الجزائر ـ «القدس العربي»: بدأ العد التنازلي في الجزائر لتنفيذ مشروع الخصخصة الجزئية لعدد من البنوك العمومية، حيث ينتظر أن تطرح في شهر كانون الأول/ديسمبر، 30 في المئة من أسهم القرض الشعبي الجزائري للاكتتاب، كتجربة أولى يتلوها بنوك أخرى، بهدف معلن للحكومة هو تحسين كفاءة هذه المؤسسات المالية، لكن ذلك لا يخلو بالنسبة لآخرين من مخاذير خاصة في ظل تجارب الخصخصة السابقة التي كبدت الخزينة العمومية خسائر كبيرة.
ووفق المخطط الذي شرحه في عدة مناسبات وزير المالية لعزيز فايد، فإن افتتاح رأسمال القرض الشعبي الجزائري، سيكون بنسبة تتراوح بين 20 إلى 30 في المئة، ما يخول للحكومة إبقاء السيطرة على أصول البنك. وسيكون هذا البنك، بمثابة نموذج اختبار، سيتم على أساسه تقييم التجربة، ومن ثمّ إكمال مسار الخصخصة أو التوقف عنها، خاصة أن النسب المطروحة للاكتتاب تبقى متحكما فيها ولا تمثل تهديدا كبيرا للمودعين الذين لا تزال الدولة بما تملكه من أغلبية الأسهم ضامنا لمدخراتهم.
وفي المرحلة التالية للخطة المعروضة، يوجد في القائمة بنكان آخران هما «بنك التنمية المحلية» و«بنك الفلاحة والتنمية الريفية» سيدخلان تجربة فتح رأس المال أمام الخواص ابتداء من السنة المقبلة، وهما في الحجم أقل من القرض الشعبي الجزائري، لكنهما يمثلان بدورهما نموذجا هاما للتجربة، كونهما يتعاملان مع فئات صغار التجار والمؤسسات الصغيرة والمستثمرين في القطاع الفلاحي، ويعانيان من إشكالات في التسيير، تعرقل أداء دورهما.
وتُقدّم الحكومة مشروع فتح رأسمال البنوك العمومية، على أته ضرورة ملحة تندرج في إطار تكييف هذا القطاع الذي يعدّ ركيزة الاقتصاد الوطني مع التحولات الدولية في هذا المجال. ويهدف المشروع بحسبها، إلى تحسين فعالية إدارة البنك وتعزيز حوكمته، والمساهمة في إرساء ثقة المستثمرين تجاه السوق، وكذا تنشيط البورصة وإعادة بعث نشاطها بهدف رفع مساهمتها في تعبئة الادخار وتمويل الاقتصاد.
ويتبنى فكرة خصخصة البنوك في نسختها الحديثة الرئيس عبد المجيد تبون شخصيا، الذي وجّه قبل سنتين في اجتماع مجلس الوزراء، بـ«تسريع مسار فتح رأسمال البنوك العمومية بطريقة علمية ومدروسة بدقة، تحفز على تغيير نمط التسيير القديم المرتكز حاليا على الإدارة بدل النجاعة الاقتصادية» مشددا على «مبدأ الشفافية لمباشرة الإصلاح المالي ومسايرة التحولات العالمية في هذا القطاع، الذي يعد ركيزة الاقتصاد الوطني».
نقاش سياسي واقتصادي
وعلى المستوى السياسي، لا يوجد حاليا ما يعرقل إرادة فتح رأسمال البنوك العمومية على الرغم من كون هذا القرار يعد ثورة في بلد لا يزال يتلمس طريقه بين نمط اشتراكي ساد في البلاد منذ الاستقلال وانفتاح يبدو في كل مرة وكأنه بلا معالم في ظل نماذج الخصخصة وبيع المؤسسات العمومية في الثلاثين سنة الماضية التي تم التراجع عن كثير منها بعد اكتشاف أن هذه السياسة حطمت هذه المؤسسات بدل تطويرها.
ومن الأصوات القليلة التي تعارض هذا المشروع بقوة، يوجد حزب العمال الذي ينتمي لأقصى اليسار ويتبنى فكرا أيديولوجيا اشتراكيا يعارض تماما التنازل كليا أو جزئيا عن المؤسسات العمومية. وفي بيان للحزب الذي تقوده لويزة حنون حول هذا الموضوع، قال إن البنوك العمومية ساهمت في الحفاظ على قطاعات بأكملها في الصناعة الوطنية ومناصب الشغل، معتبرا أن «سياسة خصخصتها سوف تؤدي حتما إلى موت التراث الصناعي الوطني والذي يشكل إحدى القواعد المادية الأساسية لأمتنا».
وأشار البيان إلى أن «هذه السياسة التي أثبتت طابعها التخريبي (عمليات الخصخصة في الفترة السابقة) تعلن عن غد قاتم بالنسبة للنسيج الصناعي الوطني والذي هو بالأساس يواجه منافسة غير عادلة جراء الفتح الكلي للسوق الوطني للاستيراد نتيجة لاتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي وللتنازلات التي قدمت لمنظمة التجارة العالمية في حين بلدنا ليست عضوا فيها».
وخلافا لهذه النظرة، يؤيد الخبير الاقتصادي عبد الرحمان مبتول، هذا القرار كونه يهدف حسبه إلى تخفيف العبء عن الجهات المالية العمومية في تمويل مشاريع الاستثمار، حيث يعتمد القطاع الاقتصادي الخاص، وفقا لتصريحات الرئيس، بنسبة 85 في المئة على أموال البنوك العمومية.
ويقول في مساهمة اطلعت عليها «القدس العربي» إن عملية الخصخصة الجزئية أو الكاملة لا يمكن أن تتم بنجاح إلا إذا تم إدراجها في إطار سياسة اقتصادية واجتماعية شاملة ومتسقة، وإذا كانت مصحوبة بمناخ تنافسي وحوار دائم بين الشركاء الاجتماعيين.
وأبرز الخبير ذي التوجه الليبرالي أن هذه العملية في الأساس هي خطوة سياسية وليست تقنية، لأنها تؤدي إلى تغيير في ميزان القوى، ما يؤدي إلى مقاومة من أصحاب الامتيازات الذين يرفضون عملية الخصخصة تحت شعار «بيع التراث الوطني».
وأضاف: «يجب أن تلبي هذه الإجراءات العديد من الأهداف التي قد لا تكون جميعها متوافقة، ويجب ترتيبها في إطار برنامج الخصخصة الذي يمكن أن يختلف ويتوافق مع السياق الدولي والاجتماعي والاقتصادي الداخلي، ونوع النشاط أو الشركة».
ويعتقد مبتول أنه هذا المشروع يتطلب إزالة عدة قيود لتجنب عدم ثقة المستثمرين، من أبرزها مكافحة تضخيم تكلفة المشاريع بنسبة 20-30 في المئة أو أكثر وهو ما يبعد المستثمرين الحقيقيين، وعدم الاستقرار القانوني (تغير التشريعات باستمرار) وتجديد جميع هياكل وزارة المالية، بما في ذلك الرقمنة والضرائب ومسح الأراضي والبنوك والجمارك وإنهاء البيروقراطية المركزية والمحلية المعطلة.
إصلاح
لتفادي الأزمات
وخارج النظرة الأيديولوجية لمسألة الخصخصة بين مؤيد ومعارض، يرى خبراء من جهة أخرى أن دافع الحكومة في فتح رأسمال البنوك العمومية يعود إلى رغبتها في تفادي سيناريوهات الأزمات السابقة حيث كانت الدولة تجد نفسها أمام شح الموارد وضعف التمويل كلما انخفضت عائدات الجباية البترولية التي تمثل الممول الأول للبنوك من حيث السيولة.
ويقول دكتور الاقتصاد محمد هشام قلمين في هذه النقطة إن «فتح رأسمال البنوك العمومية هو مشروع مطروح منذ سنوات، والسبب الرئيسي وراءه هو تفاقم الأزمة الاقتصادية بعد أزمة انخفاض أسعار النفط في 2014 تآكل مدخرات الدولة، كصندوق ضبط الإيرادات، ثم انهيار الأسعار ومداخيل الدولة سنة الجائحة».
وأوضح الخبير في تصريح لـ«القدس العربي» أن المنظومة البنكية العمومية في الجزائر تعتبر الداعم الأساسي للاقتصاد الوطني، إذ أن عجز الميزانية خلال سنوات الأزمة كان في أغلبه يتم تمويله عن طريق البنوك العمومية، خاصة بعد نفاد صندوق ضبط الإيرادات، فقد بلغ سنة 2020 تمويل القطاع البنكي العمومي لعجز الميزانية 1836.1 مليار دينار جزائري أي بنسبة 83.5 في المئة من العجز الكلي، وهذا ما يؤثر على مردودية البنوك العمومية.
ويضاف إلى ذلك وفق الخبير، استغراق البنوك العمومية في تمويل مشاريع القطاع العام بمستوى يتراوح من 4300 مليار دينار إلى 5700 مليار دينار سنة 2020 و99.37 في المئة من حجم التمويل، وهو ما ساهم في ارتفاع حجم الديون المتعثرة بمختلف مستوياتها إلى 65 في المئة من أموالها الخاصة، وبـ 35.21 في المئة من أصول هذه البنوك لعام 2022.
ويؤكد الدكتور محمد هشام قلمين أنه على الرغم من أغلب المؤشرات حول سلامة المنظومة البنكية العمومية إيجابية، إلا أنها مرتبطة بدعم الدولة بشكل أساسي. لذلك، يصل في تحليله إلى أن فتح رأسمال البنوك العمومية يعتبر عامل جذب للمدخرات والوفرات المالية المتواجدة خارج المنظومة البنكية أو خارج القطاع الرسمي، وهو ما يعزز من الشمول المالي.
كما أن إدماج القطاع الخاص في إدارة هذه البنوك، وفق الخبير سيؤثر على طريقة التسيير المعتمدة بشكل أساسي على تطبيق استراتيجية الدولة في تمويل عجز الميزانية والمشاريع العمومية وهي السياسة التي أوصلت للبنوك إلى الوضعية الحالية، إلى الانتقال التدريجي إلى الدور الكلاسيكي لمؤسسات القرض المتمثلة في تمويل الاقتصاد الوطني دون تأثير على مردودية أو حجم المخاطر المحتملة، والرفع من تنافسية القطاع البنكي، وهو ما سيعود بالفائدة على المستهلك الجزائري للخدمات المالية سواء على المستوى المحلي أو في عمليات التجارة الخارجية.
تنشيط
البورصة
من جهة أخرى، يؤكد الدكتور قلمين أن عمليات الإدراج على مستوى بورصة الأوراق المالية بعد الحصول على موافقة مجلس مساهمات الدولة، وتأشيرة لجنة تنظيم ومراقبة عمليات البورصة، تمكن من الرفع كذلك من حركية عمليات بورصة الجزائر، والتي لا تزال تعاني من ضعف مردودية عملياتها.
ولا يتجاوز حجم رسملة عمليات البورصة الجزائرية وفق الخبير 0.5 في المئة من الناتج المحلي الخام، وهو ما يعكس ضعف تمويلها للاقتصاد الوطني، على الرغم من كل الامتيازات الجبائية وتعزيز تنافسية خدماتها لتخفيض تكاليف الإدراج والعمولات التي تتلقاها شركة تسيير بورصة القيم، ومصاريف تنظيم عروض الشراء.
ويشير المتحدث إلى أن عملية الإصدار على مستوى بورصة الجزائر سوف تكون دافعا أساسيا لإدماج بورصة القيم في تمويل الاقتصاد الوطني، من خلال تحريك مردودية أسهم البنوك المدرجة، والرفع من جاذبية الاستثمار فيها، وترسيخ ثقافة الاستثمار في عمليات البورصة لدى القطاع الخاص، والعمل على رفع رسملة المؤسسات المدرجة من 0.5 في المئة من الناتج المحلي الخام إلى قرابة 1 في المئة وهو ما يمثل ضعف حجم الأدراج.
ويرى الخبير عبد الرحمن مبتول من جانبه أن الطريق نحو تنشيط البورصة يتطلب اقتصادا مبنيا على الإنتاج وخلق الثروة وليس فقط إعادة تدوير عوائد المحروقات في تمويل الشركات العمومية المتعثرة وتمويل القطاعات المبنية كليا الاستيراد.
ويذكر الخبير في هذا الصدد أنه لا يمكن أن تكون هناك بورصة بدون حل مشكلات ملكية الأسهم التي يجب أن تتداول بحرية، مقسمة إلى أسهم أو سندات، مما يشير أيضًا إلى ضرورة دمج المجال غير الرسمي من خلال إصدار سندات ملكية، كما لا يمكن أن تكون هناك بورصة للقيم الموثوقة بدون نظم محاسبة واضحة وشفافة مستوحاة من المعايير الدولية، من خلال تعميم عمليات التدقيق والمحاسبة التحليلية من أجل تحديد التكاليف بوضوح للمساهمين. ويطرح كل ذلك حسبه مشكلة إعادة هيكلة النظام المحاسبي وتعديل النظام الاجتماعي والتعليمي.
ولا تزال العقلية الاشتراكية متأصلة في أذهان البالغين والأطفال وحتى الأطفال. تخيل أن كل ما تملكه جميل فهو ملك للجميع. إما أن تقبل التأثير أو تغادر.