الجزائر… دمشق… طرابلس… كل شيء على ما يرام

حجم الخط
22

نشرت مجلة «إيكونوميست» تصنيفها السنوي لأفضل وأسوأ المدن للعيش، وفيما راحت المجلة تستعرض وتعدّ المدن السعيدة الهانئة، التي لا يداخلنا أيّ شك بكونها مدن الأحلام (نحفظ عن ظهر قلب أن ليالي الأُنس لا تُؤنس إلا في فيينا) حتى وإن لم تطأها أقدامنا من قبل، جاءت تلك العبارة الجارحة: «..فيما ظلت دمشق في أسفل التصنيف».
عبارة لم يشأ «الترند» التوقف عندها، إلا لتعزيز الصدمة بتجاورها مع الجزائر العاصمة في سوء العيش، هذه التي تفوقت على دمشق بدرجة واحدة فقط. فإذا كان، بحسبهم، مفهوماً أن تنأى دمشق إلى آخر القائمة، فلقد بدا محيراً حال الجزائر، فلا حرب فيها، و»الاستقرار» مديد وراسخ، وكان من السهولة بمكان أن يتصدّى جزائريون على مواقع التواصل الاجتماعي بالقول: كل شيء على ما يرام.

من أين يمكن الحصول على إحصاءات تتعلق بالجريمة في بلد تتمسك عقيدته بإخفاء الأرقام خشية إحباط مسيرة التقدم والاشتراكية، فلا ينبغي لشيء أن يوهن نفسية الأمة أثناء صعودها التاريخي

فهل كانت الشام حقاً قبل الحرب مدينة لائقة للعيش؟ من يتذكر إحصاءات وتصنيفات ما قبل العشرية العسيرة؟ لكن من يحتاج لإحصائيات في الأساس لما كان من الممكن إدراكه بأم العين.
وصحيح أن الحرب عمّقت المأساة أضعافاً مضاعفة، لكن لنتأكد من فداحة العيش فيها من قبل ما علينا إلا أن نراجع مطالب السوريين المنتفضين على نظامهم، لماذا ثار هذا العدد الهائل منهم، في طول البلاد وعرضها، وبذلك العناد، لو كانوا يشعرون حقاً بأن مدنهم تضمن لهم عيشاً كريماً.
ربما كانت المدينة السورية تبتسم فقط لزائر سنوي، سائح لديه رحلة دورية لعائلته المقيمة في المهجر الأوروبي والأمريكي، وكانت العطلة ستكون حقاً من العمر، حيث الرخص والشمس وترحيب الشعب، والتمرين الهائل على اللغة العربية والمسلسلات، وفوق ذلك تعزيز للتفوق، والتأكيد على أن أفضل ما فعله الزائر في حياته أنه غادر هذه البلاد مبكراً.
وإذا كان الاستقرار العامل الأول في تصنيف «إيكونوميست» فهو لا يعني فقط وجود حرب تهدده، فمعدلات الجريمة والتهديدات الإرهابية والعسكرية والنزاعات المدنية كلّها عناصر تؤخذ بالحسبان.
ومن أين يمكن الحصول مثلاً على إحصاءات تتعلق بالجريمة في بلد تتمسك عقيدته، كما كل الأنظمة الاشتراكية، بإخفاء الأرقام المتعلقة خشية إحباط مسيرة التقدم والاشتراكية، فلا ينبغي لشيء أن يوهن نفسية الأمة أثناء صعودها التاريخي.
أما على مستوى التهديدات والأمن المجتمعي، فهل أفظع من هجوم مستمر من أجهزة النظام على المجتمع برمته، منذ تسلّم الحكم، تَجَسَّدَ باعتقالات وتكميم أفواه وإعدامات. لم تكن حرباً، صحيح، الفرق أنك لم تكن ترى ذلك العنف والقتل في الشارع على الملأ (ولو أنه حدث أحياناً، حتى قبل الحرب) كانت حرب النظام في الفجر، وفي الأقبية المعتمة، وما من سوري إلا ويعرف ذلك، كان مطلوباً أن يعرف. فمنسوب السعادة يعلو بقدر التزام الناس بتكميم أفواه ذاتي. هذه أفضل طريقة في تبييض السجون، والمشي بالشوارع باطمئنانِ «الحيط الحيط ويا رب السترة».
تريد أن نتحدث عن الرعاية الصحية، وتوافر الأدوية والمعدات الطبية، ومستويات التلوث البيئي، وسقاية المزروعات بماء الصرف الصحي، وبالتالي جودة وتوافر المنتجات والخدمات الغذائية، وفساد التعليم والبنى التحتية، وجودة شبكة الطرق والنقل العام.. ماذا أحدّث!
أما الآن؛ فأضف كل ذلك إلى ما تنتجه الحرب، وكيف سيصبح النظام نفسه، أصل كل الشرور، عندما لا يعود خائفاً من رقابة دولية وأممية، ولا تصنيفات، ولا تفرق معه مؤشرات سعادة، أو أعداد السائحين، وتمكين المرأة، وتقارير منظمات حقوق الإنسان..
هذي دمشق، نعرفها من قبل، ونعرف إلامَ آلَتْ، وإذا كان المرء لا يفاجأ بأن تُجاوِرها طرابلس الغرب بسوء الحال فهذه لأنها ما زالت إلى اليوم تعاني حرباً مستمرة، وتمزقاً، وانتشاراً للسلاح، ويمكن أن نتخيل كل أنواع الفلتان الأخرى، فمن يسائل حالاً كهذا عن الطرقات والتعليم وتوفر الأدوية!

