تواترت في الأيام القليلة الماضية عدد من المؤشرات الدالة التي تثبت وجود حالة من الانسداد الاستراتيجي لدى الجزائر، سواء في تملك رؤية في إدارة علاقاتها الدولية، أو في إدارة علاقاتها الإقليمية.
على المستوى الاستراتيجي المرتبط برؤية الجزائر لإدارة سياساتها الخارجية، يمكن أن نذكر أربعة مؤشرات قوية، تكشف جوانب من ضيق الأفق وانسداد الخيارات.
أكبر هذه المؤشرات هو قرار انسحاب ثلاث دول ترتبط اثنتان منها بحدود مع الجزائر، من منظمة الإكواس، ويتعلق الأمر بكل من النيجر، ومالي، وبوركينا فاسو.
المؤشر الثاني، هو التحاق دول حدودية للجزائر بالمبادرة الأطلسية التي أطلقها العاهل المغربي في خطاب المسيرة الخضراء في نوفمبر الماضي.
المؤشر الثالث، وهو نهاية الحلم الجزائري بمد أنبوب الغاز النيجيري إلى أوروبا عبر الترابين النيجيري والجزائري، وحصول تراكم مهم في مسار المشروع المغربي النيجيري، إذ مباشرة بعد المكالمة الهاتفية التي جمعت بين الملك محمد السادس، و الرئيس النيجيري بولا أحمد أديكونلي تينوبو، حل وفد حكومي نيجيري رفيع بالمغرب يقوده وزير الدولة بجمهورية نيجيريا الفيدرالية المكلف بالموارد البترولية، لمدارسة وتقييم التقدم المحرز في مشروع أنبوب الغاز نيجيريا ـ المغرب.
المؤشر الرابع، ويتمثل في تعمق أزمتها مع مالي بعد قرار المجلس العسكري الحاكم في دولة مالي، الانسحاب من اتفاق السلام والمصالحة الذي ترعاه الجزائر من 2015، لاستعادة الهدوء في شمال مالي، بحجة ما أسماه بيان المجلس، بـ«أعمال عدائية» من جانب الجزائر، بعد تقديمها الدعم للطوارق والعرب الذين يرغبون في الاستقلال وإقامة دولة في شمال مالي مستقلة عن جنوبها.
تحليل هذه المؤشرات الأربعة، يؤكد انطباق حالة من العزلة على الجزائر، بعد أن فقدت بشكل شبه كامل قدرتها على الامتداد في عمقها الإفريقي، بحكم، نجاح المغرب من جهة في جر دولتين حدوديتين للجزائر إلى الانضمام إلى المبادرة الأطلسية للإفادة من الإمكان الاقتصادي الذي توفرها الواجهة الأطلسية، ويتعلق الأمر بكل من مالي، والنيجر، بالإضافة إلى تشاد، كما أن التوتر مع مالي، يدفع، في التقييم الجزائري، إلى إنتاج حالة أمنية تضر بها وبالمنطقة برمتها.
الجزائر، التي يفترض أن تكون طرفا محايدا يرعى السلام بين السلطات المركزية بمالي، والقبائل التي تطالب بالاستقلال في شمال مالي، فضلت أن تمسك بورقة الطوارق والعرب، لتحدث حالة من التوازن، يبقي التوتر في حدود شمال مالي دون أن يصل أثره إلى جنوب الجزائر، لكنها في الجوهر، أمسكت بالورقة الخفيفة، وأضاعت ورقة أثقل منها، تعلق بحليفتها موسكو، التي تجعل من العلاقة مع مالي والنيجر وبوركينافاسو، حلقة محورية في استراتيجيتها في التوغل في العمق الإفريقي، وسمحت لفاعلين إقليميين بتحريك أوراق مهمة كانت بالأمس القريب ضمن مروحتها الاستراتيجية، فقد أضحت الرباط، أكثر قربا من مالي والنيجر بفضل المبادرة الأطلسية، وأضحت الإمارات، ماسكة بجزء كبير من أوراق الضغط على الجزائر، سواء من جهة ليبيا، التي تمتلك فيها علاقات قوية مع الجنرال حفتر، أو مع تونس، التي تقدم فيها الدعم لرئيسها قيس السعيد وتمنعه من السقوط في يد الجزائر، أو في مالي التي تقدم فيها الدعم لجيشها وللميليشيات المسلحة المقربة من موسكو مثل فاغنر.
