الحتميات الطوباويّة في عمل «منبر لينين» للروسي لزهر الليسيتسكي

حجم الخط
0

على غرار مؤسسيها الأوائل تاتيانوف، لوشينكو، وبعدهما السيادي ماليفيتش، فإن مجمل الأعمال التي قدمها التشكيلي والمعماري الروسي لزهر الليستسكي (L. El Lissitzky) في بداية القرن العشرين بما فيها تصميم العلم السوفييتي وأمثولة الصراع بين الأحمر والأبيض، ساهمت مباشرة في تركيز دعائم الحركة البنائية الروسية. من ذلك عمل «منبر لينين» الذي يعود إلى 1920، وهو عبارة عن تصميم، أو رسم بياني لأنموذج إنشائي عملاق بقي مجسمه محفوظا على الورق في متحف رواق تراتياكوف في موسكو. تم إنجاز الرسم كهدية للقائد البلشفي لينين ليكون منبرا مرتفعا، معلقا في الهواء ومحصنا لإلقاء خطاباته الثورية، وسلاحا بيد البلاشفة لفرض سيطرتهم على الأمّة الروسية والإطاحة بكل المعارضين، في عملية بروباغندية (دعائية) غير مسبوقة للنظام السوفييتي الثوري الجديد.
اتّسم العمل بترسيم أبعاد هندسية وترقيمية قياسية دقيقة تتغذى من التيار السيادي (عدم التبعية للنفوذ والمفاهيم السائدة) عبر إعادة تصفيف وتنظيم الفضاء التشكيلي باستبعاد الزخرفة والنقوش المعروفة في أغلب الأعمال التشكيلية، بتصميم سلم فريد من نوعه، يخترق المساحة الكرتونية من الأسفل إلى الأعلى ومن اليمين إلى اليسار في ميلان متدرج منتظم وبإدماج عناصر تقنية أكسسوارية آلية وميكانيكية مثل المصعد الآلي والبوابات المتحركة والمنصة البلورية العازلة، ما يمثل نمطا فنيا مجددا، اعتمد في الأساس على عدد من أشكال التكعيبية المستقبلية منها بالخصوص المربعات التي تذكرنا بثورة مالفيتش الحداثية (مربع أبيض على خامة بيضاء) وهو شعار الحركة الشعاعية ( Le rayonnisme) خاصة في أعمال الصباغة، مع تخصيص خانة علوية في شكل لافتة كتب عليها بالخط الروسي كلمة بروليتاريا.

تميز العمل بالتخلي الكلي عن الضرورات الفنية السابقة وبفخامة الخصوصية الجمالية الحضرية السوفييتية وضخامة المقاييس المعدة أساسا لغرض الإنشاء والبناء على أرض الواقع لتدعيم السياسات الفنية والثقافية البلشفية الجديدة في مجتمع ما بعد الثورة. جمعت هذه الخصوصيات فنون الرسم والصباغة والتصميم والمعمار، إلى جانب حضور المجسمات المنحوتة. كل هذه الخصائص مثلت أوج الحركة التشكيلية البنائية، وفترة أوجها في عصرها الذهبي، لاسيما في بدايات الشيوعية التي تزامنت مع الثورة البلشفيّة، التي قادها لينين سنة 1917، فعبرت عظمة الإنجازات وتفردها – خاصة بقطعها مع التأثيرات الجمالية التقليدية وبالتخلي عن الواقعية الإجتماعية السائدة – عن رغبة كبيرة في إعادة إحياء الأمة الروسية، والوصول بها إلى مراتب متقدمة أمام تعاظم تأثير الحركة الفنيّة الأوروبيّة منذ التاريخ القديم ممثلة في أثينا وروما، إلى الوسيط مع انبلاج فجر كونية الفنون الإيطالية من فلورنسا وروما، مرورا إلى تأسيس الفن التجريبي الحداثي بسيطرة تشكيلات الفنون العصرية الريادية الفرنسية والأوروبية. أدى هذا الوضع الأممي المتوتر إلى نمو فنين طليعيين متوازيين هما: الأوروبي الذي ازدهر في كفة والروسي في كفة أخرى.
عمل كل من التيارين ونما في حقله الذي ميزه، بحيث أن نجاح البنائية الروسية ولد من اختلافها الجذري شكلا ومضمونا مع التيارات الفنية الأوروبية، من ذلك الاعتماد الكلي على الأشكال الهندسية الصارمة والدقيقة وتثمين العودة إلى البركار والكوس والمنقلة، الذي خلق شساعة وحركية في اللوحة وحضور البعد المستقبلي الديناميكي المتحول، مع تضمين عناصر تكنولوجية رائدة وإدماج عدد مختلف من التقنيات التشكيلية والمعمارية، منها التحول من نقطة التلاشي الواحدة إلى النقطتين فالثلاث نقاط، وتجاوز البعد الثنائي بالمرور إلى البعد الثلاثي باعتماد القياس المحوري ذي القطرية المتعامدة (45 درجة) وتحويل المشهد الأول (الرئيسي) من الأسفل إلى الأعلى (المنبر المعلق) والعودة إلى اعتماد الألوان الأولية الحارة مثل، الأصفر والفارقية الظلية والنورية مثل الأبيض والأسود. من جهة أخرى تميز العمل بإدماج عدد من التقنيات في مشروع التصميم (الأرسومة، التصميم، الصباغة، الهندسة) وإدماج عدد من الخامات في مشروع التنفيذ (الفولاذ، الإسمنت، الزجاج، الخشب).
بهذا العمل الذي مزج بين القطيعة والانتماء استطاع لزهر الليسيتسكي أن يبني نهضة خاصة، وأن يصبح فنانا عالميا رائدا في مجال المنشآت والابتكارات الهندسية، التي تتميز باختلافها عن الواقع وبديناميكيتها، غير أن العمل حافظ على طوباويته وبقي في مرحلته الورقية، شأنه في ذلك شأن عدد من التصميمات الروسية الريادية المعروفة مثل، برج تاتلين الذي تم إنجازه في 1919، ويعود ذلك لثلاثة عوامل رئيسية:
– الإفراط في العدمية الواقعية التي ترفض الواقع وتعمل خلافه، وهو ما يتطابق مع العدمية القيمية والروحية، التي تبثها الشيوعية النافية للمفاهيم الفردية والإنسانية.
– التورط في المنحى الدعائي البروباغندي الداعم للسلطة البلشفية في كل سياساتها وخياراتها، ثقافيا واستراتيجيا وسياسيا، ما يجعله عملا بلاطيا منحازا مسلوب المصداقية والجمالية.
– التمسك بالبعد السيادي الفوقي المتعالي المصر على الاختلاف والتشدد، بتأثير من بعض التوجهات الراديكالية مثل، تيار ذيل الحمار المتجذر، ما خلق قطيعة عدائية مع الجماليات الأوروبية، وانسلاخ العديد من الحركات منها المدرسة الشعبية التي أسسها العالمي مارك شاغال والسيزانية التي تعود إلى بول سيزان، حتى إن الطليعية الروسية لم تصمد أمام نظيرتها الفرنسية إلا طيلة سنوات حكم لينين (1917-1924).
اندثرت الحركة البنائيّة بتولي ستالين مقاليد الحكم في الفضاء السوفييتي، نظرا لاختياره تيار الواقعية الاجتماعية، الذي يتغذّى من المشاهد البطولية البروليتارية، وتشخيص أحداث الثورة وتوظيف بعض المواقف السياسية الحزبية ليسقط الأخير من جديد في طوباوية أخرى.

كاتب تونسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية