يمكن اختزال شخصية البخاري حمانة، الذي فارقنا مؤخرا، في صفتين اقترنتا به، فكان الثائر الساخر. شخصية ثقافية منزاحة عن الضبط، غير خاضع لما التزم به غيره من انضباط وظيفي وشكلي، وغير مذعن لما ترسخ كقواعد مسلم بها بالتراكم.
ومع ثوريته كان ساخرا، سخرية مواجهة للواقع، مقترنة بالابتعاد عن الاستجابة لعروض تقلد مناصب، ومشحونة بهمّ من عاصر وعايش تحولات بلده والمنطقة طيلة أكثر من ستين سنة. سخريته مماثلة لسخرية علمين من أبناء منطقة مولده وهما الشيخ عبد القادر الياجوري العالم الثائر، والصحافي والكاتب المسكون بالتراث طاهربن عيشة.
من قمار التي عرفت بأنها مسقط رأس أسماء علمية وثقافية متعددة ـ من بينها المؤرخ أبوالقاسم سعد الله ـ انطلقت مسيرة البخاري الذي استكمل مشوار التحصيل في تونس ومصر، وفي الأخيرة درس وكان من أساتذته أعلام كعثمان أمين وزكي نجيب محمود. وفي القاهرة تولى مسؤولية مكتب وكالة الأنباء الجزائرية فتابع التحولات وعرف وحاور زعماء، وعقب عودته إلى الجزائر استقر في وهران أستاذا لعلم النفس، ثم كان باعث معهد الفلسفة في تلك الجامعة. لم يكن سجين الأكاديمي، بل استمر مؤديا دور المثقف الحاضر والفاعل والمشارك في النقاش، أي في ما يؤسس للفضاء العمومي بتعبير هابرماس. اهتماماته متعددة، لكنها مرتبطة بسؤال المصير، فناقش وحلل واستعاد ما في التراث ومزجه بما تراكم في المفاهيم الفلسفية، والمعرفة السايكولوجية والسوسيولوجية، وكان لخلفيته الصحافية تأثيرها على انشغاله بالراهن وتحبيذه للوضوح والبساطة في العرض.
البخاري من الذين اشتغلوا على الواقع بتحدياته والتاريخ بتقلباته، ربط الفلسفة بالعملي ونزل بالتجريد إلى المجسد، وعرج بالمجسد نحو المجرد.
البخاري من الذين اشتغلوا على الواقع بتحدياته والتاريخ بتقلباته، ربط الفلسفة بالعملي ونزل بالتجريد إلى المجسد، وعرج بالمجسد نحو المجرد، وتلك هي معادلة الوعي كتجاوز، وتحرر من وطأة العابر أو بتعبير الشيخ الأكبر ابن عربي من رق الوقت. البخاري الثائر سكنه حس الفعالية فاهتم بالبراغماتية، وسعى إلى تبيّن ما يعضدها في المرجعية الإسلامية، وحاضر عن العمل في الإسلام، وذكر من خصائص العلم في القرآن الكريم، أنه «علم قائم على التجربة وعلى البرهان». وهذا الحس جعله ينظر إلى الموت نظرة افتتح بها كلمته في ندوة نظمت عقب وفاة أستاذه عثمان أمين فقال: «إذا كان الموت هو الصخرة التي تتحطم عليها آمال الإنسان، وإذا كان يستطيع باعتباره إمكانية الاستحالة على حد تعبير هايدسيس، أن يحول بالتالي حياتنا إلى مصير، كما يقول مالرو، وإمكانياتنا المتعددة واللامحدودة إلى استحالة مطلقة، فإن أفضل وسيلة إنسانية ممكنة لمواجهته هوعدم كف الإنسان ولو للحظة واحدة عن التفكير فيه، كما يلاحظ الفيلسوف اليوناني سينيك».
وفي محاضرة عن فلسفة العمل في الإسلام قال: «الله في الإسلام ليس ذلك الموجود الغارق في تأمل ذاته، الذي لا شأن له بالعالم أو بالإنسان، كما ذهب أرسطو، بل إن من أهم خصائصه الخلق باليد بالذات والإبداع». وركّز على الثورة في تفكيره، فكانت أطروحة الدكتوراه عن فلسفة الثورة الجزائرية، كما كتب عن القرآن والثورة، ويرى أن التعريف الأقرب إلى المفهوم القرآني للثورة: «هو ذلك الذي يرى أن الثورة انفصام في التاريخ، أو خط يقسم الأزمان والأفكار والعادات والتقاليد ومواضيع الاهتمام والقوانين وأساليب التفكير والتعبير». و«يمكن أن نعرف المفهوم القرآني للثورة بأنه «ضرورة وإمكانية التغيير الروحي والمادي المستمر للإنسان نحو الأفضل». ركز على فلسفة الثورة في كتاب هو من أطروحته للدكتوراه، ارتباطا بما يشغله، وأيضا انطلق من معطى ذكره في كتابه وهو أن: «الحدث ـ وبخاصة حينما يكون تاريخيا، كالحدث الذي شكلته ثورة نوفمبر/تشرين الثاني، وهذا بشهادة أعدائها قبل أصدقائها ـ لا يمكن أن يتم تلقائيا، لسبب بسيط، وهو أن الوقائع التي تحمل صفة التاريخية، لا يمكن أن تتحقق بدون قصد، أو عقل، بل لا بد أن تكون من ورائها فكرة، كما يؤكد كولينغوود. ولأن الفكرة، ثورية كانت أو غير ثورية، وليدة العقل والضمير تماما، كما إن الفعل، أي الحدث المتولد عنها، وليد الحرية والإرادة، فإننا نقول مع ديلتي إن التاريخ يمثل أعلى صور العقل» وكان الباعث على الاشتغال على الإشكالية إعادة التمثل لتجاوز أطروحات تكرست حول افتقاد الثورة الجزائرية لمنظرين ومفكرين.
