الحرية ماهية العقل

«ماهية الروح هي الحرية، فالفلسفة تعلمنا أن كل صفات الروح لا توجد إلا بواسطة الحرية»
(هيغل)

الروح تكون ضائعة دون حرية، وعمياء بالجمال، وما الحقيقة إلا وسيلة لبلوغ الحرية والجمال، فإذا كان هدف الفلسفة هو الحقيقة، فإن غاية الحقيقة هي الانكشاف إلى جوار الحرية والجمال، ولذلك ليس تقدم الفلسفة إلا تقدم الوعي بالحرية إلى أن ينتمي إلى عالم الروح، فعندئذ تتساءل: هل أصبحت شكلا معينا للحياة قد أصابه الهرم؟ وكيف يمكن إنقاذه بواسطة الحرية والجمال؟ ولماذا الوجود الحق هو العقل الذي يتحقق في الإنسان ويتم نسيانه؟ ما لم يصبح الإنسان سيدا لوجوده واعيا بذاته، لن تتحقق فيه مصلحة الحرية والعقل، ويظل ضحية لتاريخ زائف عبارة: «عن المذبح الذي تضحي عليه سعادة الشعوب وحكمة الدول وفضائل الأفراد»، هكذا تتصدر الخسارة هزيمة التاريخ بعد أن تشتبك فكرة الحرية في الصراع وتتعرض للخطر: «إن الأفراد يضحى بهم وينبذون، والفكرة تدفع عقوبة الوجود والفناء لا من ذاتها، بل من انفعالات الأفراد».
لم يعد ممكنا الهروب من الحرية لأنها ماهية التاريخ، والعقل لا يتحقق إلا في التاريخ، بل إن فلسفة التاريخ تعلمنا أن الروح العالمية هي الموضوع المتجسد للتاريخ، بمعنى: «أن التاريخ ليس مسرح السعادة، بل إن فترات السعادة صفحات خالية فيه»، وبقدر ما يتساءل الفيلسوف، من أي المواد تتشكل فكرة العقل؟ بقدر ما يقرر بأن الروح العالمية تسعى إلى تحقيق الحرية، وهي لا تستطيع أن تتجسد إلا في عالم الحرية الحقيقي، أي في الدولة، لكن ليس أي دولة، بل ما يقصده هيغل هي دولة الحرية.
نحن إذن أمام ثورة الكتابة على الكاتب، إلى درجة أن النص ظل جامدا في مكانه يطالب بالحرية والفكر، ما دام أن حرية الروح هي التي تؤلف ماهيتها، وليست مجرد نزوة شخصية، فالوعي بالحرية لا يتحقق إلا في دولة الحرية التي لا تعاقب من يكتب عن الطاغية، باعتباره ليس إنسانا حرا، ولا يمكن أن يسمح بالحرية للشعب وبالأحرى الفلاسفة. قد نختلف مع هيغل حين قال إن فلسفة الحق هي نفسها الحق في الدولة الحديثة القائمة على الحكم المطلق، أي الملكية، بيد أن الحرية لا تتحقق في الحكم المطلق، بل في الحكم الديمقراطي، باعتباره أسمى مرحلة في تحقق الحرية، تقدم إلى شيء أفضل وأكمل، تكون فيه الدولة صورة مشرقة للحرية. وبما أن الدولة بدورها تكون خاضعة للفكر، فإنه يشكل مبدأ حياتها ومستقبلها، بالاضافة إلى قوانينها وحقها وأخلاقيتها، بل إنها دولة واعية بذاتها، وتعرف أن الفكر هو العنصر الذي يؤدي إلى بنائها أو هدمها، إذا لم تكن متناغمة مع مقتضيات العقل الذي يتجسد في الفكر.
الدول ولّدها العقل والأخلاق وعملا على حفظها، وبدت وكأنها توقف مسيرة الاستبداد لتترك المجال أمام الحرية والفكر، وفي رأي هيغل أن تقدم الفكر يؤدي إلى تحطيم التأخر:»والتاريخ يتقدم على الأقل إلى درجة الاعتراف المتزايد بالحرية والمساواة.. والتخلص من القيود المفروضة على هذه الحرية والمساواة».
خطوة لتقدم الفكر في الفلسفة والفن، وخطوة لتقدم الحرية في الدول والتاريخ، ففي الدولة أشياء جميلة وأفعال طيبة وشجاعة، وأحكام صادقة وقوانين، لكن هناك شيء هو الجميل، وهذا الشيء أكثر من كل هذه الجزئيات، وهو مشترك بينهما جميعا: «تكون لدى الإنسان فكرة عن الجميل والخير في مفهوم الخير والجمال، فالمفهوم ينطوي على ما هو جميل وخير حقيقة، وقد رأى سقراط أن من واجب الذات المفكرة أن تكتشف هذه الحقيقة».
هذه المعارضة الثورية للدولة الأثينية أدت إلى محاكمة سقراط بالإعدام، من حيث أن الأثينيين كانوا يعدمون عدوهم المطلق، حكم تراجيدي بعمق في حق الفيلسوف والفلسفة، بيد أن تشييد الدولة الحديثة كان على أساس تراجيدي، بمعنى أن الأثينيين أدانوا بذلك أنفسهم لأن حكمهم على سقراط كان ظالما، بأن: «ما كانوا يأخذونه على سقراط قد تأصلت جذوره بالفعل فيهم». فتاريخ الإنسان هو في الوقت ذاته تاريخ اغتراب الإنسان: «إن ما تصبو إليه الروح حقا هو تحقق مفهومها، لكنها إذ تفعل ذلك، تخفي هذا الهدف عن بصيرتها، وتشعر بالرضى الكامل بهذا الاغتراب عن ماهيتها الخاصة». فالإنسان انتهى به الأمر إلى نسيان أنه هو ذاته الهدف لكل ما يقوم به، تطوره الحر هو الغاية، وبدلا من ذلك يستسلم لطغيانها وتطغى عليه الثروة المتزايدة والشطط في السلطة إلى أن ينتهي به الأمر في اغتراب عن ذاته كإنسان: «فتاريخ الإنسان إنما هو تاريخ اغترابه من مصلحته الحقيقية».
لقد مات هيغل، وتحققت أفكاره في المجتمع الأوروبي، حيث أن الانسجام بين تقدم الفكر، ومسار الواقع أضحى حقيقة، وتحول الإصلاح إلى ثورة أدت إلى هدم الدولة الاستبدادية وبناء الدولة الديمقراطية، وتحقق العقل في المجتمع المدني، وانهار الكهنوت، وتقوية البرلمان على حساب التاج، وانهار حكم الأسرة ليترك مكانه لحكم الشعب، فدهاء العقل قاد إلى فضح العناصر السلبية للسياسة المحافظة والرجعية، التي كانت تحافظ على إحباطهم وخيبة أملهم.

كاتب مغربي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول رشيد:

    عن أية حرية يتم الكلام في الدولة الديمقراطية الحديثة? عن اي حكم للشعب لنفسه بنفسه في هذه الديمقراطية المفترى على الشعب بها? عن اي دولة يتم تصور معالمها في مجالات الحكم والسياسة والاقتصاد والثقافة والانسانية والعدل والحق والواجب؟ ما محل الدولة من الاعراب في ظل ما بات يعرف بالدولة العميقة المتحكمة في مفاصل دواليب الحكم والسياسة والمال وصناعة او تغييب الوعي بالاعلام وكل الوسائل والدسائس والاسلحة المهددة الخفية والظاهرة ؟ اين هي الدولة من استقلال القرار السياسي والسياسي في ظل المؤسسات العابرة المتحكمة والمؤطرة والموجهة للسياسة الدولية بكل ابعادها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية وإدارة الصراع العنيف و غير العنيف على مستوى العالم ؟ هل فعلا الدولة ذات قائمة بذاتها ان هي مجرد تصور لوسيلة من خلالها يتم ضبط جميع الايقاعات لتحقيق التأثيرات المستهدفة من اجل اهداف معينة. في الماضي تجسدت الدولة في الشخص “انا الدولة والدولة انا” واليوم تتشخص زورا في الشعب الدولة هي الشعب والشعب هو الدولة “؟

  2. يقول سعيد امغار:

    ليس هناك شعب حر ولايوجد انتخبات نزيهة و كلمة الحرية طعم و الاستبداد والاستعباد ازداد توسعا ولم ينحصر على السود بل شمل الجميع وفي ضل توسع الاستعباد تضيق مجال الحرية والناس الان يختنقون فينفس عليهم بوهم سقوط الاستبداد والاستعباد

اشترك في قائمتنا البريدية