تكثف الولايات المتحدة حضورها العسكري في الشرق الأوسط عبر سفن قادرة على تنفيذ إنزال بري على الشواطئ الإيرانية. إحدى حاملات الطائرات الأمريكية تمخر المياه في المنطقة. مقاتلات وقاذفات هجومية استراتيجية وبطاريات باتريوت وصلت مؤخرا، وكأنها تتأهب لمعركة حاسمة.
تهدد طهران بدورها مصالح واشنطن وحلفائها، وتتوعد بإغلاق مضيق هرمز، إن هي لم تستطع تصدير نفطها. أدواتها في سبيل ذاك الوعيد، ذراع صاروخية تطال الأراضي السعودية والإماراتية وإسرائيل أيضا، وقوة عسكرية لن تعجز رغم ضعفها عن إغلاق المضيق عند الحاجة، عدا عن وكلائها المنتشرين في كل من العراق وسوريا ولبنان واليمن.
أجواء مشحونة
وسط أجواء مشحونة ومتوترة كتلك، تعلن أبو ظبي والرياض عن حوادث تخريب تطال بضع سفن وناقلات نفط. ما رشح عن الجانبين من تفاصيل تلك العمليات ضئيل بما يكفي لإثارة الكثير من التساؤلات، وعدم توجيه أصابع الاتهام لأي جهة يجعل المشهد أكثر ضبابية! في حين تبدو واشنطن مترددة حتى في تحميل وكلاء طهران المسؤولية عن الهجمات!
قد تشير الأصابع إلى الإرهاب وخصوصا «القاعدة»، أو إيران ومن خلفها حلفاؤها. يريد التنظيم استغلال الأجواء المتوترة، وله مصلحة ربما بحرب تنخرط بها الولايات المتحدة، كما معاقل التطرف على طرفي خط الصدع السني الشيعي الملتهب منذ عقد أو يزيد. احتمال وارد لكن ضعيف!
تقوم طهران بتنفيذ تهديداتها عبر عرقلة -وليس منع- تصدير الخام عبر المضيق. احتمال يبدو أكثر ترجيحا! فاعتداءات كتلك الأخيرة، يسهل على طهران إنكار المسؤولية عنها، ولا تحرج في الوقت نفسه واشنطن -وحلفاءها في الخليج- أو ترغمهم على رد عسكري في حال لم تتوفر لدى الأخيرة رغبة بالتصعيد. يدعم تلك الفرضية استهداف الحوثيين مؤخرا لخط الأنابيب الذي يسمح بتصدير ما يقارب نصف الإنتاج السعودي من النفط، عبر البحر الأحمر، ودون الحاجة إلى المرور في مضيق هرمز. وكأن طهران تهدد عبر وكلائها برفع كلفة أي تصعيد عسكري. ليس على الرياض فقط بل على واشنطن في المقام الأول، كنتيجة لصعود درامي في أسعار الخام بعد خروج كامل الإنتاج السعودي إضافة لدول خليجية أخرى من الأسواق.
يكفي ذلك لإثارة حنق حلفاء أمريكا وأعدائها على حد سواء، ورفع التكلفة السياسية إضافة إلى الاقتصادية لأي مغامرة عسكرية بهذا الحجم، سيما أنها لا تحظى بشرعية دولية سواء عبر قرار من مجلس الأمن أو تحالف للراغبين، كما لا تكتم كبريات القوى الأوروبية موقفها المعارض لأي تصعيد متهور لا تحمد عقباه.
قد يرى البعض في حشد الأساطيل الأمريكية تعبيرا عن إرادة سياسية بتنفيذ هجوم مبيت على الأراضي الإيرانية، يبدأ بذريعة مفبركة، وتعقبه ضربة جراحية تقتصر على تدمير بعض المفاعلات ومختبرات الأبحاث النووية الإيرانية، بما يضمن تأخير البرنامج النووي الإيراني لسنوات طويلة دون القضاء عليه نهائيا. لكن مع الأخذ بعين الاعتبار سأم أمريكا وشعبها من الحروب، ووعود ترامب الانتخابية ونزعته لسحب الجيوش الأمريكية المنتشرة في بعض المناطق الساخنة، وتركيز الاستراتيجية الأمريكية للأمن القومي والبنتاغون على حشد الطاقات في مواجهة الصعود المتسارع للتنين الصيني وردع الدب الروسي الذي استفاق من غفوته، تتضاءل حينها فرص هذه الفرضية.
