إن التنقيب عن البدايات الفلسفية، التي رصدت العلاقة التلازمية، بين الجسد والعقل، تأتي في أبعد نقطة في الخطاب الفلسفي، إذ نجد أن المقولة التي تعد حجر الزاوية في فلسفة طاليس الملطي هي «العقل السليم في الجسم السليم». فدلالة هذه العبارة تبدو سليمة في بعدها المعرفي، بيد أنها تقوم على نظرة متمركزة حول العقل، وتجعل من الجسد هامشاً وخادما، موصلاً إلى كمال العقل وسلامة الوعي، كما تحيل العبارة بشكل مباشر، إلى أن أي خلل في الجسد؛ سيؤدي إلى نقص في تمام العقل، أو في آلياته الإدراكية. إذ إن فاعلية العقل وإنتاجيته لن تكون تامة؛ إلا إذا كان العقل مقترناً ومحمولاً على جسد سليم، فأي نقص أو خلل أو عطب أو تشوه، في الجسد ينعكس على العقل، تكشف هذه العبارة عن تصور فلسفي، يقوم على بناء علاقة تلازمية، يكون فيها الجسد شرطاُ لكمال العقل وإنتاجيته. وتذهب العبارة بكل وضوح إلى تقسيم جسدي/ عقلي: ( جسد سليم = عقل سليم) و(جسد غير سليم = عقل «غير سليم») فالعقل السليم منتج للأسوياء، الذين يستمدون سويتهم العقلية، من الجسد السليم، غير الموصوم أو المنتقص من قدرته، في حين تكشف الفئة الثانية، عن طبيعة مختلفة من الأجساد، وهي أجساد (معاقة/ موصومة/ منبوذة/ غير منتجة) وهذه الأجساد غير المنتجة، لن تنتج عقلاً سليماً على أقل تقدير، فطبيعة المباينة التلازمية، في العبارة، تجعل من الفرد، صاحب الجسد المعاق، حقلاً منبوذاً وطارداً، لا يتمتع بأي أهلية، تساويه بالجسد السليم، صاحب العقل السليم.
إن أي عطب، أو نقص، أو تشوه، يصيب الجسد ويكوّن علامة فارقة، سيعمل على رسم هوية مرئية، معلنة لصاحب الجسد المعاق، ويصدر عليه حكماً بأنه فاقد، لتمام العقل الذي هو، أس الوعي والإدراك، هذه الصورة الكلية لهذا النوع من الأجساد، سيقودنا بالضرورة إلى أن هذا الضرب من الذوات الجسدية، ستكون فاقدة للقدرة الإنتاجية، وبالتالي هي فاقدة كذلك، للقدرة على إصدار الأحكام، والقرارات الشخصية البسيطة أو المعقدة، وإذا حاولنا تتبع الارتباط المعرفي السلالي لهذه العبارة، سنجد ظلها وشبحها الخفي، في مشغل أفلاطون وجمهوريته الفاضلة، إذ ثمة محاورة مهمة بين سقراط وغلوكون: «سقراط: أفلا تنشئ في مدينتك إدارتين، طبية وقضائية، تتصف بالذي ذكرناه من الأوصاف؟ فتسبغان بركات خدمتها على أصحاء الأبدان والعقول، مع إهمال سقماء الأبدان فيموتون».
يكشف هذا الحوار عن تأسيس أفلاطون على مقولة طاليس السابقة، إذ إنه يحاول حماية جمهوريته الفاضلة، من كل مركبات النقص، أو التشوه التي لا تشكل إلا عبئاً على الدولة، كما يحاول صياغة دستوره وفق مقولة طاليس، فلا يمكن للإنسان أن يكون سوياً ومنتجاً، إلا إذا كان سليماً جسدياً، إن سقراط يتطابق ويوسع ظلال المعنى الطاليسي، فهو يذهب إلى وجوب، تركهم وإهمالهم؛ ليواجهوا الموت ومن ثم يتخلص منهم المجتمع الفاضل. إن سقراط يعمل على تحويل الجسد وربطه، بسلسلة إنتاج معقدة وطويلة، تقف بالضد من الجسد غير السليم، فالتأسيس الفلسفي في الجمهورية ودستورها يعملان على دفع القانون، إلى زاوية إنتاجية، محورها الجسد السليم القوي، وهذا الجسد الكامل يتطابق مع حلقة الإنتاج، وإذا حاولنا تتبع الظلال الشبحية، لمقولة طاليس الملطي التأسيسية، سنجدها قد تسربت للفلسفة الإسلامية، وقد انتظمت داخل الخطاب الفلسفي، وتمظهرت بشكل خطابي جديد، يقوم على إرساء مفهوم «الكمال الجسدي» الذي لا بد أن ينعكس، في صورة السلطة المنتجة للتسلط، فقد سعى الفارابي في كتابه «المدينة الفاضلة» إلى تأسيس فلسفة سياسية تقوم على «الكمال الجسدي = سلطة منتجة» على اعتبار أن تجلي «السلطة» بشكل مرئي، يجب أن يحافظ على صورة الكمال، وهذا الكمال ينطلق من مستويات متعددة، لاسيما الكمال الجسدي، وبهذا يدشن الفارابي خطاباً جديداً في الفلسفة السياسية، يقوم على الامتصاص والتحويل، لأفكار طاليس وأفلاطون.
