الحرب على الضفة وأشباح غرنيكا: ترامب يطلق يد المستوطنين في الضفة وإدارته ستواصل تجاهل الفلسطينيين

إبراهيم درويش
حجم الخط
0

في كلمة ألقاها الرئيس الأمريكي عبر الفيديو لمنتدى دافوس كرر ما قاله في حفل تنصيبه عن دوره المهم في فرض وقف إطلاق النار في غزة، وصور نفسه صانع سلام. ومن بين السيل الهائل من القرارات التنفيذية كان واضحا أن ترامب لا يريد أن يكون صانع سلام وكل طموحه هو تحقيق أكبر قدر من القوة وفرض إرادته الديكتاتورية بالتخويف والترهيب. فمن بين القرارات التنفيذية كان لافتا إلغاء ترامب العقوبات التي فرضتها إدارة بايدن على المستوطنين المتطرفين في الضفة الغربية الذين تحولوا إلى ميليشيا مسلحة تهاجم الفلسطينيين في قراهم وتحرق بيوتهم وممتلكاتهم ومزارعهم. ولم يكن مصادفة كما يقول مراسل صحيفة «التايمز» (22/1/2025) إن ينهي ترامب خطاب تنصيبه ويقوم ملثمون بمهاجمة قرب جينصافوت، ووصف سكان القرية رجالا ملثمين اقتربوا من بيت وألقوا الحجارة عليه، ثم أحضروا اسطوانة غاز، وأشعلوا النيران.
وعنف المستوطنين ليس جديدا والحرب في الضفة الغربية كانت في أوجها عندما اندلعت الحرب في غزة بعد الهجوم الذي نفذته حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر. وقد قتل منذ الحرب في غزة أكثر من 800 فلسطيني في الضفة الغربية ولم يتوقف الجيش الإسرائيلي عن عملياته في قرى ومدن الضفة ولا اعتقالاته حيث زج بالآلاف من الشبان الفلسطينيين في سجونه. وعانت مخيمات جنين وطولكرم من عمليات مدمرة بدت صورة مصغرة عما كان الجيش الإسرائيلي يرتبكه في غزة. واللافت للانتباه أن الجيش الإسرائيلي نقل عملياته إلى الضفة بعد هدوء غزة. واعترف وزير الدفاع أن دروس غزة ستطبق هناك.

