ووفق طريقة السيسي، الذي أعاد مصر إلى النفق المظلم، وانكسار ثورة «25 يناير».
وأيضاً حتى تنجح التظاهرات وتحقق أهدافها، بحاجة إلى تكون أهداف التظاهرات واضحة، والمتمثلة بإقامة «جمهورية ديمقراطية علمانية» تعبر عن كافة مكونات الشعب، وبالتالي على التظاهرات أن تفرز قيادتها التي تعبر عن هذه الأهداف وبدون مساومة مع النظام الذي يجب أن يرحل. لتتجاوز حالة الانقسام في صفوف المتظاهرين كما يسعى إليها النظام، والابتعاد عن الإسلام السياسي المسؤول عن العشرية السوداء، والذين يدعون إلى دولة دينية، عن ساحة الصراع باعتبار أن الصراع بين قوى الشعب الممثلة للديمقراطية والعلمانية، وقوى الاستبداد والفساد الممثلة بالنظام، واستبعاد أية دكتاتوريات جديدة ممثلة بالإسلام السياسي وغيرهم من كافة الأيديولوجيات الأخرى.
وأيضاً المحافظة على السلمية والابتعاد عن العنف، لأن عظمة التظاهرات تأتي من سلميتها التي باستمرارها ستجعل النظام السياسي يتفسخ بالتدريج، وتجعل الجيش إلى جانب الشعب، وبذلك تستطيع التصدي للأساليب الناعمة أو القوية من طرف النظام ضد الشعب. فالجزائر بهذه التظاهرات تشهد حركة مفصلية تحدد المستقبل الربيعي المشرق للجزائر.
والسؤال الأكثر غباء الذي يقدمه النظام هو: أين هو البديل، والشعب في الشارع لا يقدم البديل بالصوت والصورة؟ وهو سؤال جوابه، أنه عندما يرحل هذا النظام برموزه المتسمة بالتسلط والفساد، فسيخرج هذا الشارع الآلاف من البدائل التي تؤسس لجمهورية ديمقراطية وعلمانية تؤسس لوطن جديد، وجمهورية جديدة، تعيد للإنسان حريته وكرامته.
كاتب وباحث سياسي سوري
حبذا سيدي الكريم لو اخترت صورة أخرى غير التي تشير إلى السجائر دام فضلكم
حبذا لو ننتهي ونخرج من هذا التفكير الكارثي بأصغر الأمور ( السجائر !!!)
علينا أن نفكر بالقضايا الكبيرة … دام فضلك.