لقد أسس الفارابي لصورة السلطة المنتجة وصاغ شكلها البصري، من خلال التأسيس المعرفي، لصورة الكمال الجسدي، الذي هو أهم هذه المعايير، وبه تأخذ السلطة كمالها وهيلمانها، فالكمال الجسدي مع الفارابي تحول لمعيار لصورة السلطة، فهو ينقل ويوسع مقولات طاليس وأفلاطون، ويذهب بها إلى أوسع مدى؛ من أجل إعطاء صورة مثالية للسلطة، يكون معيارها الكمال الجسدي، ولاسيما في المحور الخاص، في خصال رئيس المدينة الفاضلة والرئيس الأول، فهو يرى أن هذا الرئيس، الذي لا يرأسه إنسان آخر أصلاً، وهو الإمام ورئيس المدينة الفاضلة «ولا يمكن أن تصير هذه الحال إلا لمن اجتمعت فيه بالطبع اثنتا عشرة خصلة قد فطر عليها: إحداها أن يكون تام الأعضاء». إن اشتراطات الفارابي، تنهض على توسيع، خطاطة الجسد الطاليسية والأفلاطونية، ثم تتحول لشرط أساس، لصورة السلطة المتجلية في الكمال الجسدي، بيد أن الأمر تغير مع ابن رشد في كتابه «تلخيص السياسة» فهو يضع في باب اشتراطات رئيس المدينة الفاضلة عشرة شروط، آخرها هو الشرط الجسدي، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الفارابي، جعل سلامة الأعضاء وكمالها أول شرط للسلطة المنتجة، في حين نجد أن هذا الشرط الأول، تراجع ترتيبه عند ابن رشد ليكون الأخير، وجاءت عبارة ابن رشد، كأنها خلاصة الشروط جميعا إذ يقول: «هذه هي الخصال الواجب وجودها في هؤلاء الحكام، وعلى الجملة فإنه يجب أن تتوافر فيه الخصال الجسمانية التي أكدناها للحراس، وهي القوة للنفس والجسد». إن اختلاف تراتبية الشروط، بين الفارابي وابن رشد، له دلالة مهمة، فابن رشد أوجز جميع الشروط التسعة التي ذكرها جميعا. والشرط العاشر، هو كمال الجسد، وهو بهذا يخرج؛ ليرجع إلى أفلاطون في الجمهورية الفاضلة، ويجعله شرطاً بديهياً، لا يحتاج إلى بيان، فسلامة الجسد وكماله شرط ابتدائي، وهو هنا يفترق عن الفارابي، وكأنه بهذا يدخل سلامة الجسد، كشرط لا يحتاج إلى تنويه، بل يوجز الشروط جميعها بسلامة النفس والجسد. إن هذه التفاعلات الخطابية، داخل الخطاب الفلسفي التاريخي، تكشف بشكل جليّ، عن الصورة القابعة في الظل، للجسد (المتروك/ المنبوذ/ المعاق/ غير المنتج).
كاتب عراقي
كلمة قصيرة جد ا أخف من الظل لكن ا عالم الفلسفة لا حدود لا نهاية فأدا وضعتها في المختبر فأنها تعطيك معاني كثيرة يصعب عليك أحصا ء ها ولو كان معك المعين فا كلمة العقل السليم في الجسم السليم جامعة بدورها .
كل الشكر لتفاعلك المثمر