مكافأة الضم

وعليه لم يكن مصادفة قرار ترامب رفع العقوبات عن المستوطنين، فقد كان قادة المستوطنات في حفل تنصيبه بواشنطن يوم الإثنين الماضي. وذكرت التقارير في وسائل الإعلام الإسرائيلية أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وحلفاءه من اليمين المتطرف في الحكومة عرضت عليهم حافز لإلغاء الطلعات الجوية الإسرائيلية قبل تنصيب ترامب يوم الإثنين، مقابل تخفيف البيت الأبيض موقفه من حركة المستوطنين في الضفة الغربية. وإذا كان الأمر كذلك، فإن ترامب كان صادقا في كلمته. وتزامن قراره مع هجوم المستوطنين على قرية جينصافوط. ولم يكن المستوطنون بحاجة إلى الانتظار. وبالنسبة لزعمائهم، الذين أصبحوا الآن في غاية الابتهاج، فإن أمر ترامب كان مجرد زينة الكعكة. ونادرا ما تتصدر الهجمات، المصممة لترهيب الفلسطينيين وتثبيط المعارضة للتوسع المستمر للمستوطنات القانونية وغير القانونية، أجندة الأخبار الدولية. وعادة ما تمر أفعال المستوطنين بدون عقاب وسجل الجيش الإسرائيلي في الضفة واضح، فلم يعد يقوم بدوره لحماية الأمن بقدر ما يعمل حارسا لهؤلاء المتطرفين. ووجدت الإحصائيات التي نشرتها منظمة حقوق الإنسان الإسرائيلية «يش دين» استنادا إلى البيانات الإسرائيلية الرسمية، أنه بين عامي 2005 و2024، تم فتح 1.701 تحقيق فقط من قبل الشرطة في عنف المستوطنين، على الرغم من حقيقة أن الهجمات تحدث الآن على أساس يومي. ولم تسفر سوى 6.4 في المئة عن توجيه اتهامات، و3 في المئة عن إدانات كاملة أو جزئية.
ولهذا يشعر المستوطنون بأنهم محصنون من العقاب وسيتجرأون أكثر لاعتقادهم أن أقوى رجل في العالم يدعمهم. وسجلت صحيفة «الغارديان» (23/1/2025) نفس المشاهد في قرية سنجل التي هاجمها مستوطنون ملثمون وألقوا قنابل المولوتوف. وكانت سنجل، موطن حوالي 5.000 شخص، واحدة من العديد من البلدات والقرى الفلسطينية التي استهدفتها موجة من عنف المستوطنين الإسرائيليين في الأيام القليلة الماضية، والتي اندلعت بسبب تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار في غزة. وتم استهداف ست قرى على الأقل في جميع أنحاء الضفة الغربية وهي: سنجل، وترمسعيا، وعين سينيا، واللبن الشرقية بالقرب من رام الله، والفندق وجينصافوط، بالقرب من نابلس، ليل الأحد والإثنين. وينظم المستوطنون هجماتهم عبر مجموعات دردشة على واتساب، حسبما ذكرت صحيفة «وول ستريت جورنال» (21/1/2025) حيث نشر المشاركون أخبارا عن وصول المحررين الفلسطينيين في صفقة التبادل يوم الأحد، والذين وصفوا بـ«الإرهابيين الخطيرين». وجاء في أحد المنشورات، مصحوبا بصور ومقاطع فيديو للحرائق والدمار: «وصل الإرهابي الأول المفرج عنه إلى قرية القتلة سنجل. يوجد حاليا حصار عند مدخل القرية. يطلب من الجميع الحضور للاحتجاج على الظلم الرهيب… لا يسمح للإرهابيين بالتحرك حولنا». وفي الواقع، تم إطلاق سراح شخص واحد إلى سنجل كان محتجزا في الاعتقال الإداري، وهي ممارسة تستخدمها إسرائيل والسلطة الفلسطينية شبه المستقلة لاعتقال واحتجاز الأفراد بدون تهمة أو محاكمة لفترات قابلة للتجديد مدتها ستة أشهر، بناء على أدلة سرية. ونقلت صحيفة «الغارديان» عن صاحب متجر، رفيق طافش، 49 عاما، الذي احترقت شاحنته في الهجوم قوله: «ليس الضرر أو التكلفة، بل الإرهاب الذي يسببونه هو المشكلة». وقال، في إشارة إلى هجوم حماس على إسرائيل الذي أدى إلى الحرب الانتقامية الإسرائيلية على غزة: «لم تكن سيارتي في 7 تشرين الأول/ أكتوبر. لا علاقة لنا بذلك، لكنهم بلطجية. إنهم لا يحتاجون إلى عذر». في إشارة إلى زيادة عنف المستوطنين منذ الحرب على غزة، ما أدى إلى تهجير قرى بأكملها لأول مرة. وفي العديد من المناسبات، تم توثيق فشل الجيش الإسرائيلي في وقف هجمات المستوطنين، أو حتى الانضمام إليهم. وفي العام الماضي، بدأت الدول الغربية في فرض عقوبات على الأفراد المتورطين في عنف المستوطنين ومصادر التمويل والدعم المؤيدة للاستيطان.

