كثيرا ما نستمتع بقراءة رواية أو تأمل لوحة أو سماع قطعة موسيقية، فنقف منبهرين أمام جمالها وروعتها، ويقودنا ذلك في أغلب الأحيان إلى السؤال عن صاحب هذا الكتاب، أو تلك اللوحة. هل هؤلاء المبدعون هم بروعة أعمالهم نفسها؟ هل يمكن أن يكون المبدع بهذه الروعة التي نراها في أعماله الفنية؟ هل تعكس هذه الأعمال الرائعة حقيقة المبدعين؟ أم أنها فقط سحر يمارسونه كتعويض لمكبوتاتهم؟ وقد نقف طويلا أمام عبارة فان غوغ حين قال في آخر أيام حياته: ”أمــــا أعمالي الفنـــية فقد ضحيت من أجلها بحياتي ومن أجلها فقدت نصف عقلي».
والمطلع على سيرة هذا الرسام الموهوب سيعرف مدى انطباق هذه العبارة على حياته الخاصة، وكيف أنهى حياته بطلقة مسدس بعد مسيرة فنية حافلة بالخيبة والألم.
ولو تتبعنا مسار أغلب الشخصيات المبدعة الأخرى عبر التاريخ، فسنجد أنهم أشخاص غريبو الأطوار في أغلب الأحيان، أو على الأقل ليسوا أشخاصا عاديين، بشهادتهم في أعمالهم نفسها، أو في رسائلهم الخاصة، فيحيلنا ذلك للاعتقاد بشقائهم ومعاناتهم باستمرار من مشكل الاندماج داخل مجتمعاتهم، قد نفهم أيضا من خلال أعمالهم أنهم رافضون للواقع، يرون ضرورة تعديله لخلق عالم آخر مثالي، إذ حينما تفشل الطبيعة يأتي الفن ليتدخل ويعيد تشكيل عالم أكثر احتمالا، ولكن هل هذا يعكس حقيقة المبدع نفسه؟ وما علاقة المعاناة والشقاء بالإبداع؟
المبدع بصفة عامة يملك رؤية عميقة للأشياء، ويدرك مدى روعتها وجمالها، وهو بذلك يبذل قصارى جهده لإخراج هذه الروعة إلى الواقع وتجسيدها في لوحة، في رواية أو على حلبة الرقص. ولكن للإبداع ضريبة باهظة تصاحبها، فنظرة الفنان المختلفة عن العالم تجلب له المتاعب من مجتمعه ومحيطه الذي يحيا فيه، إذ يصبح محط سخرية وسخط من طرف الذين يعتنقون الرأي السائد، أو الفكرة المطلقة التي يرفض المبدع أن يكون خاضعا لسيطرتها. وهنا تبدأ المعاناة الحقيقة، حيث يؤثر الضغط النفسي الذي تفرضه هذه القيود على الفنان فيلوذ بأفكاره الشاذة الغريبة إلى الانطواء والعزلة ليظل على هامش المجتمع.
نقرأ في سير الكثير من الفنانين والأدباء البارزين ما يدل على أنهم عانوا من الوحدة والكآبة طوال حياتهم، وقد انعكس ذلك في إبداعاتهم، كما اتجه البعض للانتحار كحل نهائي لمشكلاتهم النفسية. ونهاية أرنست همنغــــواي، وفرجيـــنيا وولف تذكرنا بالطريقة الحزينة التي انتهى إليها هذان الكاتبان، وهناك من أصابه الجنون في نهاية مأساوية كنيتشه، مي زيادة، نجنسكي أو نجيب سرور، وتشرد هذا الأخير ثم فقد عقله في آخر أيام حياته.
هل يكفي أن يبدع المرء ليتخلص من مشاكله النفسية؟ قد لا يكون كافيا أن يمارس فوقية معرفية للسيطرة على أعراضه كمضاد لعقدة النقص.
هؤلاء كما رأينا عانوا من اضطرابات نفسية تسببت بها البيئة الثقافية والفكرية، التي لم تستطع احتواءهم لاختلاف تفكيرهم وطريقة نظرتهم للعالم. ومن المعلوم أن درجة الاكتئاب تتفاوت من مبدع إلى آخر. وليتغلب المبدع على اكتئابه عليه أن يخلق توازنا نفسيا عن طريق الاشتغال على عمله الفني، ليخلق نوعا من الرضى والتوازن الداخلي الذي لا يدوم طويلا. فبمجرد بلوغ الهدف يجد نفسه يفكر في هدف آخر. فهو بحاجة دائمة إلى التجديد والمزيد من الخلق والرضى المصاحب له، ولكن صعوبة هذا الأخير تجعل حياته عسيرة، ولكنها بالنسبة له أفضل من حياة الطمأنينة واللامبالاة التي يحياها الإنسان العادي.