الجزائر، مدعوة إلى التفكير العميق في مستقبلها، وفي التهديدات التي تواجهها، وربما الطريق الأنسب إلى ذلك، أن تتوقف عن استعمال ورقة الانفصال، في دعمها لجبهة البوليساريو أو دعمها للطوارق والعرب، والدخول في علاقات اندماج طبيعي مع محيطها، لخدمة أهداف التكامل في المغرب العربي الكبير
ثمة في الواقع خلطة غريبة للأوراق، حدثت في وقت ليس بالطويل على غفلة وسوء تقدير من صناع القرار السياسي بالجزائر، فالضغط الأمريكي والأوروبي على الجزائر، دفع بها إلى الابتعاد عن لعب أدوار لوجستية داعمة للنفوذ الروسي في إفريقيا، بل وأدى بها إلى التضييق على موسكو وإرباك جزء من تكتيكاتها الطاقية ضد أوروبا، فكانت النتيجة أن حصلت روسيا على ما تريد من خلال ثلاثة انقلابات في إفريقيا، اثنان منها على حدود الجزائر، هذا في الوقت الذي انصب الدور المغربي في جزء منه على تخفيف الضغط الطاقي على موسكو من خلال تسويق النفط الروسي وتحقيق تقدم مهم في العلاقة مع موسكو، واتجهت الرؤية الاستراتيجية لصناع القرار السياسي المغربي إلى إنتاج مبادرة لاستثمار مخلفات أزمة الجزائر مع حدودها الجنوبية، وبالتحديد مالي والنيجر، وتحقيق مزيد من التقدم في المشروع المغربي النجيري لمد أنبوب الغاز من نيجيريا إلى أوروبا عبر اثنتي عشرة دولة إفريقية.
في المحصلة، يترتب عن هذه المؤشرات حالة من عزلة جزائرية شبه كاملة، تضم تقريبا كل حدودها، باستثناء موريتانيا، التي تسعى الجزائر إلى محاولة كسبها حتى تضمن متنفسا وحيدا تمتد به إلى العمق الإفريقي، إذ تشهد العلاقات بين نواكشوط والجزائر زيارات متبادلة، ومحاولة تعميق العلاقات بإطلاق مشاريع ممهدة لبعض الاستثمارات المهمة.
البعض ربط بين قرار موريتانيا رفع الرسوم الجمركية على الخضروات المغربية، وبين هذا الزخم الذي تشهده العلاقات بين نواكشوط والجزائر، وأن الجزائر اشترطت تمكين سلعها من شروط تفضيلية، مما دفع موريتانيا إلى اتخاذ برفع الرسوم الجمركية على المنتوجات المغربية، لكن، في الجوهر، وبالاعتبار المهني، يصعب على الجزائر أن تنافس المغرب على مستوى المنتوجات الزراعية، كما يصعب على موريتانيا أن تتحجج بمقولة حماية المنتوج الوطني، لاسيما وأن المعطيات الإنتاجية تؤكد بأنها لا تلبي إلا جزءا قليلا من احتياجاتها، كما لا يمكن للجزائر بأي حال أن تكون بديلا عن المغرب في كل المنتجات الزراعية، وما يدعم هذا التحليل، أن وزير الخارجية الموريتاني، ولد مرزوق، في جولته المغاربية، أكد في المغرب، لدى لقائه بنظيره المغربي، ناصر بوريطة، أن كل الإشكالات بين البلدين توضع على طاولة النقاش لحلها بما في ذلك مشكلة الشاحنات المغربية المحملة بالخضر والفواكه.