يد حرة

ويعتقد ديفيد هيرست أن ترامب الذي تسامح في ولايته الأولى مع الاستيطان ودعم إسرائيل في كل مطالبها، يطلق بداية ولايته الثانية يد نتنياهو لتفجير المنطقة. وفي مقاله على موقع «ميدل إيست آي» (23/1/2025) قال فيه إن فريق ترامب الجديد متماه مع عمليات إسرائيل لتفكيك المخيمات الفلسطينية تحضيرا للضم، وهو ما يعتبر وصفة لمزيد من النزاع. وقال إن الهجوم على مخيمات الضفة الغربية كان مخططا له، لكن توقيته كان كافيا لبقاء بتسلئيل سموتريتش في منصبه وكحاكم على الضفة الغربية المحتلة والذي هدد بالاستقالة من الحكومة كما فعل زميله المتطرف إيتمار بن غفير، وزير الأمن السابق. ويرى هيرست أن كل المكونات جاهزة لإعادة نفس العلاقة بين أمريكا وإسرائيل أثناء ولاية ترامب الأولى. ومن بين الأشياء التي قدمها ترامب لإسرائيل هي الاعتراف بسيادتها على مرتفعات الجولان وشرعية المستوطنات واستخدام اتفاقيات إبراهيم لدفن القضية الفلسطينية. وفي ولايته الثانية، عين ترامب فريقا مؤيدا لإسرائيل، فالسفير المقبل مايك هاكابي لا يؤمن بشيء اسمه الفلسطينيون. وفي شهادتها أمام لجنة في مجلس الشيوخ، أكدت سفيرة ترامب المقبلة، إليس ستيفانيك على الحق الإلهي لليهود في الضفة، أما مبعوث ترامب للشرق الأوسط وإيران، ستيف ويتكوف فإنه تحدث عن «إعادة نقل الفلسطينيين إلى أندونيسيا». ولم يعبر ترامب نفسه عن أي اهتمام بمصير سبعة ملايين فلسطيني.
وما يهم ترامب هي المشاريع العقارية التي قد يحصل عليها صهره جاريد كوشنر في غزة. وعندما سئل وهو يوقع كومة القرارات التنفيذية عن رأيه بوقف إطلاق النار تحدث عن غزة كموقع هدم وأنها مكان جميل ولديها ساحل جميل و«يمكن عمل أشياء جميلة ورائعة هناك». ترامب ليس مهتما بأي عربي سوى بمن يفتح محفظته المالية له، ولهذا عبر عن استعداد لزيارة السعودية لو تعهدت بتوقيع صفقات أسلحة من الولايات المتحدة بقيمة 600 مليار دولار.

وصفة قديمة

ومشكلة الولايات المتحدة أنها ظلت تتعامل مع المنطقة العربية من خلال المنظور الإسرائيلي، فنحن نتعامل مع إدارة ليست لديها فكرة عن الفلسطينيين ومن هم. وقد فعلت أمريكا هذا طوال الوقت، مع أن قادتها يتحدثون بشكل متأخر عن مظاهر فشلهم في الأيام الأخيرة من مناصبهم أو في مذكراتهم التي يكتبونها بعد فترة من تقاعدهم. وقد فعل هذا جون كيري عام 2016 وفعلها أنتوني بلينكن، وزير الخارجية الذي وصفته صحيفة «نيويورك تايمز» بوزير الحرب. وفي كلمة ألقاها في المجلس الأطلنطي في 14 كانون الثاني/يناير، قدم قائمة فشل واتهام لنفسه، لكن هذه هي عادة أمريكا الغربية كما تقول مجلة «إيكونوميست» (23/1/2025)، مضيفة أن الرئيس السابق جو بايدن فشل فشلا ذريعا في استخدام القوة الأمريكية لتحقيق أهدافه. ورفض بنيامين نتنياهو الاستماع إليه وإدارته التوقف عن استخدام سياسة الأرض المحروقة ينفذها الجيش الإسرائيلي في غزة وقبول وقف إطلاق النار، وبدون أن يواجه رئيس وزراء إسرائيل أي تداعيات لتجاهل المسؤولين الأمريكيين والرئيس نفسه.
وأشارت إلى محاولة ترامب في ولايته الأولى إجبار إيران على توقيع اتفاقية حسب شروطه واستخدامه سلاح العقوبات ضدها بدون جدوى. وأضافت أن السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط لم تكن متماسكة وواضحة وعلى مدى العقدين الماضيين. وكان جورج دبليو بوش آخر رئيس أمريكي تبنى أجندة إقليمية طموحة. وللأسف، فقد كانت ركيزة هذه الأجندة الإقليمية هي كارثة غزو العراق.
ومنذ ذلك الحين، نظر الرؤساء إلى المنطقة باعتبارها مصدرا للصداع، وتحولت سياساتهم منها إلى مجرد تمرين في التناقضات، فمن جهة تحدثوا عن فك الارتباط معها ولكنهم لم يفعلوا أي شيء بهذا الاتجاه، من جهة أخرى. واكتفوا بإدارة أزمات لا نهاية لها بدون حلها إلا في النادر، وفي كثير من الأحيان صبوا النار عليها.
وتعتقد المجلة أن على ترامب، الذي يواجه حزمة كبيرة من المشاكل أن يبدأ بحل المشاكل القديمة للشرق الأوسط بدلا من الاكتفاء بإدارتها. وأن الكثير من علاقات أمريكا مع الشرق الأوسط ظلت تتبع مفاهيم عتيقة وعفا عليها الزمن وتتعلق بالاستقرار. فصفقة النفط مقابل الأمن مع السعودية أصبحت هشة، لأن أمريكا هي أكبر منتج للنفط في العالم، والاستيراد الأمريكي للنفط الخام السعودي في أدنى مستوياته منذ عقود. ومع ذلك، لا يزال الرؤساء يتعاملون مع السعودية على أساس تعاقدي وعبر المعاملات التجارية. وفي ظل أوضاع متغيرة بدول الخليج وما أفرزته الحرب في غزة من تداعيات، فعلى إدارة ترامب إعادة النظر بالمفاهيم القديمة للسياسة الخارجية. وفي النهاية، حاولت أمريكا تجاهل مشاكل المنطقة، وهي تتفاقم الآن. وإذا كان ترامب يريد أن يتخلص من مشاكلها فسيحتاج لأن يبدأ بالنظر إليها كأولوية.
ولعل قراراته الأولى ليست مبشرة سواء المستوطنين أو تعليق الدعم الخارجي الذي أوقفه وزير خارجيته ماركو روبيو لكل الدول باستثناء إسرائيل ومصر. وربما وضع ترامب عينه على مواصلة حملات التطبيع التي بدأها في ولايته الأولى وواصلها بدون نجاح بايدن. لكن فكرة تجاهل الفلسطينيين وقضيتهم هي سبب عدم نجاح موجات التطبيع. ويرى خالد الجندي بمقال نشرته مجلة «فورين أفيرز» (22/1/2023) أن كل الدلائل تؤشر إلى أن ترامب لا يزال يعتقد أن اندماج إسرائيل في المنطقة يعد أكثر أهمية بالنسبة للقادة العرب من قضية الحرية الفلسطينية. والواقع أن الفرضية المركزية لاتفاقيات إبراهيم- أن السلام والاستقرار الإقليميين يمكن تحقيقهما مع تهميش الفلسطينيين، قد انقلبت تماما بسبب هجوم حماس في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 على إسرائيل وكل ما حدث منذ ذلك الحين. إن اتفاق وقف إطلاق النار، يؤكد على مركزية الفلسطينيين للأمن والاستقرار الإقليميين، ولكنه يخلق أيضا مساحة دبلوماسية محتملة للمشاركة السعودية-الإسرائيلية المتجددة تحت قيادة ترامب. وقال إن اتفاقيات إبراهيم تمثل نقطة استمرارية بين ترامب وبايدن. وقد تختلف أسبابهما وتكتيكاتهما، ولكن كلا الرئيسين روجا لوهم خطير، مفاده أن السلام والاستقرار والازدهار في الشرق الأوسط الأوسع يمكن أن يتعايش مع الحرب والفوضى والتشريد في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وإذا كان وعد اتفاقيات إبراهيم هو السلام والاستقرار، فإن واقع ما يسمى بالشرق الأوسط الجديد الذي يروج له نتنياهو كان إراقة دماء لا نهاية لها وعدم استقرار. وما يعرض اليوم ليس رؤية تنطوي على التكامل السلمي لإسرائيل في المنطقة، بل رؤية تقوم على هيمنة إسرائيل العنيفة عليها. وليس الأمر أن اتفاقيات إبراهيم لم تنجح في جلب السلام والأمن إلى الشرق الأوسط فحسب، بل ساعدت في الواقع على إنتاج العكس من خلال تشجيع الانتصار الإسرائيلي، وترسيخ التطرف الإسرائيلي، وضمان إفلات إسرائيل من العقاب.

