لن يولد المستقبل المشرق بعيدا عن معالجة حكايات الماضي والحاضر، وهذا ما يؤكده التاريخ، وتحمله وقائع الكم الهائل من الحقائق القاسية التي يمكن تجليتها بلغة البيانات والأرقام الرسمية وغير الرسمية عن الصعيد وأحواله الاجتماعية والاقتصادية، والمقصد هنا هو رجاء التخلص من جذور الألم اللامتناهية، تلمّساً لسُبل الوصول لصناعة حلم الصعيد، بعيدا عن إعادة طريق الماضي. هذا ما يقوله الكاتب أحمد مصطفى علي في كتابه « الصعيد.. جذور الألم والأمل» الصادر عن الهيئة العامة للكتاب، ويسعى من خلاله إلى الكشف والإجابة عن تساؤلات أربعة رئيسية، هي: كيف يمكننا الوعي بماهية الصعيد وتاريخه الاجتماعي لتفسير تطور قضاياه ودلالتها ما بين التمكين والتهميش؟ وما الأسباب المؤثرة على تفاقم قضايا الصعيد؟ وما التحديات الاجتماعية والاقتصادية التي تواجه الصعيد؟ وكيف يمكننا التوصل لحلول ومقترحات قابلة للتنفيذ في ضوء معطيات الواقع وأبعاده؟
تهميش وتمكين
يقسم الكاتب كتابه هذا إلى أربعة فصول، في الأول منها يتحدث عن تعريف الصعيد وتاريخه وحالته ما بين التهميش والتمكين، هادفا إلى الكشف عن دلالات مصطلح الصعيد، المكونات والأبعاد، والجوانب المؤثرة على الشخصية الصعيدية، إلى جانب استعراض تطور ظاهرة التهميش العنيف للصعيد عبر التاريخ، وفي الثاني يكتب عن فئات خاصة في ظروف شديدة الخصوصية، وفي الثالث منها يتحدث عن التحديات الاجتماعية والاقتصادية، التي تواجه الصعيد وأهله، وفي رابعها يتجه بنا نحو بدايات رئيسية. هنا يتناول الكاتب نماذج من الألم والمعاناة الناتجة عن تفاقم قضايا الصعيد، مشيرا إلى أن أسباب القضايا قد تبدو متقاربة، ممثلا بأن الوضع الثقافي الذي قد يؤدي لتفاقم وضع المرأة هو ذاته لطفل الشارع أو للثأر، ولذا يرى الكاتب أنه من الضروري وضع سياسة متكاملة لمواجهة الأوضاع، لأنها دائرة متشابكة بين العلم والعمل، إلى جانب هذا يسعى الكاتب، من خلال كتابه أو بحثه هذا، إلى وضع حلول ومقترحات تجاه المواجهة المؤجلة لقضايا الصعيد، ذاكرا مقومات التعليم المعرفي المهدرة، الموازنة الحكومية المتحيزة، النمط الاستثماري وعلاقته بالبطالة، أزمة التجارة وأبعادها، الزراعة ومخاطرها على تداعيات الأمن القومي، أوجه القصور والخلل السياحية، وكذا نماذج لمناطق الثروات المهملة في الصحراء، أو الوادي الجديد كنموذج للكنوز المهملة.
موروث عدة حضارات
الكاتب يذكر هنا أيضا أن للصعيد موروثاً اجتماعيّاً مُستقى من عدة حضارات، وقد حرصت بيئته على الاحتفاظ بهذا الموروث الفرعوني المتعدد والمتنوع، كعادات أهل الصعيد في المناسبات الاجتماعية كالأفراح والطهور والجنائز، وما يرتبط بهذه المناسبات من فلكلور كالرقص أو المعازف أو الألعاب، كالتحطيب أو الناي أو الربابة، وكلها ألعاب وفنون فرعونية، وهي تمتزج بفنون جاءت مع الحضارة العربية. ومتحدثا عن الشخصية الصعيدية يقول الكاتب، إن كثيرين يرون أن البيئة ارتبطت بطبيعة الشخصية الصعيدية، سواء في القيم الإيجابية أم السلبية، التي توصف بالحدة، وفي ذلك تفسير تأثير المناخ والجغرافيا، كما يبدو واضحا من كون الصعيد محاصرا بين الجبال والهضاب. ويضيف الكاتب أن الشخصية الصعيدية ترتبط بالظروف الإدارية البالغة السوء، بسبب كون الصعيد منفى للقيادات الأضعف، بل وموقعا لمجاملة المسؤولين من غير ذوي الكفاءة، وبهذا يصير الصعيد موقعا لإهمال التعليم أو نسيان الصحة أو فقدان البنية التحتية كغياب الصرف الصحي، وتدني الخدمات الاجتماعية، وكلها أمور تتعلق بفشل اختيار قيادات إدارية تدرك وظيفتها في الابتكار الإبداعي لبيئتها، وكذا التخطيط والمتابعة والتنفيذ والتقييم والتقويم وغير ذلك. وفي مقابل هذا لا يُرى الصعيد إلا في أفلام تُكرّس الهوة الثقافية عن الحالة المعاصرة، والنظرة الأحادية المتحيزة لشق واحد من الصورة السلبية، وعبر تضخيم السلبية لتبدو هي كل الصعيد، أو هي لوحة الصعيد الكاملة.
