لربما تحتاجُ كلُّ مجموعة قصصية بعد أن تُنجزَ، إلى ضرب من الاعتراف، يكشف عن طبيعة السرود التي تآزرت داخلَ هذه المجموعة، وسبقَ أن قدّمتُ اعترافاً في مجموعة «جذامير» وقلت في ذلك الاعتراف، إني من أكثر كُتّاب القصة كسلاً في العالم، لكن هل كان ذلك حقيقياً؟ بدا للوهلة الأولى حقيقياً وصادقاً، وقد يكون سببُ هذا الكسل متعلقاً بمزاجي، فأنا كائنٌ مزاجي جداً في الكتابة، ولا أبالغ إذا قلت: إنَّ كتابةَ نصٍّ قصصيّ قد تستغرقُ عاماً كاملاً، إذن هل كنتُ صادقاً في ذلك الاعتراف؟ لا أخفيكم بقيتُ شهوراً أستعيد ذلك الاعتراف، وقرّرتُ أن أُخضِعَ قصصي الكسولةَ للفحص والتثمين، ويبدو أن كتابة قصّة تكون، كما وشم في ذاكرة القراءة، يحتاجُ الكثيرَ من الاشتغال الفنيّ والمعرفي، إذنْ لا بد للقصّة من وقتٍ، وقتٍ كثير، ومخيلةٍ مُصانةٍ بعناية، والكثيرِ من الصمتِ والعزلةِ والتأمل والتدخين، من هنا لستُ مكترثاً بالكثرة، فأنا فلاحٌ حقيقي، لديّ الخبرةُ وحكمةُ تأمّلِ الأرض، وكتابةُ القصة تشبهُ تماماً عملَ الفلاح في زراعة الأرض، التي تحتاج الحرثَ، والعزقَ، والتشميس، والقصةُ زراعةٌ حولية، ولك أن تتخيلَ، كم تحتاجُ البذرةُ الخبيئةُ في باطنِ الأرض لتنمو.
غالباً ما أتهربُ من حفل توقيع أيِّ كتابٍ قصصيي، لأنّ القصص بعد أن تغادرَ مكمنَها في المخيلة، وتنحدرُ نحوَ الورق وتُكتب، تبدأُ عمليةُ موتها، فبعد أن يُوقَّعَ الكتابُ سيأخذُه قارئٌ ما إلى مكانٍ ما، وسيتاح للكتابِ أن يستعيدَ روحَه الفوّارة بالقراءة، لكنْ وهذا غالباً، وبعد كلِّ قراءة، سيمتصُ هذا القارئُ المجهولُ روح القصص، ثم يتركُها لتواجهَ حياتَها الجديدة المقامةَ على الرفوف، ستُتركُ القصصُ لتكونَ نهباً للنسيان، والغرق، والموت، والغبار، إني لأسمعُ حشرجاتِ الكتبِ في كلِّ ليلة، تنبعثُ من رفوف مكتبتي، وهذا ما يدعوني إلى التفكر والتأمل جدياً بجدوى توقيع الكتب، إنني إذنْ كمن يُسهِمُ في تحنيط روح فوّارة وسخية، ويقومُ بالحجر عليها صحبةَ القارئ.
يقال إن الفيَلةَ هي الكائناتُ الوحيدة التي تشعر باقترابِ أجلها، وحين تستشعرُه، تخرج من القطيع وتغادر وحيدة، وتواصل السير حتى تجد مكاناً تختاره لموتها، لتكونَ وحيدة، ومنعزلة، وصامتة، ولعلَّ القصصّ حين تخرجُ من عالم الممكن المتخيل، وتُكتب كأنها تغادر القطعانَ التي ترعى داخل المخيلة الكتابية، ماضيةً في اتجاه عزلتها ومصيرها المنتظر؛ لتموَت وحيدة ومنفردة، ومن ثم تُصلبُ وتُحنَّطُ داخلَ كتابٍ يُركنُ على الرفوف، لتكونَ قد دخلت موتَها بعيداً عن القطعان التي تواصل حياتها في مخيلة الكتابة، يا له من مصير حزين ينتظر القصص، التي تكتمل دورةُ حياتِها وتغادرُ نحو الموت.
