تتلاشى ذكريات الحب الأول، يكنس الزمن لحظة الفقد، ولا يترك منها سوى ذلك الأثر الذي يعتصر الفؤاد، يغيب الوجه المحبوب خلف الجرح الذي يخدع الناظر فيحسبه لإتقانه وشماً، لكن الجراح قد تتحول وعلى غرار الأسئلة الفلسفيّة الأولى لسؤال مكرور، أو تعلق عند كلمة: لماذا؟ والحكمة التي يجترحها الحب الأول ببراعة يسلبها الحب الجديد كغنائم حرب؛ فالأخير بخلاف الأول «قائد ميليشيا».
تأتي لحظة التوتر القصوى في الحب: وهي لحظة هدّامة، إذ تحمل في ذاتها بذور موتها، هل أنا مقنع له. هل أنا كافٍ في نظره؟ إنها معركة. هو بعيد، وقلبي يشتعل ظامئا إلى كلمة! ولأنه وفي ظل الصمت تنمو النبتات الأكثر سميّة، والوحوش الأشدّ ضراوة. يصبح الكلام تعذيباً مضاعفا، ونشك في ما إذا كان باستطاعة كلمة أن تنقذنا.
في جانب مواز، يخشى البعض كلمة حب، وكأنها نهايته أليس لكل إنسان عدمه الخاص! البعض يخشى الفقر، والبعض الآخر يخاف المرض، وآخر يكره مفاجآت الحياة ويفضل أن تكون خطواته مدوزنة ومدروسة. يتجنب كلمة حب وكأنها قبر مفتوح. يسعفه ابتذال الجسد أو ثراء الخيال وضحالته «الأمر سيّان». البعض يأمل من الحب أن ينقذه من فخ الوجود، ليس من الوحدة بحد ذاتها، بل من الأفكار التي تولّدها الأخيرة. وغيره يرى في الحب قسمةً غير عادلة سببها كيوبيد الذي يصوّب السهم دائماً في اتجاهٍ خاطئ. إذا لم يشأ الحب أن يعطيك: ليس لكونه بخيلا، بل لأنه لا يقدر على مجاراة الذين يركضون في دروبه ويلقون بأنفسهم في عتمة الآخر. (في الحب يعتقد بعضهم أنه المسيح المخلّص، ويلعب آخرون دور يهوذا). المسيح مضرّج بالدم ويهوذا يعدّ الدراهم، «هذا تاريخ الحب المكرّر بابتذال».
تعرف أنك عالق في شبكة عنكبوت وترغب بالتحرر، تعتقد أنه سيمدّ يده إلى جيبه ويخرج قطعة حلوى تزيح مرارَ أيامك، ربما حدث الأمر مرة لكنه انتهى حكماً، أحيانا كثيرة تقبل حقيقة فقدانك كل مقاومة، وتنتهي بالامتثال للوحدة، تقابل أغاني الحب بالسخرية، وكما تدهن الأمهات أثدائهن بالقهوة ليفطمن الصغير، تسخر من ذاتك وتمارس عليها عنصريّة مقيتة، تشحنها كما يشحن اليمين المتطرف أتباعه، تمارس عليها أساليب غوبلز مسؤول الدعاية عند هتلر، تشحن روحك بقصص الخيانة تلقي عليها مواعظ القسوة والعزلة، كما يسكب الماء القذر على السجين. وذاتك راضية، قانعة تبدو أنضج منك في سكوتها، وأنت تلوح بإصبعك على طريقة الفوهرر مذكِّراً الأمة المنكوبة بجرح الكرامة. لكن ذاتك الراضية تحدثك عن العطاء، وتحاول أن تُفهِمكَ أن الحب ليس معلم رياضيات، لكي يخرج بنتائج صحيحة، وأن طرفي المعادلة ليسا متساويين وأحدهما عليه أن يتأرجح لكي يسند وجود الآخر. كانت قسمتها هادئة، حتى ليخال الناظرُ إليها أنّها سمكة ميتة ولن تلبث أن تطفو على سطح روحك.
«الواقع قائد قواتك لكن الحلم كل ثروتها»
في الحلم، تصول الجراح. تؤلف لك تراجيديات كثيرة، لا تنتهي بموت الأب كما في مسرح شكسبير- بل بموت الجميع وأنت أوّلهم، في الحلم تُنزع عنك الحكمة كما نُزعت عن الملك لير وتهبك الحمق مقطّراً ومخلوطًا بالندم المرّ. ليلاً، تنهض ذاتك الأخرى من معتقلها، وتذكرك بالمصيبة التي فعلتها، كما يذكر جنرال ملكاً بفعلته، تبدأ المناوشات بينكما، بدأ فيلم اللاّوعي بعرض مأثرته.
معاً، أنتَ ومن تحب.
الحب صافٍ وكأن ريحاً لم تعبر بأغصانه، وأنت سعيد كطفل، تنظر لنفسك في حيطان كالمرايا، يبدو المحبوب هادئًا وبعيداً عنك رغم أنكما تسيران متخاصرين، تدخلان متحفًا، هل هذا: متحف لموتى الحب «تقول كالمنوّم»؟
يصحح الحارس: بل لقتلى الحب.
رسومات على الجدران، ظلال باهتة محاها الزمن، الأحرف الأولى من أسماء غمرها التراب، والكلس، ميداليات هزيمة، قلوب ممزقة، عصافير دون ريش، وأخرى اصطدمت بالسقف وانغرست مناقيرها في جداره الصلب، بينما كان الريش الأبيض يقطر دما. تجلسان على مقعد حديقة فتظهر صورتكما في شاشة الوعي، المحبوب يتلبّسه الضجر.
«لغة الجسد أهم من كل الأبجديّات»
ذاتك تركض سعيدة مندفعة بهذا الحب وعقلك يتدخل لعرقلتها، تركت لك الواقع ومنطقه فاترك لها الحلم، دعها تتوهم أن الحب هو اندماج ذاتين، وأننا نحبه لأنه «هو هو ونحن نحن» وأن… وأن.. ومن تلك العبارات الفاشلة التي كتبها كهنةٌ محبطون. دعها غارقة في تعريفاته ولا تفزعها كما تفعل الجيوش بالقرى الآمنة. يغريك الشر في داخلك وتدرك معنى أن يقوم جندي مذعور بإطلاق النار على سكان عزّل. تريد تلقين ذاتك الدرس الأخير، تضيف للمشهد طفلة، الطفلة ترسم دائرة، والمحبوب الآن يتجرأ على النطق: لم نكن معا منذ البداية. الطفلة تحاول أن تشرح لك الأمر بشكل أفضل. ليس هذا ما قاله بالضبط؛ «لكن شيئا ما يؤدي المعنى»، ترسم الطفلة في منتصف الدائرة وجهاً: هذا وجهكَ، تنبثق في رأسك كلمة: الوحدة، تتشنج ملامحك والطفلة تتابع الشرح: «الآخر ليس معك في الدائرة ذاتها»، أنتما غريبان. لا تريد التصديق على الحقيقة: ما لفرق بيننا، ما لفرق بيني وبينه؟ تنظر نحوك بهدوء، لها وجه امرأة ناضجة
تجيب: الخيال.
-الخيال؟
تكرر وهي تومئ مؤكدة: «الحب التقاء مخيّلتين»*
الحلم شارف على نهايته، ها قد غادر المحبوب. تتابع الطفلة الرسم، يفيض النهر عن حدود الورق، وتتساقط الأسماك الميتة فوق عشب الحديقة. تتراجع خطوة للخلف.. خطوة أخرى.. وثالثة.. ثم وكمخرج يضع لمسته على المشهد لأخير في الفيلم تصيح بالكادر: إعتام.
*غاستون باشلار
كاتبة سورية