دعوة للحساب

وفي حرب غزة يجب ألا يفلت المتورطون فيها. وكتب أوين جونز في صحيفة «الغارديان» (23/1/2025) قائلا إن الهجوم على غزة يعمل على تطبيع العنف اللامحدود تقريبا ضد المدنيين، وكل ذلك بتسهيل وتبرير من قبل حكومات غربية متعددة ووسائل إعلامية. وذكر الكاتب بتدمير «غرنيكا» على يد القوات النازية والإيطالية خلال الحرب الأهلية الإسبانية قبل ما يقرب من تسعة عقود من الزمان. وكانت غارة غرنيكا واحدة من أولى عمليات القصف الجوي الجماعي لمجتمع مدني، وقد أثارت فضيحة في العالم.
وقد أعرب الرئيس الأمريكي آنذاك فرانكلين روزفلت عن أسفه لكيفية «قتل المدنيين، بما في ذلك أعداد كبيرة من النساء والأطفال، بلا رحمة من الجو». وماذا عن غزة؟ في الأسبوع الماضي، زعم بايدن أنه أخبر نتنياهو، «لا يمكنك قصف هذه المجتمعات عشوائيا»، في بداية الهجوم العسكري الإسرائيلي في تشرين الأول/أكتوبر 2023. ومن المفترض أن الرئيس السابق كان يعتقد أن إخبار العالم بما قاله من شأنه أن يساعد في إعادة تأهيله. ولكن يبدو أن هذا أقرب إلى اعتراف غير مقصود بالتواطؤ الإجرامي. فالولايات المتحدة، في المحصلة، سلمت إسرائيل أسلحة بقيمة 18 مليار دولار تقريبا في العام التالي، عندما علمت، أو كان ينبغي لها أن تعلم، أن حملة نتنياهو الجوية تنتهك القانون الدولي. وأضاف أن معظم وسائل الإعلام الغربية لعبت دورا محوريا في تطبيع الحرب الفظيعة. فقد نشرت صحيفة «التايمز» في لندن قصة عن مزاعم مروعة وغير مؤكدة حول قيام حماس بقطع أعناق الرضع؛ وبعد يومين، تابعت بقصة أخرى عن الرضع «المشوهين». وقد تبين فيما بعد أن هذه المزاعم غير المستندة إلى أدلة كانت مجرد شائعات. مع أن مقتل أكثر من ألف رضيع فلسطيني ليس شائعات، بل إنهم في واقع الأمر قتلوا على يد القوات الإسرائيلية. ولم تخصص لهم «التايمز» الصفحة الرئيسية. كما أن الرعب لا يقتصر على مذبحة الأطفال. ففي وقت مبكر من الصراع، اتهمت منظمة هيومان رايتس ووتش إسرائيل باستخدام المجاعة كسلاح في الحرب. وقد تعرضت جميع المستشفيات الـ 36 في غزة لهجمات متكررة ولا يزال 17 منها فقط يعمل جزئيا. كما ووثقت الأمم المتحدة تقارير مروعة عن التعذيب والاعتداء الجنسي: حيث احتجز الرجال والنساء في سجون تشبه القفص، مقيدين إلى الأسرة في حفاظات ومعصوبي الأعين، وجردوا من ملابسهم، وحرموا من الطعام والماء والنوم، وتعرضوا للتعذيب بحروق السجائر، والإيهام بالغرق، والصعق بالكهرباء، وحتى الاغتصاب واتهامات بالاغتصاب الجماعي.
وعلى النقيض من غرنيكا، تم توثيق الجرائم المرتكبة في غزة في الوقت الحقيقي. ونشر الجنود الإسرائيليون بسعادة أدلة على وسائل التواصل الاجتماعي، ولجأ الناجون إلى الإنترنت لمشاركة لقطات لما عانوه. ومع ذلك، استمرت حكومة بريطانيا في تسليح إسرائيل، ولم توقف سوى 30 من 350 ترخيصا للأسلحة بعد ضغوط عامة وقانونية كبيرة. وفي الوقت نفسه، دافعت معظم وسائل الإعلام البريطانية عن فظائع إسرائيل أو برأت حقيقتها، وفشلت في ربط نيتها الإجرامية بأفعالها القاتلة. لقد أثار تدمير غرنيكا صدمة واسعة النطاق، ولكن يجدر بنا أن نتذكر أنه بعد الهجوم، أصبح القصف الجوي الأكثر كارثية هو القاعدة الجديدة. وتشير التقديرات إلى مقتل 1.650 في غرنيكا. وفي غزة، من المرجح أن يكون الرقم الرسمي البالغ 47283 فلسطينيا أقل من الواقع بشكل كبير، ولكن الفظائع الأكبر التي ارتكبت في غزة لا تثير أي شيء مثل نفس الغضب المؤسسي ضد غرنيكا في ذلك الوقت. وينهي قائلا: يجب أن يكون هناك حساب ويجب محاكمة أولئك الذين واصلوا توريد الأسلحة لإسرائيل لمساعدتهم في تسهيل ذلك. يجب أن تتعرض سمعة أولئك الذين استخدموا منصاتهم الإعلامية لتبرير ذلك، للتشويه. وبدون هذه المساءلة، سيصبح المزيد من العنف الفاسد أمرا طبيعيا، بل ومقبولا.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية