الجالية السورية في بريطانيا جذور ضاربة في العمق.. قلق على ما يجري في الوطن.. والتعامل مع كابوس الحرب بشكل دائم

حجم الخط
0

لندن ـ ‘القدس العربي’ تعتبر الجالية السورية في بريطانيا صغيرة مقارنة مع الجاليات العربية والمسلمة الاخرى ولا يتجاوز عدد ابنائها الاربعة الاف في اقل تقدير والعشرة في اعلى تقدير، ويعيش معظمهم في لندن والباقي موزعون في كل انحاء بريطانيا، وقبل الثورة التي اندلعت في البلاد عام 2011 كانوا منشغلين بالتجارة والدراسة والعمل في المؤسسات الطبية البريطانية.
وما يميز الجالية السورية عن بقية الجاليات الاخرى ان جذورها ممتدة وضاربة وتعود الى بريطانيا الفيكتورية حيث عاشت جالية سورية في مدينة مانشستر والمدن الشمالية وعملت في قطاع النسيج.
وقد ذكر الباحث فريد هاليدي قصتهم في بحثه عن العرب المنسيين في بريطانيا، كما تحدث ايضا عن الفاسيين وذلك في كتابه الشهير ‘مسلمو بريطانيا الاوائل’.
وظلت الجالية بعيدة عن الاضواء نظرا لانشغالاتها الخاصة ولخوفها من النظام القمعي في سورية خاصة ان الجالية لم تقطع صلتها بالوطن الام حتى من يعيش من ابنائها في المنفى منذ عقود. لكن سرعان ما غيرت الانتفاضة التي اندلعت في عام 2011 كتظاهرات سلمية تطالب بالاصلاح والحقوق المدنية، حياتهم ووضعتهم في مركز الضوء وغيرت طبيعة حياتهم خاصة عندما انتقلت الانتفاضة الى مرحلة المواجهة بعد تبني النظام الحل الامني، وانتهت للعسكرة والمواجهة الحالية حيث قتل حتى الان من السوريين اكثر من 90 الفا، وشرد مليون ونصف للدول الجارة في الاردن وتركيا ولبنان، فيما يعيش اكثر من 4.5 مليون كمشردين في داخل البلاد.
وقد دمرت الحرب مدنا وقرى ولا تزال مشتعلة، حيث يتناقش المجتمع الدولي حول تسليح المعارضة، وتجاوز النظام الخطوط الحمر، بعد اعلان ادارة باراك اوباما عن تأكدها من استخدامه للسلاح الكيماوي وان بصورة محدودة ضد المعارضة المسلحة في دمشق وحلب ومناطق اخرى.
ومما يزيد الوضع تعقيدا ويترك اثره على العلاقات المجتمعية بين ابناء الجالية هو دخول العناصر الاجنبية على خط الصراع، حيث ذكرت تقارير ان السعودية بدأت بتزويد المقاتلين باسلحة ثقيلة بعد ايام من اعلان واشنطن عن قرار لتسليح المعارضة. وجاء التحرك السعودي بعد دخول حزب الله الى جانب الجيش السوري في معركة القصير الشهر الماضي. وبالمحصلة فسورية الآن ساحة صراع دولي بين القوى الكبرى، وتسيدت الازمة فيها قمة الدول الثماني التي انعقدت في ايرلندا الشمالية وهيمنت عليها الخلافات بين روسيا من جهة وبريطانيا والولايات المتحدة من جهة اخرى. وعلى الرغم من انخراط الجالية ومنذ البداية في التظاهرات ضد النظام وقامت بتنظيم تجمعات احتجاجية امام السفارة السورية في لندن قبل اغلاقها ورحيل السفير، الا انها ركزت جهودها بعد تفاقم الوضع الانساني على الاغاثة الانسانية وتوفير المساعدات الغذائية والطبية، للاجئين والاعلامية للمعارضة فيما اختار البعض من الشباب المشاركة في القتال الى جانب الجماعات المقاتلة.
وقد ترك كل هذا اثره على الجالية التي انقسمت بين مؤيد للنظام ومعارض له، وحدث في بعض الحالات استقطاب. وفي تقرير اعدته حمى خليلي لصحيفة ‘الغارديان’ نقلت فيه مستوى التوتر والقلق بين ابناء الاقلية فزاهر شهاب، طالب دكتوراة في جامعة باث تحدث اليها عن مشاعر الصدمة عندما علم العام الماضي بخبر مقتل والدته وشقيقه واثنين من اعمامه واثنين من ابناء عمه عندما ضرب صاروخ الحقل الذي كانوا يعملون فيه في بلدة داريا القريبة من العاصمة دمشق.
وعلى الرغم من مرور عام على ما حدث الا انه لا يزال يشعر بالصدمة ‘لا اصدق حتى الان ما حدث’ مضيفا ان والديه قضيا كل حياتهما في الريف ولم يتدخلا في السياسة وكانا فخورين لوصول ابنهما لبريطانيا لاكمال دراسته. ويقول التقرير ان حزن زاهر يتكرر في بيوت الالاف من السوريين البريطانيين، حيث دخلت الحرب في بلادهم لمستوى دولي وصراع بين القوى الاجنبية من حزب الله الى السعودية اضافة للمقاتلين الاجانب الذين يتدفقون الى سورية، ومنهم اكثر من مئة مقاتل بريطاني.
وفي الشهر الماضي قتل احد ابناء الجالية السورية علي المناصفي الذي تسكن عائلته في منطقة ‘اكتون’ غرب لندن حيث ذهب الشاب البالغ من العمر 22 عاما للمشاركة الى جانب المقاتلين في سورية.
وقبل المناصفي قتل الطبيب البريطاني من اصل هندي عيسى عبدالرحمن (26 عاما) والذي تطوع للعمل مع جمعية ‘هاند ان هاند’.

كابوس دائم

ولم تعان الجالية من مخاوف وقلق مثلما تعيش الآن بسبب الحرب حيث تنقل عن غياث الجندي الذي يعيش في انكلترا منذ 14 عاما وصفه الحال بانه يشبه ‘كابوسا على مدار الساعة’، ويقول غياث الذي هرب من قمع النظام وتعذيبه ويعمل مع مؤسسة ‘بن’ الدولية ان السوريين في بريطانيا يعيشون حالة قلق دائم ‘حتى عندما تكون نائما فانك تفكر بعائلتك وجيرانك واصدقائك. حدث انفجار في البلدة التي تعيش فيها والدتي وتحطمت كل نوافذ البيت وتطاير زجاجها في داخل الغرف’.

لهم جذور

وتشير خليلي الى تجذر السوريين في بريطانيا منذ القرن التاسع عشر حيث جلبتهم تجارة القطن الى المدن الصناعية في بريطانيا، ولا تزال هناك عائلات سورية تملك مصانع في المدن الشمالية مثل برادفورد وليدز. وتنقل عن نديم شحادة من ‘تشاتام هاوس’ المعهد الدولي للبحوث في لندن قوله ان هذه العائلات تتحرك بين بريطانيا وسورية وتحتفظ بصلاتها مع الوطن الام.
ويتحدث شحادة عن مراحل نمو الجالية، حيث زاد عددها بسبب مجيء اعداد جديدة في عقدي الستينات والسبعينات من القرن الماضي الذين لجأوا الى بريطانيا نتيجة للظروف السياسية ودخول القوات السورية للبنان عام 1976. وكان معظم الذين جاءوا مهاجرين سياسيين حيث كان من الصعب عليهم العودة الى بلادهم اما لخوفهم من الاعتقال او لانهم لا يريدون اداء الخدمة العسكرية الاجبارية، ثم جاءت مذبحة حماة في الثمانينات حيث زاد عدد السوريين في بريطانيا. وشهد العقدان الماضيان تدفقا للمهاجرين الاقتصاديين والاطباء الذين عملوا في الخدمة الصحية البريطانية ‘ان اتش اس’.
وعليه يتوزع السوريون في بريطانيا على اكثر من مدينة لكنهم يظلون جالية متماسكة كما يقول شحادة. ويمكن ان توصف الجالية السورية بالازدهار خاصة ان ابناءها نشطون في مجال التجارة ومتعلمون ومندمجون في الاعم الاغلب، وتنقل عن مالك العبدة الناشط السوري قوله ان الجالية حيث نشأ في منطقة اكتون غرب لندن، كانت تلتقي في كل يوم جمعة وتعقد اجتماعات كبيرة عندما يأتي زائر من سورية.

