لندن- “القدس العربي”: نشرت صحيفة “الغارديان” مقالا للمدير التنفيذي السابق لمنظمة هيومن رايتس ووتش (1993-2022)، والأستاذ الزائر في كلية برينستون للشؤون العامة والدولية، كينيث روث، قال فيه إن من المخيب للآمال، إن لم يكن من المستغرب، أن يكون رد الغرب على اتهامات المحكمة الجنائية الدولية هو الدفاع عن إسرائيل رغم جرائم الحرب التي ترتكبها.
وقد رد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بنقد لاذع متوقع على اتهامات المحكمة ضده وضد وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت. ومع ذلك، فإن حججه كلها ملفقة، وتهدف إلى صرف الانتباه عن السلوك المدمر في غزة. ولم تكن الحكومات الأمريكية والبريطانية والألمانية أفضل بكثير.
وكان المدعي العام للمحكمة كريم خان قد أعلن يوم الإثنين أنه سيسعى للحصول على مذكرات اعتقال بحق نتنياهو وغالانت بالإضافة إلى ثلاثة مسؤولين في حماس. واقترح توجيه اتهامات إلى قيادة حماس بارتكاب فظائع في 7 تشرين الأول/ أكتوبر، فضلا عن إساءة معاملة الرهائن منذ ذلك الحين. واقترح اتهامات ضد المسؤولين الإسرائيليين في المقام الأول بسبب جهودهم لتجويع السكان المدنيين الفلسطينيين في غزة.
وقال روث إن هذه الاتهامات الهامة المقترحة توفر إمكانية اختراق “جدار الإفلات من العقاب” الذي عانى منه ضحايا الانتهاكات الإسرائيلية والفلسطينية منذ فترة طويلة، مضيفا أن خان هو المدعي العام الأكثر خبرة في المحكمة الجنائية الدولية من بين الثلاثة حتى الآن. و”تشير محادثاتي معه منذ بداية ولايته إلى أن أسلوبه في عمله محافظ. ومن غير المرجح أن يلاحق اتهامات دون وجود أدلة دامغة تدعمها، كما وجدت لجنة من الخبراء المستقلين الذين جمعهم. ومن المرجح أن تؤكد الدائرة التمهيدية للمحكمة الاتهامات وتصدر أوامر الاعتقال المطلوبة، وهذا يعني أن المتهم لا يستطيع السفر إلى أي من الدول الأعضاء في المحكمة الجنائية الدولية (124 دولة)، بما في ذلك أوروبا بالكامل، دون مواجهة احتمال الاعتقال”.
من المرجح أن تؤكد الدائرة التمهيدية للمحكمة الجنائية الاتهامات بحق المسؤولين الإسرائيليين وقادة حماس وتصدر أوامر الاعتقال المطلوبة
ويعلق الكاتب أن المطالبة بأدلة قوية كانت على ما يبدو هي السبب وراء بدء خان باستراتيجية التجويع التي تنتهجها إسرائيل، لأن الأدلة كانت متاحة بسهولة أكبر. وقد منعت إسرائيل محققيه من دخول غزة، حيث كان يرغب عادة في التحقيق في القصف الإسرائيلي العشوائي وغير المتناسب. وأوضح خان أن تحقيقه “مستمر”، ويمكن أن يأتي المزيد من التّهم.
وكان رد نتنياهو مليئا بالمراوغة، ووصف الاتهامات المقترحة بأنها “محاولة لحرمان إسرائيل من الحق الأساسي في الدفاع عن النفس”، وهو أمر غير معقول.
المطالبة بأدلة قوية كانت على ما يبدو هي السبب وراء بدء خان باستراتيجية التجويع التي تنتهجها إسرائيل، لأن الأدلة كانت متاحة بسهولة أكبر.
ولا تتعلق الاتهامات المقترحة بما إن كانت إسرائيل قادرة على الدفاع عن نفسها، بل بكيفية الدفاع عنها، أي ليس من خلال ارتكاب جرائم حرب.