ظواهر صعيدية
هنا أيضا يتناول الكاتب الوجه الآخر للتاريخ، وهو تاريخ التهميش القديم والخطير والأطول والأبقى، سعيا للكشف عن جذور ما انتشر حاليا من كوارث وأزمات اجتماعية وسياسية واقتصادية، مقرونة بمدى التهميش وانتشاره، حتى إنه يقول إن الصعيد ظل كما كان قديما وكأنه الساقط سهوا من حسابات المسؤولين، كما لا يفوته أن يستعرض الفترات التي كان فيها التمكين من نصيب الصعيد كعهد محمد علي، غير أن الكاتب يرى أن هناك جانبا إيجابيّا لتهميش الصعيد، إذ أظهر ذلك ملمحا إيجابيّاً وحيداً، وهو أثر التهميش في الإبداع الأدبي، إذ طالما ولدت كبرى الأعمال الإبداعية العملاقة من شعور إنساني تجاه القهر والاستعباد، وما غير ذلك من ممارسات السلطة أو أتباعها، أو ولدت بدافع الثورة على سلوكيات لا إنسانية أو فاسدة، وهو ما يضع حكام التهميش والاستبداد في موقعهم الملائم من التاريخ والتراث الإنساني وهو الأبقى. هنا أيضا يتحدث الكاتب عن ظاهرة أطفال الشوارع في الصعيد، العنف ضد المرأة، العنف القانوني والاجتماعي والسياسي، مبينا الأسباب التي أدت إلى تفاقم أزمة المرأة في الصعيد، وضع المرأة في المجتمع الصعيدي، عن ذوي الإعاقة في الصعيد وأسباب تفاقم مشكلاتهم، كذلك يتحدث عن مرضى الصعيد الذين لا يجد بعضهم نفقات العلاج، ولا يجد بعضهم الآخر مكانا مناسبا للعلاج، ولا يجدون الخدمة المجانية المدعومة، كما تزداد الأوضاع الصحية سوءا مع طبيعة الحال الجغرافي، ويزداد انتشار الأمراض وفداحة تناميها ارتباطا بالأوضاع الاجتماعية والاقتصادية المتردية، حتى يصل الكاتب إلى القول بأن فقر المرض ومرض الفقر لا ينفصلان.
ويرى الكاتب أن غياب الوعي يعتبر من أسباب تفاقم المشكلات الصحية لمرضى الصعيد، خاصة وهو يساعد في انتشار العدوى، كما يتحدث الكاتب عن حوادث السير التي تودي بأرواح المئات كل يوم ومن أسبابها انتشار المخدرات بين السائقين، وسوء الطرق الزراعية وعدم وجود بدائل للنقل الآمن، وضعف التشريعات والقوانين لمخالفات الطرق.
حقائق مؤلمة
وقد أفرد الكاتب الفصل الثالث من كتابه للحديث عن الفقر الصعيدي المتصاعد، الجريمة، الثأر، الإرهاب في الصعيد، عشوائيات الصعيد، صعيد الهجرة الإجبارية، وكيف يكون اغتيال العمر والأحلام. وبعد أن يناقش الكاتب قضايا ومشكلات الصعيد موضحا الأسباب، محاولا الوصول إلى حلول لها، يختتم كتابه قائلا، إن الحقائق المؤلمة تتحول أحيانا إلى انتفاضات أو ثورات، وأحيانا إلى جرائم، وربما إلى موت وفناء، وهذا جزء من واقع يدركه جيدا أبناء الصعيد، كما تؤكده أرقام وبيانات الهيئات الدولية والجهات الرسمية وغير الرسمية داخل مصر وخارجها، إنها ببساطة كلمة «الصعيد» التي أصبحت تعني الكثير عند ذكرها عند أي مواطن، وهي ذاتها الكلمة التي صارت تتغنى بها الحكومات المتعاقبة، وتنطلق حولها الوعود البراقة دون تنفيذ، ويتوارثها جيل بعد جيل على أوراق الصحف والأماني والأحلام دون الواقع.