قدّم غاستون باشلار المكان ليس فقط بوظيفته التزينية أو التأطيرية للأحداث، إنّما قدّمه بأبعاده الأدبية، عندما تحدّث عن إمكانية استكشاف «ثروة الوجود المتخيّل» فالمكان هو المعنى الحميم للشغف والإنسان، هو بؤرة الذكريات، وفوّهة الحنين، المكان في الرواية ليس مكانا تجري فيه المغامرة فقط، وإنّما هو أحد العناصر الفاعلة في تلك المغامرة، فكيف إذا كان ابن الطبيعة في لحظات فورانها، اللحظات المتداخلة مع الطزاجة الجوهرية للأرض، التي تمثّل صوتية الوجود وذبذباته «كالجزُر» التي غدت شخصية مشاركة في السّرد.
الجُزر التي كانت في كثيرٍ من الأحيان مركز إلهام لكثير من رواد الأدب أمثال نيتشه، الذي انعزل في جزيرة بعيدة وانطلقت فيها أفكاره الثرية التي تحرك الزوابع، وأناه الأرقى والأعمق، فكتب «هكذا تحدّث زرادشت» الذي تدور أحداثه في جزيرة إسكيا الساحرة، هذه الجزيرة التي وصفها بأنّها ذات طاقة بركانية متجدّدة عارمة، فازدهرت فيها أفكاره الهادئة العميقة الحية التي تنبثق من قلب الجُزُر، وتتوجّه مباشرة إلى أعماق الجذر. الجُزُر هي الذات المغلقة – المفتوحة (السياج المغلق على نفسه بالماء، والمفتوح بالماء أيضا على العالم والمالانهاية) هي منذ الإلياذة والأوديسة (ملاحم تضم مسبحة من الجُزر اتيكا، طروادة، جاليجو…) وسندباد، مرورا بطوباويا توماس مور وجزيرة روبنسون كروزو، وحتى رواية باموق الأخيرة «ليالي الطاعون » التي يدور معظمها في جزيرة مينغر، و»إخوتنا الغرباء» لأمين معلوف، و»أطلنطا» لسوليرس، مرورا بآلاف الجزر الطوباوية، والبوليسية؛ وبجزر العشق والأسرار والفانتازيا كجزيرة المطففين. تظلّ الجُزُر أهم المسارح الثابتة للروايات: لا عد لمغامراتها ومؤامراتها، لمجازرها ودمارها، لجناتها وجحيمها، تجاربها وحيواتها، هذه البقعة الصغيرة من اليابسة وسط الماء اللانهائي، الساحرة والخلاّبة دراميا.
فلماذ تجذب الجُزر بشدّة مواضيع الروايات؟ ولماذا تعتبر أهم وأروع مسارحها؟
بداية إذا أردنا أن نقدّم أهم الكتب العالمية، التي كانت الجزر فيها مركزا للأحداث، لا بدّ أن نذكر أولا الجزر الميثولوجية الإغريقية، التي وردت في أقدم ملحمتين (الإلياذة والأوديسة) من هذه الجزر:
جزيرة أوجيجيا سُجن فيها أوديسيوس لدى حورية كاليبسو لمدة 7 سنوات.
جزيرة كورفو التي يصل إليها أوديسيوس، بعد تركه للحورية، ويروي ما حدث معه.
جزيرة لوتوفاجي يقدم السكان فيها زهرة اللوتس لأوديسيوس ورجاله، هذه الزهرة التي ينسى من يأكلها كل شيء، ويتذكر فقط أن هذه الجزيرة هي وطنه.
جزيرة الأيوليين ويقوم فيها البحارة بفتح جرة كانت قد أُعطيت لهم من قِبل ملك هذه الجزيرة كهدية، وتحتوي هذه الهدية على الرياح التي قام زيوس بحبسها. وتُدَمّر العديد من السفن بسببها.