تحولات

ويرى شحادة ان تحولا مهما حدث على الجالية السورية جاء من زواج الاسد باسماء الاخرس، ابنة الطبيب المعروف في ‘هارلي ستريت’، اضافة الى تخفيف القيود على الخدمة العسكرية الاجبارية حيث اعلن عن انشاء ‘الجمعية السورية البريطانية’، ونتيجة لهذين التطورين بدأ ابناء الجالية يعملون مع المؤسسات غير الحكومية التي انشأتها اسماء الاسد. كل هذا كان مرتبطا بالامال التي عقدت على بشار الاسد وبرنامج الاصلاح واحداث التغيير.

لا سياسة

وما لم يتغير على الجالية هي الطبيعة السياسية وعدم ظهورها بشكل بارز بسبب عدم وجود اجتماعات سياسية او ظهور صحيفة سورية بريطانية كما يلاحظ شحادة. وهذا مرتبط بالدرجة الاولى بمناخ الخوف الذي زرعه حزب البعث الحاكم في نفوس الناس حتى من يعيش منهم في المنفى. ويقول كريس دويل من ‘مجلس التفاهم العربي ـ البريطاني’ ان انتشار المخبرين داخل الجالية جعل الكثيرين يبتعدون عن النقاش او النشاط السياسي خشية تعرضهم وعائلاتهم للانتقام من النظام.
ويقول دويل ان الفرق بين المهاجرين العراقيين اثناء حكم صدام حسين انهم هربوا باعداد كبيرة وكعائلات ولم يعودوا اما بالنسبة للسوريين فمعظم من جاء منهم جاءوا كافراد للدراسة والعمل وتركوا وراءهم عائلاتهم واقاربهم، ولهذا فاي انتقاد للنظام سينعكس على بقية العائلة في داخل سورية.
وتنقل عن رزان صفور التي ولدت في بريطانيا وجاء والدها لبريطانيا كلاجىء سياسي قولها ان كانت تشعر بالدهشة عندما كانت تدرس اللغة العربية في مدرسة الجالية، وترى الخوف على وجوه زميلاتها عندما كانت تنتقد النظام فيما كان استاذ الفصل يطلب منها السكوت خشية ان تقول اشياء غير مرغوب فيها.
ويتحدث شحادة عن تجربة الخوف من الانتقاد لدى بقية السوريين في اوروبا حيث كان يكتب البعض تقارير لمجرد ان احدهم انتقد الرئيس او ‘تحدث بلغة غير لائقة عن الرئيس’. وليس الرقابة الذاتية هي ما كان يمارسه السوريون على انفسهم بل كان البعض منهم عرضة لملاحقة وتحرشات المخبرين في السفارة، فساعر الحاجي، وهو كردي سوري يعيش في بريطانيا منذ اكثر من عشرة اعوام حيث قال ان شخصا تجسس على بريده الالكتروني وقال انه من الامن واستدعي للسفارة للتحقيق معه. ومع اندلاع المظاهرات ضد النظام اتخذت السفارات اجراءات صارمة حسب شهاب الذي يقول ان منحته للدراسة من جامعة دمشق قد الغيت ويعيش الان في خوف على نفسه ومطلوب من النظام بسبب رفضه المشاركة في التظاهرات المؤيدة للنظام.
وذكر تقرير ‘امنستي انترناشونال’ عام 2011 ان استهداف الطلاب والسوريين في بريطانيا كان جزءا من حملة منظمة قام بها مسؤولو السفارة لاستفزاز المتظاهرين حيث تم التحرش في بعض الحالات بعائلات المتظاهرين في لندن واعتقال افرادها وتعذيبهم.