وقال نتنياهو إن إسرائيل اتخذت “إجراءات غير مسبوقة… لضمان وصول المساعدات الإنسانية إلى المحتاجين في غزة” – وهو ادعاء كذبته أدلة كثيرة على عرقلة إسرائيل التعسفية للأغذية والأدوية وغيرها من الضروريات للسكان المدنيين في غزة، إلى درجة أن غزة وصلت إلى حد “المجاعة” في أجزاء من القطاع. والواقع أن الحكومة الأمريكية كانت صريحة في انتقاد حكومة نتنياهو بسبب عرقلتها المتعسفة لدخول المساعدات الإنسانية.
وفي التهمة العامة والمشتركة للمدافعين عن إسرائيل، اتهم نتنياهو خان بـ”سكب البنزين بشدة على نيران معاداة السامية التي تستعر في جميع أنحاء العالم”، مدعيا أن “خان يأخذ مكانه بين كبار معادي السامية في العصر الحديث”.
وهذا أمر غريب من زعيم إسرائيلي لم يجد صعوبة في احتضان معاد للسامية ــ رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان ــ عندما يخدمه ذلك. كما أن ذلك يعرض اليهود في مختلف أنحاء العالم للخطر، لأنه إذا نظر الناس إلى تهمة معاداة السامية باعتبارها غطاء رقيقا لجرائم الحرب الإسرائيلية، فإن هذا من شأنه أن يقلل من قيمة هذا المفهوم في وقت حيث يحتاج الأمر إلى دفاع قوي.
واعترافا باستقلال وأهمية المحكمة الجنائية الدولية، أصدرت بعض الحكومات ــ وأبرزها فرنسا وبلجيكا ــ بيانات تؤيدها. لكن آخرين ساروا على خطى نتنياهو.
وفي بيان مقتضب، وصف جو بايدن الاتهامات بأنها “مشينة”، مشيرا إلى أنه “ليس هناك تكافؤ – لا شيء – بين إسرائيل وحماس”. ورغم أن الحكومة الألمانية قالت إنها “تحترم استقلال” المحكمة، إلا أنها رددت تهمة “التكافؤ الزائف”.
لكن خان لم يدّع التكافؤ. لقد اتهم بكل بساطة المسؤولين الإسرائيليين ومسؤولي حماس بارتكاب جرائم حرب منفصلة
تؤكد التهم المزدوجة مبدأ أساسيا في القانون الإنساني الدولي: جرائم الحرب التي يرتكبها أحد الأطراف لا تبرر أبدا جرائم الحرب التي يرتكبها الطرف الآخر
وفي الواقع، ونظرا لخطورة الجرائم، فقد كان من المشين لو تجاهل خان جرائم أحد الطرفين. وتؤكد التهم المزدوجة مبدأ أساسيا في القانون الإنساني الدولي: جرائم الحرب التي يرتكبها أحد الأطراف لا تبرر أبدا جرائم الحرب التي يرتكبها الطرف الآخر.
ومن المفارقات أن حماس ردت على الاتهامات المقترحة بصيغة مختلفة لهذا الموضوع، قائلة إن تصرف خان “يساوي بين الضحية والجلاد”. ولكن بغض النظر عن عدالة قضية المرء، فإنها لا تبرر جرائم الحرب على الإطلاق.
وزعم وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، دون الخوض في التفاصيل، أن المحكمة الجنائية الدولية “ليس لها اختصاص”. ولطالما عارضت الحكومة الأمريكية السلطة الممنوحة للمحكمة بموجب المعاهدة التأسيسية لمحاكمة الجرائم المرتكبة في أراضي الدول الأعضاء من قبل مواطني الدول غير الأعضاء، لكن بايدن تخلى عن هذا الموقف عندما وصف اتهامات المحكمة الجنائية الدولية ضد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لارتكابه جرائم حرب في أوكرانيا، باستخدام نفس الولاية القضائية الإقليمية، بأنه “مبرر”.