جزيرة كابري
حيث توجد عرائس البحر، ينشدن أغاني ساحرة بأصوات عذبة لا يمكن وصفها، ومن يذهب إليهن يبقى بجوارهن مدى الحياة، قام أوديسيوس بالنجاة عن طريق وضع الشمع في آذان البحارة لكي لا تسحرهم أغاني الحوريات، وتجرّهم إلى التهلكة، وقام بربط نفسه إلى صارية السفينة، كي يسمع غنائهن الساحر دون أن يسقط في حبالهن. ومن الروايات العالمية والعربية التي كانت الجُزُر فيها مسرحا للأحداث نذكر:
«طوباويا» لتوماس مور
وتتحدث عن التقاليد السياسية والأعراف الدينية والاجتماعية في جزيرة معزولة شيّدها مور، وجعلها جزيرة مثالية خالية من كل الأحقاد والشرور والحروب والأمراض، ترتسم فيها السعادة.
«الجزيرة» لألدوس هكسلي
يشيد هكسلي في هذه الرواية مدينته الفاضلة أو جزيرته الفاضلة (بالا) المنعزلة عن العالم ، لا تستطيع أن تعيش في هذا العالم الذي لا يشبهها. هذه الجزيرة مكوّنة من مزيج غربي شرقي فيها تكنولوجيا الغرب، وحياة الشرق وطبيعتهم، والروح الرحبة، الحكمة، العدالة، وهنا يكمن جمالها
«جزيرة الدكتور مورو» لهربرت جورج ويلز
تحكي الرواية قصة برينديك، وهو رجل كان في عرض المحيط في زورق صغير مع صديقين تشاجرا وغرقا في البحر. أما هو فيذهب مع مونتغومري الذي ساعده إلى جزيرة مجهولة ليلتقي بعالم يدعى الدكتور مورو، ويتفاجأ بوجود أشخاص أشكالهم غريبة ، ومورو رجل يحول الحيوانات إلى بشر، وهو المسيطر على الجزيرة بأكملها.
«أخوتنا الغرباء» لأمين معلوف
تحكي قصة ألكسندر، وهو رسّام كاريكاتير في منتصف العمر اختار العزلة في جزيرة صغيرة قبالة شاطئ الأطلسي، تدعى أنطاكيا، كان والده قد اشتراها ولم يتخلَّ عنها حتّى عندما أفلس.
«عروس القمر» لمحمد طرزي
هي الرواية الثالثة في مشروع الروائي طرزي في حكاية الحلم الافريقي الذي يرصد فيه الحضور التاريخي للعرب. على طول الساحل الشرقي لافريقيا، تدور معظم الأحداث في جزيرة موهيلي التابعة لجزر القمر، ويدور بعضها في أنغوجا عاصمة جزيرة زنجبار، خلال القرن التاسع عشر. والجزيرتان تتبعان الإمبراطورية العمانية التي كانت تمتد من مضيق هرمز حتى رأس دلغادو في موزمبيق.
«ليالي الطاعون» لأورهان باموق
تجري أحداثها في جزيرة يسكنها خليط من السكان اليونانيين الأرثوذوكس والمسلمين. تتوتر الحياة فيها وتضطرب مع ظهور وباء الطاعون بعد أن كانت هادئة آمنة،. مسرح الأحداث هو جزيرة «مينغر» العثمانية الوهمية، الواقعة في مكان ما بين جزيرة كريت ورودس.
«جزيرة المطففين» لحبيب عبد الرّب سروري
تقسم الرواية إلى ثلاثة أجزاء سنتناول الجزء الثالث منها، الذي دعانا سروري قبل البدء به إلى ربط الأحزمة، والتنفس طويلا وعميقا لما سيكشفه من أسرار خطيرة ومفاجآت قد تصدم القارئ يتضمّن هذا الجزء:
قسم (ألف) فيه حي شعوب الله المختارة، قصور الأغنياء فيه لا تقارن بقصور، لموظفي الجزيرة كلهم رواتب تختلف عن رواتب باقي سكان أطلس، رفاهية تامة. يقع في يسار الجزيرة، كلها مراكز أبحاث علمية، عمارات ضخمة أنيقة ، بلا بشر تحيطها أسيجة حصينة، يتم فيها بهدوء التوجه نحو بشرية جديدة، والهدف المقدس هو موت الموت، توجد مختبرات (تحسين النسل) تحسين سلبي القضاء على إعادة إنتاج جينات الضعاف والمعاقين، وتحسين إيجابي تطوير الملكات، ومضاعفة عدد الأقوياء.
قسم (ياء) يقع في يمين الجزيرة، فيها عناصر عسكرية كثيرة، مختبرات الروبوتات القاتلة، الذي توجد فيه الإبادات الذاتية، تتموسق فيه كل صغيرة وكبيرة على الصعيد السياسي والعسكري من هنا تخرج الأوامر من قبل (ق.ع) وتأمر باستئجار ميليشيات حسب الطلب. قابل فريد وسينديا في هذا القسم خبيرا في أحد مختبرات الروبوتات القاتلة، يقع مكتبه في علياء ناطحة سحاب: مركز منظومة برمجيات ذكية هي القائد الأعلى للروبوتات الذكية القاتلة كلها في أنحاء أطلس.
قسم (كاف) في قلب الجزيرة، 5000 كيلومتر مربع فيه ثكنات تكنولوجية، كمبيوترات استخباراتية، فيه مقهى ستاربكس الذي سارا منه إلى مقهى ستاربكس آخر مشحون بكاميرات لامرئية، سيتم فيه أول لقاء لفريد وسينديا مع شخصية مهمة في هذا القسم. كما توجد أنفاق تحت أرضية، تحيطها أسلاك شائكة، تشتغل وحداتها الكمبيوترية المتناثرة، لمعرفة شخصية الإنسان، واستشراف أحاسيسه ورغباته وميوله ونواياه.
هي مرصد مراقبة سرية وتجسس، حيث كانت عاصمة ق.ع القيادة العامة. ولعل أحد أهم أسرار الرواية وأكبر مفاجآتها هي (صاد) التي تقوم بإرسال رسائل إلكترونية للصحافي والوكيل السري الذي يراقب فريد وكراسه ورفيقته، تفاعلت مع الوكيل في حوارت طويلة، فيما ظلّ الوكيل يتساءل طوال أشهر إن كانت البرمجية صاد ذكرا أم أنثى، حتى كاد يشعر أنّ صاد يقف أمامه دوما وبالمرصاد. لنكتشف في نهاية المطاف هوية صاد، وأنّها برمجية حوار آلي طويل، منقوعة بأحدث خوارزميات الذكاء الاصطناعي، وملكات المقدرة على الحوار الآلي بلغة الإنسان. لتكون هذه المفاجأة أكبر مفاجأة تهز القارئ، وتخلق ثورة في صدره.
وإذا ما عدنا للعلاقة العضوية والساحرة والنموذجية بين الجزر والروايات يمكننا القول أإنها ملتقى عشق وهيام ولقاءات حميمة بين عشاق الجمال. موطن شغف وانجذاب وانغماس في الحب. كما أنها موطن للهروب، للعزلة والفرار من المواجهة، من المعاناة والتجارب الفاشلة، للابتعاد عن حياة العالم الحقيقي، هي مرتع الخفاء والغرابة، والأحداث الجنونية والمغامرات الشيّقة الساحرة، هي موطن الحياة والموت، الأسرار، التجسس، ومعقل مجموعة التناقضات وكتلة المشاعر والتجارب الإنسانية الفريدة، التي اجتمعت وشكّلت الإنسان، فكيف لا تكون مسرحا لأفعاله وتقلباته، إنسانيته ووحشيته، عشقه وأسراره.
كاتبة سورية