في الحد الفاصل بين السيرة والمتخيل، بين الضوء والظل، بين القلق والطمأنينة، بين الذكر والأنثى، بين المُباح والمُحرم، بين الصوت والصمت، تقف نينا بوراوي (1967)، لتكتب يوميات عاشتها، وأخرى تمنتها، تسرد حياة مفتوحة على الخطايا في فرنسا، وأخرى سُلبت منها، في بلد والدها: الجزائر. تستعين بكراسات سنين المُراهقة، تبتدع شخصيات، كي تتوارى خلفها، وتتفادى كدمات، طالما لاحقتها. في كتابها الأخير «كل الرجال شغوفون بطبعهم» (2018)، تفتش عن لحظات حميمة، وتقتسمها مع قرائها، تسرب مغامرات شخصية، كما لو أنها تنوب عن نسوة آخرين، غالبهن الصمت، واستولى عليهن الخوف، تكتب عن نفسها وعن أخريات، تماماً كما عودتنا في أعمال سابقة لها، بلغة شعرية، وجمل منثورة، كما لو أنها قصائد بُترت من نصوصها الأصلية.
في هذا الكتاب، تسرد نينا بوراوي ما عجزت عنه في رواياتها السابقة، تذكرنا بأنها كانت دائماً نصف دائرة، يبحث عن نصفه الآخر، عاشت بنصف هوية، لم تكتمل بقيتها، لا هي تشعر بأنها جزائرية كغيرها، ولا فرنسية فعلاً، تستعير تلك الجملة الكلاسيكية بأن وطنها هو الكتابة، بدون أن تفلح في مداواة جرحها وتدارك خساراتها، تحكي كيف أن حياتها تعقدت منذ بلوغها المراهقة، وظهور ميولها المثلية، لكن هذا الأمر بقدر ما أرهقها فقد تحول إلى حافز لها في الكتابة، في مداراة قلقها وفي مواجهة الرفض الذي قابلها به البعض. وسيشعر القارئ، لا محالة، وهو يقلب صفحات الكتاب، باللاطمأنينة التي كبرت عليها بوراوي، التي يمكن أن نجد شذرات منها منذ باكورتها «المتلصصة الممنوعة» (1991)، ثم «يوم الزلزال» (1999) و«بنت مُسترجلة» (2000)، وكذا «تخيلاتي الشريرة» (2005)، التي حصلت بها على جائزة رينودو المرموقة، في فرنسا، وهي روايتها الوحيدة، المترجمة للعربية، لحد الآن.
لا تنطلق نينا بوراوي من سؤال حقيقي، ولا من قضية لتُناقشها، في الكتاب، بل تترك مجال النظر واسعاً، لا تربط نفسها بحيز واحد، ولا بخطة كتابة، بل تفرغ ما في ذهنها.
تستثمر نينا بوراوي ذاكرتها لتكتب «كل الرجال شغوفون بطبعهم»، بدون أن تلتزم بكرونولوجيا أو ترتيب خطي، بشكل فوضوي أحياناً، بما يُشبه حياتها، التي لم تعرف استقراراً، تستحضر كل ما مرّ عليها، من أشخاص ووجوه وأسماء وظلال وأمكنة، لتسرد ما يُشبه السيرة غير المكتملة، تعرف أن ذاكرتها لا تخزن كل شيء، لكنها ـ على الأقل ـ تحفظ انطباعات، وحالات نفسية، تنقلها إلى اللغة، إلى كلمات، إلى مقاطع شعرية مفككة، كما لو أن ذاكرتها العميقة هي كل ما تملك، هي ماضيها وحاضرها، ولا تريد شيئاً من مستقبلها، الذاكرة هي الثروة كلها التي تمور في ذهنها وبين يديها، لم تفقد طراوتها، وما تزال تكتظ بصور وألوان، توفر لبوراوي سبباً للكتابة، لهذا يغلب على نصها كثير من الشخصنة، الذاتية، الأنا، وبقدر ما قد يلفت الكتاب انتباه البعض، من شأنه أن يخيب ظن الكثيرين، فليس من السهل إقناع الجميع بتجارب شخصية، قد لا تهمهم، ولا يعينهم مشاركة الكاتبة فيها، لكن الشيء الأهم هنا، أن نينا بوراوي، من خلال كتابها الجديد هذا، تكون قد فتحت قنطرة جديدة، ولجت باب المكاشفة والبوح بوجه عارٍ، خرجت من قوقعة الخوف والمجاز والتستر، كما فعلت في رواياتها السابقة، وقد يكون كتاب «كل الرجال شغوفون بطبعهم»، ممهداً لعهد جديداً في تجاربها، وفي كتبه القادمة.
لا تنطلق نينا بوراوي من سؤال حقيقي، ولا من قضية لتُناقشها، في الكتاب، بل تترك مجال النظر واسعاً، لا تربط نفسها بحيز واحد، ولا بخطة كتابة، بل تفرغ ما في ذهنها، وما ترسب من ذكريات ومن أحاديث، تستعيد أمها، ورجالاً مروا في حياتها، تقلباتها بين الجزائر وفرنسا، وكيف وصلت إلى ما هي عليه اليوم، كواحدة من كاتبات شمال إفريقيا، الأكثر احتراماً في الأوساط النقدية، في فرنسا. في تلك الفصول القصيرة، التي تكتبها، نشعر بأن بوراوي تسرع، كي تقبض على ما تبقى في داخلها، من وقائع وحكايات، تكتبها، كي لا تفلت منها، كما لو أنها تمنح القارئ فقط خريطة طريق، لفهم ما عاشت، كي يكمل بمخيلته، بقية التفصيلات الأخرى.
نينا بوراوي هي واحدة من الكاتبات، التي يصعب تصنيفها. هل نُدرجها في خانة الكتاب المغاربيين؟ مع أنها لم تهتم يوماً بتدوير الموضوعات، التي ألفنها من كتاب هذه الفئة، في رغبتهم في المقاومة، أو في مجادلة التابوهات، التي تتسع في مجتمعاتهم؟ هل هي كاتبة فرنسية وكفى؟ لكنها لا تتورع في العودة إلى أرض أجدادها، فالجزائر حاضرة في غالبية رواياتها؟ هي كاتبة نسوية؟ ربما هذا التصنيف الأقرب في التطرق لكتاباتها، مع أنها تنفي تلك الصفة عن نفسها. نشعر، ونحن نقرأ لبوراوي، بأنها تطل من نافذة، تختبئ وتكتب بحذر عن الصدامات النفسية، التي عاشتها وتعيشها، تستحضر المجتمع التقليدي، الذي كبرت فيه، ثم تنتقل، بغتة، إلى مجتمع غربي، لم يرأف بها، شعرت، في البداية، بأنه يتقبلها، ويتقبل خصوصيتها، لكن سرعان ما ضيق حول رقبتها الإحساس بالعجز، وأرهقها في كسب مكانة كاملة لها، مجتمع فرنسي أفهمها أن مثيلاتها كثيرات، وأنه سيصعب عليها أن تقدم شيئاً إضافياً، أو بديلاً عما قدمته سابقاتها. لهذا فقد قررت، منذ روايتها الأولى، أن تلعب دوراً استثنائيا، أن تكون متلصصة لامرئية، أن تطل على واقعها، لا أن تلتحم معه، أن لا تُبالغ في ثقتها في كل شيء، وأن تُحافظ على مسافة أمان كي لا تتضاعف الصدمات، ولا تزيد من قلقها. لهذا في غالبية رواياتها هناك مكان يتكرر كثيراً، هو البحر، ويبدو أنه من لا شعور الكاتبة، فهي تحس بأنها في ترحال دائم، تخشى الاستقرار، تُجانب البحر، كي تفر بجلدها، كلما شعرت بخطر يُداهمها.
ولكن، قبل أن تصل إلى البحر، فقد مرت بلحظة صادمة: هي الزلزال، وكتبت، في بداياتها رواية «يوم الزلزال»، في إشارة إلى زلـــزال الأصنام (مدينة الشلف حالياً، 1980)، لم تكن من المتضــــررين، لكن حينها بلغت سن المراهقة، وعرفت زلزالاً داخلياً، عاشت تصدعاته وضرباته حينها، فهمـــت أنها ليست مثل البنات الأخريات، وقررت أن تُعالج خجلها من نفسها بالكتابة، انعزلـــت من محيطها، القريب، وانصرفت، بعد وصولها إلى فرنسا، منتصف الثمانينيات، إلى الرواية، وتوالت إصداراتها، وهي تخبرنا ـ باحتشام ـ عن فشلها في مُصارحة الناس بميولها، ولم تقــــدر على تسمــية الأشياء بمسمياتها، في أي من كتبها السابقة، وانتظرت صدور «كل الرجال شغوفون بطبعهم»، لتنزع قناعاً عن وجهها.
٭ كاتب جزائري