الحفـــلة
عزت القمحاويالحفـــلةتلقيت العديد من باقات الورد الافتراضي عبر بريدي الإلكتروني وتهاني بالعام الجديد علي التليفون المحمول، بعضها أرسلها أصحابها مجمعة لكل المسجلين علي تليفوناتهم دون أن يتقصدوا واحداً أو واحدة منهم بالتحديد. أكثر من استقبال وإرسال الرموز لم أفعل، ولم يفعل أحد من معارفي في مصر والبلاد العربية ممن تبادلت معهم التهاني الافتراضية بالعام الجديد فرضاً لكن طفلتي أخي وأمهما القادمات معه من الدانمارك لقضاء العطلة ومشاركتنا خلالها الاحتفال بعيد الإضحي فاجأننا باستعدادات أضمرنها قبل التحرك من كوبنهاغن! كنَ جاهزات بالشموع وبعض أشرطة الزينة والبالونات، وبماصات للشراب مزينة بخصل من البلاستيك بألوان الطيف. وهكذا استطعن فبركة نخب من المياه الغازية شربناه في صحة العام الجديد في الثانية عشرة من مساء السبت، ثم ارتدين معاطفهن ونزلن إلي الشارع امتثالاً لصوت فرقعة احتفالية واهنة أمام بنايتنا أطلقها أطفال لا أدري من أين جاءوا هم أيضاً! بعد دقيقتين أو ثلاث عدن. كانت الأم راضية لأنها لم تفوت علي طفلتيها استقبال العام الجديد ولو بهذا الاحتفال الافتراضي الذي يشبه ورود الإنترنت، وكأنها تحاول التملص من قوانين واقع استسلمنا له بالكامل.جاريت مع أفراد الأسرة المقيمين شطر أسرتنا الزائر: الأم الدانماركية وابنتيها البين بين. جاريناهن بنوع من الخجل من الاحتفال والتعالي علي الطقوسية المبسطة التي استغرقت دقائق معدودة.ولا أظن أن أصدقائي الذين أهدوني الباقات الافتراضية ورسائل الموبايل يتمتعون بتسامح أكبر مع الطقوس؛ هذا الوضع المجافي لروح الحفلة يشمل أمة بأكملها، ولا أظن أن السر يكمن في الدين الإسلامي الذي أسبغ ثقافته علي العالم العربي بمسيحييه ودروزه ويهوده وصابئته وأصحاب ملله الأخري، وأعلي من شأن الاحتفالات الدينية بسكونيتها فوق الصخب الدنيوي. ولا يمكن رد الأمر إلي طبيعة الثقافة البدوية التي تُعظّم من شأن الطعام. ولا أظن أن ثقافة التضحية السامية هي ما اختصر فرحنا إلي الثريد ولحم الأضحية. الخلل حديث ومجافاة روح الحفلة عارض. وأظنه لم يتعد في البداية الرفض اللاإرادي لروح الجماعة و الاجتماع و الإجماع التي لم تعد تذكر إلا في مناسبات التنكيل بالإرادة واغتصابها؟ لكن الأمر تحول من مجرد الرفض غير الواعي إلي مرحلة الوعي عندما صودر مفهوم الحفلة لصالح السلطة التي لا تنتهي أفراحها ولياليها الملاح. احتفالات بذكري انتصارات قديمة لم تشارك فيها، واحتفالات بهزائم مؤكدة تكتب عليها لافتة هذا نصر .. احتفالات بإقامة جسر تافه أو إطلاق الماء في مجري صغير، واحتفال بنجاح الاحتفال. وفضلاً عما أصبح مفهوم الحفلة يحيل إليه من معاني الكذب والتمثيل، هناك أيضا التحويل الدلالي الذي ينبع من التحول في الموقع؛ فالحفلة استثناء، انتقل إلي المركز. وعندما نقول حفلة نقول أيضاً سيرك وكلاهما فقد اعتباره بتحويله من هامش إلي مركز ومن عارض إلي عادة وحدث يومي.هذا هو أصل وفصل معضلة السبت الماضي الذي مارست بحياء في الثانية عشرة من مسائه طقساً خجولاً لاستقبال العام الجديد. وكنت في صباحه، وفي الثانية عشرة أيضاً محتجزاً فوق كوبري أكتوبر لأن الوزراء أو من هم بصدد أن يكونوا كذلك كانوا في طريقهم إلي طقس حلف اليمين مع أنهم لو استشارونا في الأمر لحلفنا لهم أننا نصدقهم دون حلف؛ فما نستفيده من هذه الأيمان ليس سوي الوقوف في وضع الرهائن لحين مرورهم إلي حفل اليمين المحنوث به مسبقاً. في ذلك الشطر من الساعة الذي أُخلي فيه الطريق من أجل الحالفين فتحنا أبواب سياراتنا مللاً وبدأنا في تبادل عبارات الضيق وفراغ الصبر؛ بينما استغلت أسرة أمريكية سوداء هذه الفرصة ولم تتركها دون تحويلها إلي طقس احتفالي. غادروا التاكسي القادم بهم من المطار كما هو واضح وأطلوا من موقعهم علي الشوارع المحيطة بالكوبري وتولي السائق التقاط الصور التذكارية لهم بعد أن حددوا بأنفسهم الخلفية المناسبة.بعد الإفراج وصلت إلي مقصدي، وبدأت تصلني التسريبات المعتادة عن أسباب استبعاد الوزراء الذين لم يشملهم طقس الحلف السعيد وحملوا بناء علي ذلك صفة السابقين بينما ترشحهم خطورة التسريبات ليكونوا متهمين مستقبليين في جنايات فساد وخيانة عظمي إذا ما تمردت كلمة وخرجت من أفواههم كما خرجت من فم عبدالحليم خدام الذي تحول من لاعب أساسي علي الخشبة السورية علي مدي خمسة وثلاثين عاماً إلي خائن وفاسد بإجماع أعضاء مجلس الشعب. طيب، الخيانة قد تحدث فجأة بتوفر عرض مالي أو جنسي مغر لم يتيسر من قبل، فماذا عن الفساد الذي يبني طوبة فوق الأخري؟!الأدهي أن يقف عضو مجلس شعب فيتهم خدام وأولاده بدفن النفايات النووية في سورية منذ عشرين عاماً، فكيف احتفظ العضو الموقر بالمعلومة الخطرة طوال تلك المدة دون أن يبلغ عنه أو يستقيل أو ينتحر؟ عضو آخر يقف ليتهم خدام بإجهاض ربيع دمشق والتنكيل بالمعارضين، وكأنه كان يدير نظاماً خاصاً به، ولنكتشف مع العضو المبجل أن شبكة الهواتف النقالة ليست وحدها محل احتكار بل القمع أيضاً بوسعه أن يصبح مؤسسة خاصة.عودة إلي مصر؛ فقد رشحت التسريبات محمد إبراهيم سليمان وزير الإسكان السابق لموقف عصيب إذ نسبت إليه بيع مليون متر من هضبة المقطم بالبخس لمستثمرين أجانب بينهم إسرائيليون، مع أن الجميع يعلم أن هذا لم يكن المليون متر الأول الذي يبيعه بالبخس الوزير المقال. ورغم علمهم بأنه ضالع في الأسوأ فإن المجنون فقط من يسعده أن يتكلم ويلقي مصير المعماري المصري ممدوح حمزة الذي دخل بريطانيا بوصفه ضيف الملكة في عيد ميلادها، لكنه لم يهنأ بشاي الملكة وانتهي سجيناً بتهمة الإرهاب والتحريض علي قتل مسؤولين مصريين بينهم الوزير المقال.وقبل أن نتفاءل بهذه التسريبات المبشرة فاجأنا الرئيس بمنح الوزير المقال وسام الجمهورية. ومفهوم أن يتلقي هذا النوع من التكريم وزير مجيد منعته ظروفه الصحية من الاستمرار، أما أن يكون حسن الصحة ويستبعد ثم يكرم فهذا ما لا يمكن أن يفهمه أحد.ولا يمكن للمواطنين الصالحين أن يستمتعوا من بعد بروح الحفلة أو يستثير فضولهم لاعب ترابيز عادي، بينما أمامهم فرصة مجانية للفرجة علي لاعبين يواصلون القفز في سماوات الفساد. ويبلغ التشويق مداه عندما لا يكون واضحاً إن كان مدير السيرك قد أمر بتزويد الحلبة بشبكة تستقبل اللاعب عندما تزل قدمه، أوأنه سيتركه لمصيره عندما يرتكب خطأه القاتل.قبل أن يعود السيرك من المركز إلي مكانه الطبيعي في الهامش، سيظل الجمهور الطيب رافضاً لروح الحفلة، يرسل ويستقبل ـ بالكاد ـ الزهور وبطاقات المعايدة الافتراضية.0