ترك كتبا متعددة باللغتين العربية والفرنسية، كما شارك في كتب عربية جماعية، وتعددت المواضيع بين الفلسفة وعلم النفس والإسلاميات والسياسة.
وكتب: «إن البساطة أو التعقيد النظري ليس معيار الجدية، أو عدم جدية الفكرة عامة، والفكرة الثورية خاصة، لسبب بسيط وهو أن تعقد العديد من الأفكار والتنظيرات الفلسفية الثورية، وفي مقدمتها فلسفة كل من سقراط وهيغل والطوباويين، لم يجعلها مع ذلك تنفذ إلى كل من الواقعين المزريين الألماني واليوناني، فضلا عن تغييرهما له، في حين نجحت أفكار وفلسفات أقل تعقدا وأكثر بساطة، ومن ضمنها فلسفة ثورة نوفمبر، في اختراق واقعهما الوطني وفي تغييره، آخذة بذلك صفة الأصالة والثورية». وذكر كأسس فلسفية لنوفمبر: التفاؤل، الوضوح، العمل، الديمقراطية، التكامل. وذكر كخصائص: أصالة نظرتها إلى الواقع الوطني، وحدة القيادة، توحيد الشعب الجزائري من خلال الكفاح المسلح، النزعة الإنسانية والأخلاقية، الالتزام اللامشروط بكل بكل قضايا الحرية في العالم.
ترك كتبا متعددة باللغتين العربية والفرنسية، كما شارك في كتب عربية جماعية، وتعددت المواضيع بين الفلسفة وعلم النفس والإسلاميات والسياسة. وإلى جانب ذلك يعتبر من الرواد المؤسسين للدرس الفلسفي في الجزائر، مع أسماء كعبد الله شريط وعبد المجيد مزيان والشيخ بوعمران وربيع ميمون وعمار طالبي ومحمد يعقوبي وقريبع نبهاني.. وثوريته مشبعة بما جعله يحسم موقفه من قضايا مختلفة، تاريخية وراهنة، كالموقف من الزعيم الروحي لدولة الموحدين المهدي بن تومرت، الذي كتب بشأنه بأنه: «كان داهية أكثر منه داعية»، «وبنى موقفه على اعتبار السياق التاريخي والملابسات التي اكتنفت عملية التأسيس» الأسلوب والمبررات والظروف السياسية والدينية»، فمحاربة وتقويض دولة المرابطين كان في ظرف مشحون بالتحدي الصليبي، وهو ما جعل بخاري يقول: «أي ضمير إسلامي، وأي عقل إسلامي يمكنه، أمام مثل هذا الخطر الصليبي الكاسح ضد الأندلس، وضد أرض المغرب الإسلامي بعد ذلك، يمكنه أن يعطي الأولوية لغير مقاتلته ومواجهته؟». وساق قولا معبرا عن حركة ابن تومرت، قول لكاتب من القرن الثامن للهجرة، هو الحسن بن عبد الله العباسي، الذي قال متحدثا عن الزهاد المغالطين: «إنه ينبغي أن ينظر في حال هذه الطائفة ويميز محقهم من مبطلهم، ويفرق بين الزاهد والمتزهد… وفيهم أصناف من أهل الغلط في طريق الزهد والمغالطة، لأغراض أخرى، فمنهم صنف تغلب عليهم محبة الرئاسة والإمارة، ويتفق إعراض الملك عنهم وانقباضه، لمخالفة طبعه لطباعهم وإن ذلك مما يحملهم على الطعن في أحوال الملك، وإهماله لضوابط الشريعة، ثم يجمعون حولهم جموعا ويقصون عليهم من الأمور ما يحركون به عزائمهم لتغيير المنكر، فإن أهمل الملك أمرهم عظم أمرهم وتفاقم وكان منهم خطر عظيم».
٭ كاتب جزائري
مقال رائع الأخ محمد، وفعلا هو كما وصفت وكتبت