يعترف الجميع للمرأة الجزائرية بمشاركتها الفعالة والنوعية في الثورة التحريرية، والأمر لا يتعلق فقط بالرموز الثورية التي اشتهرت في الإعلام العالمي وانتقلت إلى الأدب والسينما والرسم وغيرها، بقدر ما يتعلق بالنساء البسيطات والأميات في الأحياء الشعبية الفقيرة والقرى البعيدة، ولم يكن دورها محصورا في الزغاريد عند سقوط الشهداء بطبيعة الحال. فقد حملت السلاح وصعدت إلى الجبال لتحرر أرضها، فضلا عن التمريض والطبخ وما إليها.
حلم الاستقلال
لكن بتحقيق حلم الاستقلال أغمطت المرأة الجزائرية حقها، خاصة على المستوى السياسي. وعادت لتزاول أعمالها وأنشطتها في الإطار التقليدي المتعارف عليه داخل الأسرة والمجتمع، مستسلمة لهيمنة العرف والتقاليد والسياق الاجتماعي والثقافي المهيمن آنئذ.
تروي الأفواج الأولى من النساء اللواتي خرجن إلى سوق العمل، خاصة في مجال الوظيف العمومي، الذي كان التعليم والصحة أهم روافده قصصا عن النظرة المريبة التي كان المجتمع ينظرها إليهن.
ومع الوقت تزايد عدد النساء العاملات وطالبات الجامعات والثانويات خاصة في القطاعات العمومية، وقلة قليلة من استطاعت بناء مؤسسات ومشاريع خاصة وناجحة، ومع هذا، فقد حقّق لها ذلك العمل استقلالية مادية ومكانة اجتماعية بالنظر إلى التحول التدريجي والقبول الذي حظيت به.
ولكن السؤال الذي يراودنا على الدوام هو : هل حصلت المرأة على حريتها وذاتها واستقلاليتها الفعلية من خلال المردود المادي الذي أصبح بحوزتها؟
تشير الكثير من النساء العاملات إلى أنّ نعمة العمل كثيرا ما تتحول إلى نقمة، بل إلى نوع من العبودية الجديدة، خاصة بعد الزواج والإنجاب وما يترتب عنه من مسؤوليات واختلافات، تضطر فيها المرأة لتقديم تضحيات مريرة وتنازلات تنخر كيانها وشخصيتها، فضلا عن الإرهاق الذي يمتص قدراتها الجسدية والنفسية، في ظل الهيمنة الذكورية التي تكرّس خدمة المرأة لزوجها وأهل بيتها وغياب عنصر التعاون والمشاركة داخل البيت، كما أن مفهوم الفحولة بالنسبة للمرأة مازال خاضعا للنظرة التقليدية، من منظور أنّ تفوّقها العلمي والإبداعي لا يثمن بقدر ما يثمن الدور القديم (الطبخ والخياطة) الذي يتخذ من البيت فضاء له.
وهكذا تكرّست تلك النظرة المتشككة والمرتابة الممزوجة باللامبالاة المقصودة التي يقابل بها المجتمع النجاح العملي للمرأة، فضلا عن أنّ النساء كذلك ساهمن في تكريس التبعية لآبائهن أو إخوانهن أو أزواجهن.
وبحكم التركيبة العاطفية للمرأة وتربية التضحية والعطاء التي تلقتها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، فقد صارت تساهم في الحياة الاقتصادية للأسرة بطريقة فعّالة، دون أن يكون لها الحق في الملكية، فعادة ما يكون السكن أو السيارة باسم الأزواج، إذ تقضي المرأة سنوات عمرها في العمل دون أن تمتلك وثيقة تثبت ملكيتها .
بينما تعود الكلمة الفصل للأصنام المنزلية التي تتحكم في حركاتها وسكناتها بحجة وبأخرى، مستندة على تبريرات دينية هي في الأصل وليدة العرف والوراثة الاجتماعية. كما ساهمت حركة الإسلام السياسي في تغييب المرأة عن مجرى الحياة الفعلية بتحويلها إلى كائن مستنزف تهيمن عليه الانهزامية والاستسلام بحجة إنقاذ الأسرة.
وبسبب تضافر عدة معطيات لم تتمكن المرأة ـ على العموم ـ من تطوير ذاتها في إطار الأفكار الحرة والديمقراطية التي تضمن إيجاد آلية لإدارة الحقوق والواجبات التي تكفل للمرأة كرامتها وشعورها باستقلالها الذاتي وبإنسانيتها كطرف أساسي في الفعل السياسي والاجتماعي، وظلت بعيدة عن قيم العدالة والمساواة .
قيم العدالة والمساواة
ما أريد قوله هو : هل سيعيد الحراك السلمي الذي انطلق يوم 22 فبراير/شباط وعززته النساء يوم 8 مارس /أذار بتأثيثهن للشارع في المسيرات الشعبية الساعية إلى إزالة الأصنام التي ظلت تحكم الحياة السياسية في الجزائر منذ أكثر من عقدين بل منذ الاستقلال، إلى تآكل الأصنام المنزلية الجاثية على صدور كثير من النساء؟
ما أدى بي إلى طرح هذا التساؤل، ليس فقط خروج النساء إلى الشوارع في إطار الحراك السلمي المنادي بقيام دولة حرة وديمقراطية، وبعودة الفاعلية للمجتمع المدني وبانتظام حقوق وواجبات المواطنة، التي من ضمنها حقوق وواجبات المرأة التي هي طرف في معادلة التغيير، لا يمكن التغاضي عن دوره. بل أيضا ردود بعض النساء ومنعهن من قبل ذويهن ـ خاصة في المناطق الداخلية وفي الجزائر العميقة ـ من المشاركة في هذا الحراك والتعبير عن رفضهن للاستبداد والفساد في مختلف مستوياته.
لقد استعادت المرأة فضاء ظل إلى وقت قريب حكرا على الذكور، وهي خطوة هامة في طريق التغيير الذي لن يتحقق إلا بتماشي الذهنيات مع المعطيات الجديدة التي أفرزها الحراك السلمي والقيم التي نادى بها.
وإذا كان الكثير من الملاحظين ينتظرون ظهور شخصيات سيفرزها الحراك لتأطير عمله، فلابد أن تكون بينهن نساء قياديات قويات وواعيات في إطار المساواة والحرية المسؤولة. وهذا طبيعي جدا بالنظر إلى مساهمة النساء؛ طالبات وسيدات وأمهات وجدات يصرخن بأعلى أصواتهن طلبا للتغيير وبرحيل عصابة الفساد، وبتعبير آخر فهذه الجموع ترفض بطريقة أخرى كل أشكال الوصاية والوصم بالنقص الذي ظل يطال المرأة بتواطؤ بين المستبد السياسي والرقيب الاجتماعي، اللذين تحالفا لتقزيم القدرات والكفاءات التي تتمتع بها النساء، عن طريق تفعيل آلية الترويض داخل الذهنية التقليدية التي ترى النجاح الحقيقي للمرأة في بيتها.
وهذا هو الدور المنوط بالمواطنين نساء ورجالا القيام به، بإشاعة القيم الديمقراطية داخل الأسرة، لإعادة النظر في الميراث الاجتماعي الذي مازال يقصي المرأة من الحياة الفعلية (سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وفكريا) ليحشرها داخل زاوية ضيقة.
تشير الإحصاءات إلى أنّ نسبة النجاح في البكالوريا تحوز عليها الطالبات، كما أنّ إقبال النساء على سوق العمل في تزايد، إلاّ لأنّ هذا النجاح أفضى إلى ظهور نوع من الازدواجية في شخصية المرأة القوية في العمل والضعيفة في البيت.
على المستوى السياسي، نلاحظ أنّ عدد البرلمانيات أيضا قد تزايد، ولكن ذلك لم يتم عن وعي بدور المرأة، فلم يكن الأمر سوى لذر الرماد في العيون والاستفادة من عدد الأصوات في الانتخابات ولشراء الذمم، فلم يكن التمثيل يعني شيئا لبقية النساء بقدر ما كان منفعة شخصية وامتيازات تحصل عليها النائبات ـ إلا في حالات قليلة ـ
في الأخير أرى أنه على النساء الاستفادة من هذا الحراك، بتطوير ذواتهن والتحرر من الوراثة الاجتماعية، لتعزيز الاستقلالية وبناء شخصية المرأة التي يتولى القانون حمايتها والتعامل معها كراشدة لتصير مواطنة وليس «وليّة» كما يسميها الجزائريون.
* كاتبة من الجزائر