ضغوط البيت الأبيض
إذ لا يمكن القول بها إلا في حال كان الأمريكان على قدر كبير من الثقة -التي لا نعتقد بتوفرها-، بقدرتهم على احتواء الموقف وضمان عدم خروجه عن السيطرة باتجاه حرب إقليمية قد تتجاوز حدود المنطقة، وتتسبب بحرائق كبرى. كما يضعف في سياق الأحداث، وتحاشي كل من السعودية والإمارات اتهام إيران حتى الآن، احتمال قيام الأخيرتين بفبركة العمليات التخريبية ضد السفن وناقلات النفط أملا بجر واشنطن إلى حرب ستكون أبو ظبي والرياض أول وأكثر المتضررين منها. القصف الحوثي بدوره، يقلل من الزعم القائل بتدخل أصابع إسرائيلية في المسرح الخليجي لاختلاق ذريعة تبرر هجوما على إيران، قد تشارك به تل أبيب إلى جانب حلفائها الأمريكيين.
يوحي السياق الراهن بممارسة البيت الأبيض لسياسة أقصى الضغوط الممكنة، ومن ثم إرغام الطرف الآخر على المفاوضات حسب شروطه. أي كما هو الحال في الملف الكوري الشمالي، أو على صعيد آخر في المفاوضات التجارية مع الصين والاتحاد الأوروبي أو تلك المتعلقة باتفاقية نافتا في أمريكا الشمالية.
قد تستشعر طهران من قراءة كتلك بعدم توفر إرادة سياسية أمريكية لحرب شرق أوسطية أخرى. لكن هل يعني ذلك أن تمضي الأولى باستفزاز إدارة ترامب، التي تضم صقورا، كبولتن مستشار الأمن القومي وبومبيو وزير الخارجية، مستعدة للذهاب أبعد ما يمكن في مواجهة هذه الدولة «المارقة»؟ أم أن تلك العمليات والردود الأمريكية عليها لن تتجاوز حدود الشد والجذب على وقع مفاوضات جارية مع «الشـيطان الأكـبر»؟
قد يكون الأمر بعضا من هذا أو ذاك. إذ يبدو أن طهران لن تكتفي هذه المرة بالرد من خلال بعض الهجمات الإلكترونية على أمريكا وحلفائها، وهي عازمة – أو الحرس الثوري ومن خلفه المرشد الأعلى علي خامنئي- على تصعيد يختبر من جهة عزم واشنطن على الخوض في مستنقع جديد ومكلف، ويستعرض من جهة أخرى أدوات القوة الإيرانية ضمن حدود حروب الوكالة، ودون التورط في حرب مباشرة لا تملك أي فرصة في حسمها.
تحتاج طهران ردا ما، يحفظ للنظام بعضا من ماء وجه في مواجهة شعب منهك وجائع، لا يكتم غيظه من مسؤوليه وسياساتهم. لا يستبعد إذن وجود قنوات خلفية، سرية وغير رسمية، يجري عبرها التفاوض مع واشنطن خلف أبواب مغلقة. لكن يبقى السؤال الأهم، على ماذا تفاوض إيران؟
إذ يعادل تقييد برنامجها الصاروخي تجريدها من أنيابها وسلاح الردع الوحيد الذي تملكه، ويعني التفاوض على نفوذها الإقليمي حرمانها من مخالب استثمرت فيها الكثير خلال السنوات بل العقود الماضية.
أما مستقبل الاتفاق النووي فهو شأن لا يمكن حسمه -بالنسبة لطهران- إلا بعد توفر قدر من الثقة في العلاقة مع الولايات المتحدة والغرب عموما، ثقة لم تعد متوفرة بعد إسقاط الأنظمة المستبدة في كل من العراق وليبيا. يعبر ذلك عن مأزق تفاوضي يبقي احتمال الحرب قائما، رغم ما يعلنه الطرفان من رغبة في تجنبها. فعدا عن الحسابات الخاطئة أو خروج ثنائية الفعل والردود المترتبة عليه عن السيطرة وتطورها إلى حرب ضروس، ليس من السهولة بمكان التوصل إلى تسوية سياسية لا تكون مهينة لطهران ونظامها، كما لم يعد يسيرا على الولايات المتحدة -وبالأخص من جهة الإضرار بمكانتها الدولية- التراجع دون تحقيق أهدافها المعلنة أو بعضها على الأقل، بعد أن حشدت أساطيلها استعدادا لضربة عسكرية أو للإيحاء بها. هنا تكمن عقدة المعادلة القائمة، فقد بات تجنب الحرب رهنا بتنازلات مؤلمة وخطيرة من الجانب الإيراني -ولـيس الأمريكـي- تهـدد بزعـزعة أركـان نظـامه.
فهل ستنحني طهران تفاديا للعاصفة، أم أننا على موعد مع انفجار كبير تتردد أصداؤه في جهات الأرض الأربع، وقد يكون أحد نذره تحميل النظام الإيراني – أو وكلائه – رسميا المسؤولية عن الهجمات الأخيرة في المياه الإماراتية؟
كاتب سوري