استقطاب

ومع استمرار التظاهرات وتزايد اعداد القتلى اصبح المجتمع اكثر انقساما بين مؤيد للنظام ومعارض له. وتنقل عن الاب نديم نصار، قوله ان العلاقات والصداقات بين افراد الجالية دمرت حيث حدث ‘الاستقطاب بشكل سريع بين مؤيدي النظام ومعارضيه’ مشيرا ان صديقا له طلق زوجته لان رأيها في الثورة يختلف عن رأيه. و’لا اعتقد ان بيتا سوريا في بريطانيا يتفق ابناؤه في الرأي لان الموضوع معقد’ حسب قوله. فبعض مؤيدي النظام لهم مصلحة في استمراره فيما يخشى اخرون من العنف الذي سيندلع حالة انهياره. ويضاف الى هذا فتصاعد النبرة الطائفية بسبب تدخل حزب الله في سورية فاقم من الوضع واثر على العلاقات المجتمعية.
ويشير التقرير الى تعرض اعضاء جمعية سورية بريطانية تدعو للتغيير السلمي وليس المقاومة المسلحة الى تهديد وتحرش على الانترنت كما ‘تعرضوا للهجوم اللفظي والجسدي في شوارع لندن’، وتقول الجمعية ان الاتصالات الاجتماعية بين العائلات السورية قد تأثرت بسبب ‘الطائفية والتشدد’.
ولا يستغرب دويل هذه المشاعر الغاضبة ‘ان اخذنا بعين الاعتبار الرعب الحاصل في سورية، من تعذيب للاطفال واغتصاب للنساء وتهديم القرى فلا احد يمكنه تحمل هذه الخلافات’. وتشير الصحيفة الى ان ‘الجمعية الطبية البريطانية السورية’ قد سحبت جائزة الانجاز الطبي من فواز الاخرس صهر الاسد، بعد ان كشفت ‘الغارديان’ العام الماضي عن رسائل الكترونية ينصح فيها الاخرس صهره الاسد بكيفية التعامل مع فيديو اظهر تعذيبا للاطفال، وقد تعرض بيت الاخرس في غرب لندن للهجوم. وعلى الرغم من كل هذا فالعمل لاغاثة السوريين في الداخل هو ما يجمع الجالية حيث تنقل عن محمد الحاج علي من كارديف ان ‘تقديم دعم ولو كان قليلا للسوريين هو ما يقرب السوريين لبعضهم’.
والحاج علي هو واحد من بين عدد من الاطباء الذين نظموا حملات لجمع التبرعات للسوريين وسافر للمخيمات في الاردن وتركيا. وبالنسبة لبعض السوريين هنا فهذه الجهود ليست كافية حيث يسافر اخرون ويقدمون خبراتهم في اللغة من اجل مساعدة المعارضة في اعداد تقارير اخبارية ويقول احدهم ‘لقد فقدت الكثير من اصدقائي ولهذا شعرت بالحاجة لتقديم ما استطيعه’.
وبعيدا عن هذه الجهود الانسانية هناك جزء من الشباب عاد لسورية للمساعدة في القتال حيث نقلت عن النائب خالد محمود عن بيري بار في مدينة بيرمنغهام قوله ان هناك عددا كبيرا من المسلمين البريطانيين يقاتلون في سورية ولكن عددهم غير معروف، وتقول صفور انها تعرف عن عدد من الشباب السوري البريطاني ممن ذهبوا للقتال وقتل منهم اثنان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية