لم أكن أتوقع وأنا متوجه نحو وسط العاصمة الخميس الماضي، وهو اليوم المصادف للذكرى الخامسة للحراك الشعبي في الجزائر (22 فبراير/شباط 2019) أن أشاهد ذلك الإنزال الأمني الكبير الذي كان حاضرا ينتظر المواطنين وهم يتفسحون في شوارع العاصمة كعادتهم في بداية العطلة الأسبوعية.
ورغم أن الهدوء كان شاملا في هذا الجو الربيعي الذي يسود شتاء العاصمة هذه السنة فإن الحضور الأمني لهو دليل إضافي على الخوف الذي مازال يعتري السلطات العمومية في علاقتها بالحراك، كما أشرت الأسبوع الماضي، دون أن أتوقع أن الخوف يمكن أن يصل الى هذا الحد الذي أنهك المؤسسة الأمنية التي عانت ضغوطا كبيرة لمدة سنوات أثناء فترة الحراك الطويلة التي شهدتها أغلبية المدن الجزائرية وقبلها سنوات الجمر التي عاشتها الجزائر.
خوف لم أجد تفسيرا له إلا ذلك العجز عن فهم ما يحصل في المجتمع الجزائري من قبل نخب بعيدة نفسيا وسياسيا عن مجتمعها، لا تملك مؤسسات وأدوات الفهم والنية في إنجاز التغيير المطلوب شعبيا. من دون معرفة بسنن تسيير المجتمعات والقوانين التي تتحكم فيها تفشل كل مرة في توقع ما يحصل في مجتمعها. فإما إنها لا تنتظره عندما يكون على الأبواب، كما حصل في 2019 وإما إنها تتصوره حاضرا في كل شارع وساحة، كما كان الأمر يوم الخميس في العاصمة.
نخب حاكمة ازداد خوفها من الحراك ومطالبه في المدة الأخيرة حتى بعد توقف المسيرات منذ مدة طويلة لأنها من دون حلول للقضايا التي طرحتها هذه الهبة السلمية التي قام بها الجزائريون، فالعجز عن الفهم وإيجاد الحلول هو الذي يجعل هذه النخب خائفة أكثر وهي تتوقع أن الجزائر ستعيش كل يوم حراكا جديدا. خوف مازال يعبر عن نفسه في الاعتقالات التي يتعرض لها المواطنون، وفي التضييق على حريات الجزائريين الفردية والجماعية، وفي الغلق الذي ما زال يميز الحالة السياسية والإعلامية، منذ توقف مسيرات الحراك، وصل في المدة الأخيرة كما أخبرني به أحد الشباب من المتعودين على التوجه لملاعب كرة القدم الى منع أهازيج وأغان بعينها في الملاعب، كما كان الأمر مع «ناس البهجة» المتعودين على تنشيط مقابلات الفرق العاصمية المعروفة كالمولودية واتحاد العاصمة.
النخب الحاكمة ازداد خوفها من الحراك ومطالبه حتى بعد أن توقفت المسيرات منذ مدة طويلة
يحصل هذا في وقت فشلت فيه الوجوه الحاكمة في إقناع المواطنين بالتغيير الذي تروج له تحت مسمى الجزائر الجديدة في الداخل والخارج، من قبل آلة إعلامية غير فعالة، لم يعد يستمع لها أحد، تُدار من قبل نخب سياسية وإعلامية مستهلكة، لا يمكن التعويل عليها في إقناع الجزائريين الذين تشبعوا بقيم الحراك السلمي الذي آمنوا وتأثروا به في حياتهم بشكل لا يصدق.