لابد من القول إن هناك أشخاصا مبدعين لا يعانون من أمراض نفسية، ولكن الغالبية منهم قد يعانون من الكآبة لظروف اجتماعية ونفسية عديدة، وقد يتغلب المبدع على تقلباته النفسية وعقدة النقص الكامنة فيه، بإظهار مستويات عالية من الأنا والاكتفاء الذاتي، وبناء على ذلك يستطيع أن يمارس فوقية معرفية للسيطرة على أعراضه، واستغلال الأفكار الشاذة بدلا من أن تستغله هذه الأفكار. لا يستطيع المبدع أن يقبل الحياة كما هي، ولا يستطيع أن يعتبر وجوده أو وجود أي فرد آخر ضروريا، إنه يرى أعمق وأكثر مما يجب، وهكذا لاتزال مشكلة تعبير ذاتي، تشغله عن التفكير في الأمور العادية للحياة والاستمتاع بها، فيصبح شاذا عن المجتمع، إذ هو منفصل بتفكيره وسلوكه عن الجماعة، فهو غير منتمٍ وشغوف بالحقيقة التي هي جوهر العالم، وهذه الحقيقة لا تتجلى إلا من خلال أعماله، التي تتطلب بصيرة نافذة، إذ يسعى الفنان إلى الإمساك بذلك الصراع بين البقعة المضيئة والخفاء في التناقض بين العالم والأرض ليجسده في أعماله. فالفن هو صيرورة الحقيقة وحدوثها فهذا الصراع بين ظهور الحقيقة واختفائها ينهك عقل المبدع ويجعله في بحث دائم عن طريقة يكشف بها عن تلك الحقيقة التي لا تتجلى إلا من خلال العمل الفني له. والأعمال الفنية تتفاوت في ما بينها في الكشف عن جوهر الحقيقة. كما أن الحقائق في عالمنا متعددة ولا متناهية لذلك لن ينتهي صراع المبدع مع العالم إلا بنهاية المبدع نفسه، أي بموته.
ولكن هل يكفي أن يبدع المرء ليتخلص من مشاكله النفسية؟ قد لا يكون كافيا أن يمارس فوقية معرفية للسيطرة على أعراضه كمضاد لعقدة النقص. فيتجه بذلك إلى العزلة والانطواء الذي يفرضه المجتمع النابذ لشذوذهم. فهذا العالم الذي يولد فيه المبدعون أو اللامنتمون هو دائما عالم بلا قيم، إن هذا العالم بالنسبة إلى الأهداف والشهوات التي يتصورها اللامنتمون لا يمكن أن يسمى حيلة، إنه تيار وحسب وهذا هو سر شقاء اللامنتمين، لأن في البشر جميعا شيئا من فطرة القطيع. التي تقودهم إلى الاعتقاد بأن ما يفعله معظمهم يجب أن يكون صحيحا، فإذا لم يستطع اللامنتمون أن يخلقوا قيما جديدة تتمشى مع الشدة التي تتميز بها أهدافهم فإنه من الأفضل لهم أن يلقوا أنفسهم تحت عجلات الحافلة، لأنهم سيكونون منبوذين دائما ولن يناسبهم المجتمع أبدا.
وقد يكمن الحل النفسي للمبدع بالخضوع لجلسات علاجية نفسية تساعده على تخطي مشاكله النفسية، وتنمي قدراته الإبداعية لاحقا، إذ إن الإغراق في الكآبة سيحول حياته إلى جحيم، على الرغم من أنها حالة وجدانية لا يمكن التخلص منها بسهولة. فرغبة اللامنتمي الرئيسية هي أن يكف عن كونه لا منتميا، أن يعيش حياة هادئة ككل البشر، وهذا أمر صعب تحقيقه لأنه لا يستطيع أن يكف عن كونه لا منتميا، ولا يستطيع أن يرى الحياة كما يراها الجميع، إنه يرى أكثر وأعمق مما يجب. وهذا ما يجعل مهمته أعسر في الحياة. إن أفكاره الشاذة تتطلب حيزا إضافيا من الحرية لا يملكه الجميع. قد يدفع ضريبته لقاء هذه الحرية التي لا مناص من تحقيقها، فهي ترتبط بالإبداع ارتباطا وثيقا ومكملا. ولا يمكن لأحدهما أن يظهر من دون الآخر، لذلك وجب التمرد على الحياة لتستمر ملحمة الفن وتخلد صناعها عبر التاريخ.
٭ كاتب وروائي جزائري