في التقدير، لقد بدأت السياسات الخارجية للجزائر تفقد بشكل تدريجي الخيط الناظم لها، فهي لا تعاني فقط من غربها الذي تتهمه دائما بافتعال المؤامرات ضدها وتنسب كل مكروه يصيبها أو يصيب سياستها إليه، ولا تعاني فقط من شرقها (ليبيا وتونس) التي لا تملك فيهما أوراقا كافية للجواب عن سيناريو «تهديد الاستقرار السياسي وعدم النجاح في التسوية السياسية» وإنما أضحى جنوبها، جزءا من مسرح خيارات ومبادرات، لم تعد تملك في ساحتها إلا أوراقا جد محدودة، وحتى السياسة الاندفاعية الانفعالية التي كانت تضطر لإنتاجها كل مرة، باسم القرار السيادي ضدا على الرباط، لم تعد قادرة على الاستمرار فيها، فقد سبق لها أن اتخذت قرارا بحظر استيراد المنتجات والسلع التي تخضع لإعادة الشحن من الميناء المتوسطي بطنجة شمال المغرب، لكنها، اضطرت إلى مراجعة القرار، بعدما أفادها التقييم المهني أنها أضرت بنفسها، وساهمت في خلق مشكلة حرمان السوق الجزائري من اللحوم ومن كثير من المنتجات التي يتسارع إليها التلف.
الجزائر، مدعوة إلى التفكير العميق في مستقبلها، وفي التحديات، بل التهديدات التي تسببت سياستها الخارجية في إنتاجها، وربما الطريق الأنسب إلى ذلك، أن تتوقف عن استعمال ورقة الانفصال، سواء في دعمها لجبهة البوليساريو ضد الوحدة الترابية للمغرب، أو دعمها للطوارق والعرب الذين يطالبون باستقلال شمال مالي عن جنوبها، والدخول في علاقات اندماج طبيعي مع محيطها، يمكن من وضع المغرب العربي على السكة الصحيحة، ويدمج جهود المغرب والجزائر، القوتين الإقليميتين في المنطقة، وينسقهما لخدمة أهداف التكامل في المغرب العربي الكبير، وخدمة التنمية في إفريقيا، والحفاظ على الاستقرار بالمنطقة والتفاوض ككتلة قوية مع أوروبا.
كاتب وباحث مغربي
يسلم يدك على هذه النصائح
نتمنى أن تعود إلى جادة الصواب
هل من نصائح الي المغرب من أجل أن يتصالح مع الجزائر. الإجابة واضحة دعوات الي فتح الحدود و الغاز اما غير فهو ليس ملزم باي شيء
من المقال “.. فهي لا تعاني فقط من شرقها الذي تتهمه دائما بافتعال المؤامرات ضدها وتنسب كل مكروه يصيبها أو يصيب سياستها إليه، ولا تعاني فقط من غربها (ليبيا وتونس).. ”
.
يبدو ان هناك خطأ مطبعي في تحديد الشرق والغرب.. طبيعي ان سي التليدي يعرف اين الشرق واين الغرب..
.
وشكرا على هذا المقال الممتاز.. والتحليل العميق..
.
الغرب هو مكمن الشرور.. ولقجع.. 😀
يقول الكاتب:”فهي لا تعاني فقط من شرقها [هاء النسبة تعود على السياسات الجزائرية] الذي تتهمه دائما بافتعال المؤامرات ضدها وتنسب كل مكروه يصيبها أو يصيب سياستها إليه”. ويعني ضمنيا المغرب، الواقع غرب الجزائر.
ثم يقول: “ولا تعاني فقط من غربها (ليبيا وتونس)”!!!
وتونس توجد شرق الجزائر، بينما تقع ليبيا جنوب شرق الجزائر.
ما هذا؟
فعلا الجزائر وضعت نفسها في موقف صعب ، وأدخلت البلد في عزلة كبيرة بفعل الإجراءات والقرارات الانفعالية والغير محسوبة العواقب ، فالتدخل في الشؤون الداخلية لجيرانها ودعمها للحركات الانفصالية جر عليها سخط الجميع ، شكرا للكاتب .
من المؤكد أنه إذا تنازلت الجزائر عن مبادئها وتطبيع علاقاتها مع إسرائيل ونسيت القضية الفلسطينية، فإن مستقبلها الاستراتيجي سيكون “مشرقا”.
المبادئ الجزاءرية ليست من صنع النظام الحالي , بل كانت الجزاءر اقوى واشرس في الدفاع عن هذه المبادئ , ولم يصبها الوهن كما يحدث الان , لان صناع القرار كانوا يتقنون اللعبة الدبلوماسية , و كانوا برغماتيين . في احلك مراحل التوتر مع المغرب ,من بومدين الى عهد بوتفليقة كانت قنوات الاتصال مفتوحة وكان التنسيق يتم بينهما لمصلحة البلدين . اما الان فقد توقف كل شئ .