وصل عمق تغييره الى العلاقات الإنسانية بين الرجل والمرأة داخل نواة الأسرة نفسها، عبرت عنها حالات طلاق كثيرة وانفصال بين الأزواج لاختلاف المواقف من الحراك التي ظهرت بين الزوجين. قد تكون أكثر حضورا عند المرأة وهي تعيد النظر في علاقاتها الاجتماعية، بما فيها الزوجية وهي تكتشف عالم الحراك الذي غيّر في الكثير من مواقفها، وقناعاتها وعلاقاتها في اتجاه أكثر حرية، لم تعد قابلة التنازل عنه حتى في علاقاتها الحميمية داخل عائلتها وبين أقرب الناس اليها. لتعبر في حالات أخرى على شكل حالات ارتباط جديدة على أرضية الحراك الذي كون لحظة مهمة في حياة الكثير من الجزائريين من الذين عاشوا يومياته بعمق. جعلتهم يدخلون في علاقات إنسانية وسياسية جديدة أثرت بعمق على خارطة علاقاتهم الاجتماعية التي توسعت لتشمل مجمل التراب الوطني في تجاوز لمنطق الجهة الذي كرسه النظام السياسي بعد الاستقلال. وخاف كثيرا عندما أراد الجزائريون تجاوزه والقفز عليه، بمناسبة المسيرات الوطنية التي عرفتها المدن الكبرى، كما حصل في العاصمة على سبيل المثال، فتعمّق تأثير الحراك على الجزائريين الذي فشلت النخب السياسية الرسمية في فهمه والتعامل معه إيجابا وهي تحاول إقناع نفسها بأن الحراك قد انتهى من خلال مؤشر توقف المسيرات الذي تخلط بينها وبين الحراك الأكثر شمولية وعمقا. فالمسيرات – وقد توقفت أثناء جائحة كورونا وعادت – يمكن أن تتوقف لكن الحراك مستمر في وجدان ملايين الجزائريين الذين عاشوه كتجربة جماعية فريدة ليسوا على استعداد للقطع معها مهما كانت الظروف. يمكن أن يعودوا اليه حسب ما تقضيه قوانين وسنن تسيير المجتمعات وليس حسب هواجس البيروقراطية المعزولة عن مجتمعها التي تتحمل وحدها مسؤولية تعثر الحراك وهي تفوت على الجزائريين فرصة إصلاح نظامهم السياسي الذين عجزوا عن إصلاحه لعقود. جربوا معه كل الوسائل السلمية والعنيفة دون أن يتمكنوا من ذلك. نظام سياسي يمكن أن يتحول الى خطر على الدولة الوطنية ذاتها في وقت تعيش فيه الجزائر حالة اضطراب على كل حدودها تسجل فيها ضغوط من كل نوع.
كما أثّر الحراك في حياة الجزائريين الملتفين حوله، نجده حاضرا كعامل تفسير كذلك في مواقف وسلوكيات الذي عادوه ووقفوا ضده. كما يعبر عن الخوف من الحراك الذي نجده حاضرا عند الفئات التي استفادت من النظام – قد يكون حاضرا بشكل أكبر عند الذين ينتظرون الاستفادة وهم على طابور الانتظار الطويل – على مستوى تلك العلاقات التي أقامتها بيروقراطية الدولة ونخبها مع مؤسسات النظام بطابعه الريعي المعروف، بكم العزلة التي أنتجها على مستوى سلوكيات هذه النخبة التي ربطت مصيرها الشخصي والعائلي بمؤسسات النظام الذي يتكفل بكل تفاصيل الحياة عند هذا الكائن البيروقراطي، منذ الالتحاق بمؤسسات النظام المختلفة لغاية الوفاة.
كما غدا شائعا في السنوات الأخيرة ونحن نشاهد كيف أصبحت مؤسسات الدولة تتكفل بجنازة المسؤول في أدق تفاصيلها، بدل الأهل والعائلة، مرورا بالسكن العائلي في إقامات الدولة، زيادة على منح الأطفال التي توفرها وزارات التعليم بالعملة الصعبة لأبناء هذه البيروقراطية التي تعاملت مع الحراك كتهديد لمصالحها التي تريد ضمانها لأجيال، بعد أن نوعت في أشكال الاستفادة من ريعه، تعلق الأمر بالقطاع العام الذي تربت فيه كقاعدة اقتصادية وشبكة علاقات أو القطاع الخاص الذي استمر المنطق الريعي هو السائد داخله. كما تبينه حالةُ التوسع التي عادة ما يختارها رجال النظام في القطاع الاقتصادي الذين كانوا قد انطلقوا منه في القطاع العام وهم يتوجهون لبناء مصالحهم الجديدة في القطاع الخاص التي طوروها اعتمادا على منطق الجهة والقرابة والمصاهرة.
كاتب جزائري
الشعب الجزائري مشغول ببناء بلده ويناء اقتصاد قوي