الحداثة والمرايا المقعرة

لعل من أبرز معاني الحداثة الغربية، كما فهمها أو تمثلها العرب، في بداية المد الحداثي في الوطن العربي، هو القطع النهائي مع التراث العربي معرفيا، لأن هذا الأخير، بكل بساطة، لم يعد سوى ضرب أو أمر من شؤون الماضي. هذا يعني أن الحداثيين العرب، كما يقول عبد العزيز حمودة، وضعوا «تراثنا البلاغي أمام مرايا مقعرة صغرت من حجمه»(المرايا المقعرة. سلسلة عالم المعرفة-الكويت).
إن موقفا كهذا هو استصغار حقيقي للتراث العربي عامة، وهو بذلك يشبه المرايا المقعرة، التي تعكس بشكل مصغر كل ما يوضع أمامها. والحق إن تراثنا العربي، بقدر ما يحمل في تضاعيفه المظلمة نفايات يستحيل إعادة تدويرها، حتى تغدو صالحة للتمثل في وقتنا الراهن، يحمل كذلك، في تضاعيفه المشرقة بذور فهم الحاضر من أجل التشوف إلى المستقبل، لذلك فإن تعصب الحداثي العربي للحداثة الغربية، بشكل مفرط، هو شبيه بذاك الرجل التقليدي، الذي يضخم من التراث الثقافي العربي بشكل عام، ويبالغ في تمجيده، إلى درجة أنه يصبح أسير عماء قاتل، يطوح به في التطرف، إذ كيف لأعمى أن يقود بصيرا؟
طيب، هل الحداثة الغربية، التي هي أصل الحداثة في العالم بأسره، كما يزعمون، نزلت من السماء؟ ألم تكن استمرارا لموروث فكري وثقافي عالمي، ساهمت فيه الحضارات الإنسانية كلها، وبالتالي ينبغي عدم تجاوزه أو القفز عليه، بما هو تراث ما زال يعيش في الطبقات السفلى للحداثة، في العلم كما في الفلسفة أو الأدب، وقس على ذلك باقي مجالات المعرفة؟ وهل الحداثة الغربية هي حداثة اليابان أو الهند أو الصين؟
إن الحداثة حداثات، بحيث إن معظمها، يتميز بخصوصيات محلية، أفرزها التراث المحلي لكل بلد. الشيء الذي يعني أن حضور التراث في الحداثة، بشكل أو بآخر، مسألة حتمية وتاريخية. لذلك أتصور الحداثة وما بعدها، مثل حبات عنقود ممتد في التراث (الشجرة) بحيث لا تستطيع العيش إلا بالاتصال معه، تواصلا وتفاصلا، بما يضمن لكل واحد منهما خصوصيته وتفرده. حضور التراث في الحداثة، على هذا النحو، هو حضورٌ فيزيائي لا كيميائيا، أي أن العلاقة بينهما هي علاقة «سؤال وجواب» بتعبير غادامير، حاضر يسائل الماضي. لقد أثبتت التجارب أن الإنسان، بطبيعته، لا يمكنه البتة العيش دون مرجعية أو ماض، مهما كانت طريقة نظرته لهذا الماضي. العيش دون ذاكرة عماءٌ، وغياب للمعنى، الذي يعتبر السر الأوحد وراء صراعنا مع الطبيعة، من أجل البقاء والاستمرار، لدرجة أنه يمكننا الجزم بأن الحقيقة الكبرى، والوجود الأمثل، إن كان هناك مثال، في هذه الحياة، هو المعنى الذي لا فكاك له عن الذاكرة. ومع ذلك أتصور في المقابل، أنه ليس كل ما يأتينا من الماضي، صالحا لكل مكان وزمان، بل إنه بقدر ما في التراث أشياء صالحة وسمينة، فيه الطالح والغث أيضا. قد يقول قائل إن الثقافة العربية، في عمومها، ثقافة تأسست بمحاذاة العقل، إلا أنه ينبغي الاعتراف، مع ذلك، بأن ثمة جوانب مشرقة، فيها، تحتاج إلى قراءات جديدة ينبغي استثمارها والاستفادة منها. وفي هذا الصدد يؤكد المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري، أن الحداثة «لا تعني رفض التراث، ولا القطيعة مع الماضي، بقدر ما تعني الارتفاع بطريقة التعامل مع التراث إلى مستوى ما نسمّيه بـالمُعاصَرَة، أعني مواكبة التقدم الحاصل على الصعيد العالمي» (التراث والحداثة. دراسات ومناقشات. محمد عابد الجابري).
في المجال الأدبي العربي، غالبا ما قُدّمت الحداثة بوصفها فصلا عن التراث وقطعا معه. وهذا لعمري ما جعلنا نعيش خارج الحداثة والتراث معا، فبالأحرى أن نتحدث عن مشروع ما بعد الحداثة، الذي هو مشروع فكري/ثقافي، خرج من رحم الحداثة الغربية بسياقاتها الخاصة، بشكل طبيعي ومعقول، فالنقد الأدبي العربي الحداثي، مثلا، قطع مع التراث النقدي العربي بشكل تام، وأفاد بالأساس، من التيارات الفكرية، والمناهج النقدية الحداثية كالبنيوية والتفكيكية والسيميائيات وغيرها، دون أي مساءلة نقدية لها، كأن يسأل مثلا، عن السياقات الاجتماعية والفكرية والثقافية التي أنتجتها، وهل هذه المناهج تلائم طبيعة النص الأدبي العربي، الذي خرج من رحم سياق سوسيو ثقافي مختلف تماما.. والنتيجة هي أن النقد الأدبي العربي الصادر عن هذه الخلفيات الفكرية، تحول إلى غابة تخفي معاني النصوص الإبداعية، لأنه (النقد) بدل أن يخوض في النص بوصفه كينونة عربية أصيلة، لها خصائصها وشروطها، قام بطمس معالم هذا النص، بتركيزه على ثنائيات لغوية تقول كل شيء إلا النص.
أدونيس نفسه، وهو الذي أقام الدنيا وشغل الناس، كان أكثر تطرفا، في فهمه ونقله للمشروع الحداثي الغربي إلى الثقافة العربية ومنها الأدب، لأنه تلبس أكثر من غيره، بروح ثقافة الانقطاع الكلي عن التراث، بما في ذلك الدين نفسه. وفي هذه النقطة أقول، لنفترض، وهذا فيه نقاش، أن الحداثة الغربية جاءت لكي تقطع مع الدين، وتقتل الإله (نيتشه) والإنسان (بارت) فعلينا أن نستحضر، كعرب مسلمين، أن سياق هذه الحداثة هو غير سياقنا الثقافي والحضاري، وهذا ما لم ينتبه إليه، للأسف أدونيس، أو بالأحرى تجاهله. إن ميولا كهذه هي حدث يشبه ذاك الرجل الذي أخذ السمك من البحر ورمى به في النهر، دون اعتبار للاختلاف البين بين خصوصيات البحر والنهر. والقاعدة الرياضية واضحة في هذا المجال، فالمقدمات المختلفة تعطي نتائج مختلفة، وربما متناقضة أحيانا. فلو كانت اليابان والصين والهند وغيرها من الحضارات الناجحة، قد فهمت الحداثة الغربية بالفهم الأدونيسي، لما استطاعت أن تصل إلى ما وصلت إليه الآن، لأنها بكل بساطة، ستسقط في التقليد والتكرار والاجترار، مع العلم أن جوهر الحداثة، يقوم على الإبداع والاختلاف والمغايرة والحرية.
كنت أتمنى أن يتوقف أدونيس عند رفضه للمفاهيم والتأويلات التي وصلتنا عن الدين فقط، بحيث سيصبح موقفه مبررا ومقبولا. لكن أن يجمع بين الدين، كنص مقدس عند المسلمين، وما أنتجه العقل العربي الإسلامي من فهم وتأويل لهذا النص، في سلة واحدة، فهذا ازدراء لا تبرير له، بل يتنافى مع العقل الحداثي الغربي نفسه، الذي يدعو إلى التسامح والتعايش واحترام الرأي المخالف. أدونيس، بموقفه المتطرف هذا، يتناسى أن الحداثة الغربية لم تكن البتة، في يوم من الأيام، موقفا معاديا للدين في ذاته، وإنما هي رفضت طريقة تعامل الناس معه، بتقديسهم لكل ما أنتجه الكهنة والمؤولون والمفسرون من شعائر وطقوس وتأويلات، جعلت البشر عبيدا، وأصبحت الحياة، من ثم، نكوصية تتحكم فيها الخرافة، بما يجعل الفرصة سانحة للاستغلال والاستعباد. ولنا في الحداثة الإنكليزية أو الألمانية، خير مثال على ذلك. الطريق نفسه سيسلكه الناقد كمال أبو ديب، في فهمه للحداثة.. فهما يتأسس على ثقافة الشرخ ومنطق الانقطاع الإبستيمي. فمن ضمن ما كتبه هذا الرجل عن الحداثة قوله: «الحداثة انقطاع معرفي ذلك أن مصادرها المعرفية لا تكمن في المصادر المعرفية للتراث، في كتب ابن خلدون الأربعة أو في اللغة المؤسساتية والفكر الديني وكون الله مركز الوجود.. الحداثة انقطاع لأن مصادرها المعرفية هي اللغة البكر والفكر العلماني (اللاديني) وكون الإنسان مركز الوجود وكون الشعب الخاضع للسلطة مدار النشاط الفني وكون الداخل مصدر المعرفة اليقينية إذا كان هناك معرفة يقينية» (الحداثة/السلطة/النص، مجلة فصول).
هذا الفهم ومشتقاته الأخرى، من الترجمات السيئة والرديئة للحداثة الغربية، استفز كثيرا صاحب كتاب «المرايا المقعرة» عبد العزيز حمودة، ودفعه إلى الإقرار بأن الحداثة العربية، حداثة معطوبة منذ ولادتها، لأن انبهارها المفرط بكل ما ينتجه الفكر الغربي في المصانع الأوروبية والأمريكية، جعلها تقسو على التراث الفكري والأدبي العربي، وتتهمه بكونه تراثا دون مستوى ما تحقق عند الغرب، الشيء الذي جعلها تقع أسيرة قيود التبعية للثقافة الغربية. وهي مفارقة مضحكة ومبكية في آن واحد على حد قوله. حاصل القول إن ما يميز حداثتنا العربية، في عمومها، هو عقلية الانقطاع ومنطق الشرخ، بما هما ثقافة قاسية تنفي فيه الأطراف إلى الذاكرة التاريخية، بحيث لا تستعاد إلا بوصفها فلكلورا أو دليلا على تفوق الغرب وقدرته على نفي الآخرين وإبادتهم، كما يقول إلياس خوري (انظر المرايا المقعرة). باختصار شديد، إنها ثقافة تضع التراث والذاكرة أمام مرايا مقعرة.. مقعرة جدا.

شاعر وناقد مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول محفوظ:

    مقال جيد و جدير، و أضيف ان الحضارة و التي من مفراداتها الحداثة ما هي إلا نتاج تفاعل تراكمي لكل ما سبق من ثقافات و مروث إنساني . و ما نشهده الان من احتدام بين نظرات مختلفة للثقافات في الوقت الراهن ما هو إلا جزء من صراع الحضارات، كما كان و سوف يبقى على مر الأزمان، حيث أن هذا الصراع ما هو إلا صورة من صور العود الابدي للتاريخ..
    و لكم جميل التحايا

  2. يقول S.S.Abdullah:

    جميل جداً، أحسنت

اشترك في قائمتنا البريدية