من الشائع مثلاً في مصر المقهورة أن أي ضابط في إمكانه أن يوقف أياً كان ويطلب منه فتح موبايله ليتصفح حسابه على فيسبوك، أو رسائل الواطس آب، ليرى إن كان هناك ما هو مناهض للنظام

الجزائر هي «المفاجأة» التي تتكرر لسنة ثالثة في آخر سلّم العيش، ستقول بالطبع إنها البنى التحتية والازدحام المروري وقلة المساحات الخضراء والتلوث وأحوال التعليم ومعدلات البطالة.. كل ذلك دفع الجزائريين إلى الثورة، خرجوا إلى الشوارع أسوة بنظرائهم في أقطار الربيع العربي، وسرعان ما تحايل النظام الحاكم فأخمد حراكهم.
لا يأخذ تصنيف «إيكونوميست» على ما يبدو، بمستوى الهجرة من تلك المدن، وقد يكون هذا وحده كافياً كمؤشر، ومسارات الهجرة غير الشرعية معروفة تقريباً، من أبرزها سواحل المغرب العربي، وفي كل مسار تجد السوريين ومن في حكمهم، والمسارات تَرتَسِمُ وتُشَقّ «بخطى مُضرّجة» بحسب ظروف ومتغيرات عديدة، وبالإمكان التخيّل لو أن فرص الهجرة تتاح من كل مدينة عربية، ومن سيبقى فيها.
واضح أن التصنيف الإيكونوميستي يأخذ في الحسبان اعتبارات عديدة لا تخطر في بالنا، من بينها استعداد الناس في الشارع لمساعدة أي عابر، طَلَبَ أم لم يطلب المساعدة، فهل يخطر في باله، أو في بال أي عدّاد للسعادة، أن من الشائع مثلاً في مصر المقهورة أن أي ضابط في إمكانه أن يوقف أياً كان ويطلب منه أن يفتح موبايله ليتصفح حسابه على فيسبوك، أو رسائل الواطس آب، ليرى إن كان هناك ما هو مناهض للنظام؟
على ذلك كم من العواصم والمدن العربية في إمكانها أن تجاور دمشق وطرابلس والجزائر؟
هل يفكر التصنيف مثلاً بمدينة عربية كل من فيها لا يفكر إلا بجمع الأموال، يده على فمه خشية أن يزلّ بكلمة، أو أنه يتعامل مع حسابه على فيسبوك بحذر شديد لئلا تنزلق يده بلايك ضال على منشور قد يسهم بترحيله من البلد، ناظراً طوال الوقت لنفسه كإنسان من الدرجة الثانية، لا يحق له القول فما بالك الاعتراض؟
وماذا أيضاً؟
ماذا أحدّث عن صنعاء يا أبتِ
مليحة عاشقاها السلُّ والجربُ
ماذا أحدث عن دمشق، طرابلس، القاهرة، ناهيك عن المدن الفلسطينية، وما تفعله بها الحرب والاحتلال.
حكايات مدننا المأساوية لا تنضب، ولن يقدر عليها تصنيف أو مؤشر، ومع ذلك، ما أكثر من سيقول لك: «دمشق أكثر أمناً من نيويورك» أو «كل شيء على ما يُرام» وليس عبثاً أن الكلمة الأخيرة مبنية للمجهول، إذ من الذي يروم هنا؟ وقد يكون بالفعل أن كل شيء على ما يروم حكامُ المدن.

* كاتب من أسرة «القدس العربي»

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول ابن الوليد. المانيا. (على تويتر ibn_al_walid_1@):

    يستحسن أن نأخذ عذه التصنيفات بجدية.. وان
    نعمل من أجل الأفضل.. فهي تصنيفات محايدة ..
    وأن لا نتسرع في شيطتة الآخرين.. فلا أحد له
    مصلحة في تصنيف دنشق كمدينة يصعب العيش
    قيها.. وليس لدنشق أي موقف من خرب غزة .. كي لا
    ترى الصهيونية العالمية وراء التصنيف.. وهنا استعمل
    فلسطين للاسف شماعة لكل شيئ.. رغم أن من
    يخرج في شوارع العالم مناصرة لغزة ويقلب موازين
    القضية هم في شوارع مدن لها تصنيف جيد ..
    .
    لا ينفع الانشاء في مديح حال مدن يراها الجميع في
    الانترنت وعلى شبكات التواصل الاجتماعي.. هذا ضرب من العبث…

    1. يقول الوزاني:

      لم افهم المقصود بالبنى التحتية لا اعتقد ان المفهوم هو الذي نعرفه جميعا فالجزائر العاصمة مثلا تمتاز بوسائل نقل جد متطورة ويمكن اعتبارها من الاحسن والافضل في شمال افريقيا ونفس الشيئ بالنسبة للمساحات الخضراء والحدائق في حين ان بعض المدن في شمال افريقيا ما زالت فيها وسائبل النقل تعتمد على شركات النقل البطيئ وربما هذا حفاظا على تقاليد الماضي فهي نفس الوسائل التي كانت معتمدة منذقرون وعليه فان البنى التحية التي تعتمد كمقياس هي فعلا بنى تحتية المطلوبة كثيرا من طرف السواح وهذه هم محقون فيها غير متوفرة في المدن الثلاثة لانها مدن اسلامية

    2. يقول ابن الوليد. المانيا. (على تويتر ibn_al_walid_1@):

      كما تحب وترضى.. جميل..

    3. يقول مالك الاوراسي:

      لااعتقد ان المؤسسات الغربية محايدة في تصنيفاتها التي تصدرها ،الدليل انه تصنف حركات مقاومة شرعية في حيز الجماعات الارهابية نازعة منها حقها المشروع في طرد المحتل الغاشم ،من الواضح ان محاربة المثلية وتغيير الجنس امور تؤثر في تصنيف مستوى العيش في المدن ،اما من يغير موازين القوى فلااظن انها المظاهارات في الشوارع ضد المحتل والمتواطئين معه من الدول الغربية وبعض الدول العربية ( رغم اهميتها الرمزية)، ان مايقلب الموقف هو المقاومة الباسلة التي تضرب الغزاة وتجبره على الفرار من غزة.

    4. يقول سنغولي:

      من قال انها محايدة؟ انت مثلا؟

  2. يقول بوعلام:

    الى الاخ وليد
    بعد هذه الابادة التي لم تعرف البشرية مثيلها من قبل وفي عصر الانترنات وامام اعين العالم كله رغم هذا كله اراك تؤمن بهذا العالم الغربي؟ ليكن في علمك المؤسسات الدولية كلها تابعة للهيمنة الامبريالية والا لم تعطى لها صبغة دولية

  3. يقول الكروي داود النرويج:

    لا حول ولا قوة الا بالله

  4. يقول أسامة كلّيَّة سوريا/ألمانيا:

    شكراً أخي راشد عيسى. لا أحتاج لهذا التصنيف لأني أعرفه من أقربائي الذين مازلوا في سوريا. لكن المقيقة تفاجأت من تصنيف العاصمة الجزائر!

  5. يقول كريم إلياس/.....:

    لنطرح السؤال بصيغة عكسية ..ماذا لو نشرت مجلة ( إيكونوميست) تصنيفها السنوي ..و امتدحت فيه ..العواصم التي تم ( ذمها) ..اكيد ستُقام الافراح و الليالي الملاح و ربما سيتم ( إعتماد) المجلة المذكورة على انها مرجع جدير بالثقة ..لانه اضاف الكثير من البهارات الحارة …حرارة ما تعاني منه الكثير من عواصم العربان …

  6. يقول عبد الرحيم المغربي.:

    في مدينة إسطنبول التي اعشقها.. لأسباب كثيرة..منها شبهها لمدينة طنجة في نمط التقسيم والهندسة العمرانية وارتباط الأصالة بالمعاصرة…ستجد من المساجد مالايوجد في مدن عربية كثيرة…وفيها من وسائل الترفيه والتطور..مايعجز اللسان على ذكره… إلى درجة أن أحدهم قال.. إذا مزجت باريس بفاس ومراكش..وبغداد التاريخية وسمرقند
    .مع لندن وفيينا..فالنتيجة ستكون هذه المدينة…التي تشعرك وأنت تتجول فيها..بمدنية أوروبا..وحضارة الأندلس والمغرب والشام… وتطور اليابان…والسبب هو احترام الأصالة..والاعتزاز بالتاريخ..والانفتاح على التكنولوجيات..؛ قد نتفهم أن تؤول دمشق عاصمة العرب والمسلمين في عصر الأمويين.. إلى ما آلت إليه بسبب حرب أهلية مدمرة…ولكن لن نتفهم ما وصلت إليه بعض مدن العرب…ولن اذكرها اختصارا للحساسية الجوفاء..

1 2

اشترك في قائمتنا البريدية