والأرجح أن بلينكن كان يشير إلى الحجة التي كررتها الحكومة البريطانية بأن فلسطين لا يمكنها الانضمام إلى المحكمة لأنها ليست دولة. لكن الغرفة التمهيدية للمحكمة الجنائية الدولية رفضت بالفعل هذه الحجة، مستشهدة باعتراف الجمعية العامة للأمم المتحدة بفلسطين باعتبارها “دولة مراقبة غير عضو”. وقد استخدمت فلسطين هذا الوضع للتصديق على مجموعة من معاهدات حقوق الإنسان، والتي ينبغي الترحيب بها باعتبارها بيان التزام، حتى لو كانت الممارسة الفعلية في كثير من الأحيان قاصرة.
وأشار بلينكن إلى أن المحكمة الجنائية الدولية، بموجب مبدأ التكامل، من المفترض أن تذعن لجهود الادعاء الوطنية بحسن نية. لكن الحكومة الإسرائيلية لم توجه قط اتهامات بارتكاب جرائم حرب ضد كبار المسؤولين [الإسرائيليين]. وعلى الرغم من تحذيرات خان المتكررة من أنه يدرس اتهامات تتعلق باستراتيجية التجويع التي تنتهجها إسرائيل، لم تعلن السلطات الإسرائيلية عن إجراء تحقيق. وقال خان إنه سيعيد النظر في اتهاماته المقترحة إذا تغير ذلك.
وأخيرا، قال بلينكن إن طلب المحكمة الجنائية الدولية “يمكن أن يعرض للخطر” الجهود المبذولة للتوصل إلى وقف لإطلاق النار. وبالمثل، قال متحدث باسم ريشي سوناك إن الاتهامات “غير مفيدة”. ولكن هناك تاريخ طويل من اتهامات جرائم الحرب التي تعمل على تسهيل السلام من خلال تهميش المتشددين. هذه، على سبيل المثال، كانت الكيفية التي تم بها إبرام اتفاق دايتون للسلام في صراع البوسنة. وساهمت اتهامات مماثلة في ظهور الديمقراطية في ليبيريا والزوال الفعلي لجيش الرب للمقاومة المتمرد في أوغندا.
هناك تاريخ طويل من اتهامات جرائم الحرب التي تعمل على تسهيل السلام من خلال تهميش المتشددين
إن أي تهميش للمسؤولين الإسرائيليين أو مسؤولي حماس المتطرفين قد يؤدي إلى دفع مفاوضات وقف إطلاق النار المتوقفة بشكل محبط. وفي داخل إسرائيل، التي تسببت سلوكيات مسؤوليها في غزة في جعلها دولة منبوذة على نحو متزايد في أذهان العديد من الناس في مختلف أنحاء العالم، فإن الاتهامات المقترحة من شأنها أن تعمل على تعزيز حركة تغيير الزعامة. وبعيدا عن كونها عائقا أمام وقف إطلاق النار، فإن تصرفات خان يمكن أن تكون حافزا.
ويعلق روث أنه من المخيب للآمال، إن لم يكن من المستغرب، أن يكون الرد الانعكاسي على الاتهامات التي اقترحتها المحكمة في واشنطن ولندن وبرلين هو الدفاع عن إسرائيل على الرغم من جرائم الحرب التي ارتكبتها. لكن سيادة القانون لا تنطبق على الخصوم فقط.
وكما يبدو أن الحكومة الألمانية قد نسيت، فإن الدفاع عن الحكومة الإسرائيلية بغض النظر عما تفعله ليس ردا مناسبا على الهولوكوست، بدلا من التأكيد على معايير حقوق الإنسان بغض النظر عمن ينتهكها. لقد حان الوقت لكي تعيد هذه الحكومات الغربية الرئيسية النظر في مواقفها.
في بعض الأحيان لابد من اتخاذ القرارات الخاطئة لاسباب قاهرة فالسياسيين الغربيين هم رهينة لتوازنات متشابكة في بلدانهم وليس لهم خيرة من امرهم لذا يتخذون مواقف معينة يعرفون انها ستكون خاطئة على المدى البعيد!