اختار محمد خضير من البصرة، مكاناً يطلُّ منه على العالم، واختار محمود جنداري (الموصل) مكاناً يطلُّ منه على العالم، لكن ماذا عنيّ أنا الذي ولدتُ في طرفٍ قصيّ من هذا العالم، ومن حولي كان الوقتُ حرباً، كيف سأختار مكاناً يكون ركني ومنطلقي نحو هذا العالم، وفي زمن الحرب تنحسر الخيارات، ولا يمكن أن تختار جبلاً ولا نهراً ولا حلماً ولا حياةً تقيم فيها وتطلُّ على العالم، لهذا أجدُني مضطراً للإقامة فوق شاهدة قبرٍ، وهذه الشاهدةُ هي ركني في هذا العالم، أطلُّ منها على الحياة، وحدث أثناء إقامتي أن اكتشفتُ وجودَ ظلال كثيرة رابضة، تقيم فوق شواهد القبور، أمسكتُ بها، وأستطيعُ القولَ إن أغلب تلك الظلال كانت لجنود، وكُتّاب، ورسامين، وفلاسفة، وحيوانات، منهم بورخيس وغويا والتوحيدي وجنداري، وفي الليالي التي تجاورت حياتي مع حياة ظلال هؤلاء، تعلّمتُ من ظلالِهم، حكمةً تقول: ما إنْ تُطلق أولُ رصاصةٍ وتشتعلَ الحرب، لا يعود في إمكاننا أن نعاود العيش، كما في السابق، حتى إن خرجنا من الحرب سالمين، يا لها من حكمة سخيّة، يوفرها العيش على شاهدة قبر، ونحن أبناء الحروب لا نطلب إلا أن نعرف كيف نعاود العيش، كما قبل الحرب، فالعيش ليس مهنة.
يقول أنطونيو تابوكي إن (الأحلام معجزات منهكة) لا أتفق معك أبداً يا صديقي، وسوف أقلب عبارتك بالكامل؛ لتستقيم على الأقل بالنسبة لي (الأحلام معجزات متجددة) ووفق هذا التوصيف، يمكن لي أن أختار من سرديات الأحلام والمنامات، سيرة لمّا تزل طرية لبعض القصص الحُلمية، التي كانت على شكل سرد حُلميّ، فقدَرُ بعض القصص أن تتحوّلَ قبل انكتابِها إلى أحلام تواصل العيش والنوم في رأس الكاتب، ثم يُقيّض لها أن تتحدر من تلك الحياة الحميمية الصامتة، وتخرج إلى حياة عمومية صاخبة، لكن الغريب أن هذه القصص التي تُولد على شكل سرد حلميّ، أنها تتحول إلى حياة جديدة وناصعة ومتجددة، ومع مرور الزمن يزداد سردُ الأحلام نبضاً وشباباً، وبياضاً، وجمالاً، ونصاعة، بينما المخيلة التي أنتجت هذه الأحلام، تشحبُ، وتصفرُ، ويتحطّب مصيرُها سراعاً، يا لها من مسافة هائلة وغريبة، تفصل ما بين الحالم والمحلوم به في القصة.
في مجموعة «لا ظلال لنمور بورخيس» قصص تنتمي لسريّة الأثر الناتج عن الكائنات والأشياء، فالقصة لا تنخرط في الأشياء، إنما في الآثار الناتجة عن الأشياء، ولعل الظلال هي الأثر الناتج عن هذه الأشياء، فلكل شيء ظلٌّ ما يتمظهر حسب الشيء وحركته وانعكاسه، وقد وُلِدتْ فكرةُ الظلال لديّ عبر عبارة وردت في أحد التفاسير المعاصرة للقرآن الكريم، إذ يرى البعض أن الظل كائن مستقل عن الإنسان، له حياة هي أقرب إلى حياة القرين، من هنا ولدت فكرة الظلال التي تعيش ككائنات منفصلة عن مرجعياتها المادية، لها حياتها وتفاصيلها غير الملحقة بالكائن الأصل، وكأن الظل هنا، يتحول إلى قرين ملحق بالكائن، وبناءً على هذا التصور بنيتُ جميع القصص الواردة في المجموعة آنفة الذكر، لكن الغريب أن هذه الظلال، بعد أن غادرت مشغلَ المخيلة متخلّيةً عن حياتها السرية المضاعفة، تحولت إلى وسيط عازل، وفصلت بيني وبين كائناتي الورقية، يا لها من كائنات غبية تعمل بالمقلوب تماماً، فقد زادت من غربة الحياة والعالم، وصارت حائلاً يحول بيني، وبين تلك الحياة الرخية التي اخترتُها لهذه الكائنات، إنها تستدير تماماً وتمنحني ظهرها.
كاتب عراقي
نص ممتع يُعبر بحق عن محنة المبدع الحقيقي، المبدع الذي يرغب بإضافة شيء جديد ومؤثر، لا تسويد صفحات بيضاء فحسب..
كل الشكر والامتنان لكم صديقي،