بعض الدول الافريقية يتم تسمينها و اعدادها من أجل استهداف الجزائر وكسرها لا اكثر و لا اقل. كل الدول العربية التي لها جيوش وازنة تم استهدافها خاصة تلك التي كانت مسنودة من المعسكر الشرقي سابقا . نظرة على خريطة الدول العربية تكفي لفهم الوضع. بقية اللف و الدوران تفاصيل يا سيادة الكاتب.
عندما نطلق وصف الأفق الإستراتيجي على توجهات قائمة في الواقع…أو محتملة الوقوع … أو لا وجود لها أساسا.. فإننا نستحضر حتما مجموعة من البديهيات السياسية التي تؤثث واقعا دوليا متمردا على التصنيف التقليدي الذي لازال البعض رهينا بين قضبانه الحديدية التي نخرها الصدأ …؛ فلا روسيا هي نفسها الإتحاد السوفياتي الذي كان يصطف خلفه عشاق البيروقراطية الاديلوجية…ذات المسميات المدغدغة لعواطف البؤساء والمتمردين على حد سواء…ولا أمريكا التي تعيش على منطق هيمنة الكوبوي لها رغبة في إعادة مشاهد الحرب الباردة…ولا إيران الحالمة بعودة تاج كسرى تفكر في محاربة الغرب أو إسرائيل…كما يتوهم البسطاء من بني جلدتنا..؛ وبين هذا وذاك…فلن ترفع عنتريات نشرات الأخبار ما قاله لابروف في موضوع عضوية البريكس…ولن تجعل انتكاسة فرنسا في دول الساحل وافريقيا من خرافة الحدود الموروثة عن الإستعمار التي كلفت الملايير.. أمرا يمكن المحافظة عليه..خارج إرادة الراعي المهزوم وهي فرنسا نفسها…ولا توظيف القضية الفلسطينية إعلاميا على سبيل المزايدة المجردة من أي فعل ملموس… يمكن أن يشكل رأيا عاما قد يصنع صورة غير حقيقية عن ممانعة مفقودة…ولو جمعنا كل هذه المعطيات جمعا سياسيا أو حسابيا…فإن النتيجة هي ما قاله الكاتب.
قال الشاعر :
فقل لمن يدعي في العلم فلسفة : حفظت شيئا ، وغابت عنك أشياء
ولكن إذا كانت الجزائر وهي من هي اليوم وفي عز قوتها الدبلوماسية العالمية والإقتصادية والإجتماعية و البحبوحة المالية التي تعيشهاحاليا ومع ذلك يرى غيرنا أن أفق الجزائر مسدود لذلك لا ندري أي علم هذا ..
البرغماتية السياسية و وضوح الرؤية الاستراتيجية ( بعد النظر ) في غياب النبرة الأيديولوجية ، الهدوء و عدم المزاجية و ردود الأفعال الآنية…و تنويع الشركات….من تقاليد السياسة الخارجية ال٦ريقة للمملكة المغربية .
طريق دول الساحل إلى الأطلسي في حاجة إلى موريطانيا فقط لتجسيده على أرض الواقع… وهي لم تلتحق بعد… والمغرب بعيد جغرافيا…اي ليس حلقة ضرورية في السلسلة…
ذاك الطريق سيفرض على موريتانيا من خلال دول الساحل وليس المغرب. وهذا سيجعل موريتانيا في مواجهة مع هاته الدول التي تبحث عن مصلحتها الاقتصادية مع المغرب. ما سيؤدي لإذعان موريتانيا للمصالح الاقتصادية مع المغرب ودول الساحل.
وهل تعتقد أن خطاب الملك عشوائي ما قاله العاهل المغربي تم التخطيط له منذ زمن وبحكمة وذكاء
ليس لزاما على موريتانيا أن تلتحق..
.
لكنه لزام عليها ان تفتح الطرق امام شاحنات دول الساحل.. وهذا يكفي لانجاح المشروع..
.
موريتانيا ليست في عداء مع دول الساحل كيف تمنعهم من استعمال طرقها..