بداية لا بد أن أعترف بأن الرواية تتحدث عن أمكنة بناسها وحيوانها، تنطلق من مكان يسمى حديقة حيوانات تهيمن فيه الزرافة على مشهد جميع حيواناتها، لتكون محور الأحداث منذ بداية النص وحتى النهاية الدموية لها، على يد الجيش في العاصمة دمشق، أمام مبنى التلفزيون وفي ساحة الأمويين، والجديد هنا في رسم الشخصيات الحيوانية، أنها وعلى خلاف ما كان في الرواية العالمية أو العربية، أو ما جاء في قصص بعض السور القرآنية، التي كانت الحيوانات من شخصياتها الرئيسية، ففي رواية الحي الروسي حيوانات واقعية غير ناطقة، بل السارد ينطق بما يتوقع أو يتخيل، ما يدور في أذهانها من أفكار، واصفا لنا حركاتها وسكناتها ومشاعرها، بدون أن يؤنسنها، كما فعل الروائيون قبله، وكل ذلك يحدث في ثلاثة أمكنة رئيسية هي :الحي الروسي، وحديقة الحيوان، والعاصمة القديمة (دمشق)، ولكن السارد وبحرفنة منه، يجعل هذه الأماكن تتفرع إلى أماكن كثيرة، فيأخذنا إلى الرقة وحلب واللاذقية، كما يحلق بنا بعيدا وخارج حدود سوريا إلى إسبانيا وروسيا والعراق. كل ذلك ينسجه الرز، بنسيج لغوي دقيق مبتعدا عن الحشو والإنشاء والتكلف، يرسم لنا زرافته التي ولدت في خيمة سيرك بعيدا عن البراري والغابات قبل أن يحط بها الرحال في حديقة الحي الروسي للحيوانات، هذه الزرافة الخائفة التي لا تنام إلا دقائق من يومها، ما جعل نونا صديقة السارد، الذي يسكن فوق سطح الحديقة، تقنع صديقها بفكرة شراء تلفزيون 14 بوصة، ووضعه على السطح من أجل أن تشاهد الزرافة وبخطة منها برامج الغابات والحيوانات المفترسة، كالسباع علّها تغادر خوفها القديم المورث عن الآباء والأجداد «لابدّ أن الخوف من السباع قد ولد مع جدتها بوضوح».
في الرواية تتنوع أساليب السرد بتنوع الأمكنة التي تجري فيها أحداثها، سواء القريبة والواقعية، أو البعيدة التي يسترجعها السارد من خلال تداعياته الذهنية، التي أبرزها ما حدث في سينما غرناطة في شارع القوتلي في الرقة، من تداخل المشهد السينمائي مع اللوحة المسرحية، مع واقع لمسناه جميعنا خلال سني الحرب القذرة، وكل ذلك من خلال دخول الكلبة رئيسة بتروفنا إلى صالة السينما، ولحاق المسرحي المتقاعد عبد الجليل حجازي بها، لنشاهد واقعيا جزءا من فيلم حول نهاية نابليون بونابرت العسكرية، ومغادرته الحكم كُرها، ولوحة مسرحية يمثلها عبد الجليل، من خلال تداعياته الذهنية وهو يقف في الصالة وسط المهجرين النائمين على مقاعد صالة السينما.
من اللوحات اللغوية اللافتة في الرواية وصفه لشوارع وحارات دمشق، حين سير المظاهرة الحادة بقيادة الزرافة، المنطلقة من الحي الروسي إلى ساحة الأمويين «عربات فول نابت برائحة الكمون والليمون، على مفارق الشوارع الجانبية الخالية من الناس، وعلى الأرصفة بائعات ربطات خبز…
رواية «الحي الروسي» نص مليء بالرموز الفنية والفكرية والسياسية، التي تحتاج إلى المزيد من التفكيك والتركيب، بعيدا عن الأكاديمية والتحليل السطحي، لذا تحتاج إلى أكثر من قراءة.
وريفيات يفرشن بضاعتهن على الأرصفة من اللبنة والجبنة.. وفي أحيان أخرى، لا يخلو المشهد من مخمور يترنح عائدا من سهرة طويلة، أو بائع كتب مستعملة يفتح كراتين كتبه ويرتبها على سياج عمارة، لكن أحدا من هؤلاء لم يعرنا ما يستحقه من الدهشة، أو الفضول، كائن هائل بحجم زرافة تخترق الشوارع»، وقد رسمه الرز بعين سينمائية خبيرة، ليدلل على أن السواد الأعظم من الشعب، كان لا يكترث بما كان يحدث، الكل مهموم بقوت يومه، وقلة هم من شاركوا في المظاهرات السلمية، ورغم ذلك تم قمعها بدموية، وأمام مبنى التلفزيون الذي قام موظفوه بإزالة الزرافة الضحية من مكان مقتلها، بجانب أقدم ساحة في أقدم عاصمة ومسح كل أثر للجريمة، في إشارة غير مباشرة لمشاركة الإعلام في تغييب الحقائق، ومشاركته في ما يجري من جرائم، ولو عاد القارئ لبداية الرواية لوجد أن الكاتب يدين الإعلام إدانة غير مباشرة، ففي الوقت الذي يحترق فيه الإنسان والحيوان والحجر والشجر، جراء القصف اليومي العنيف للمدن والقرى، يعرض التلفزيون مباريات كرة قدم قديمة و(بالأبيض والأسود) لدوري في سنين غابرة في بلاد أوروبية، وكأن ما يجري لا يعنيه أو هو يحاول عامدا إخفاء ما يجري، ببث هذه المستحاثات الكروية، وتصوير كل ذلك بلغة تلمح ولا تشير، وتشي ولا تبين مما أوحى لبعض من قرأ الرواية أن كاتبها كان محايدا في موقفه من الحرب الدائرة في الوطن، وهناك من ذهب أبعد من ذلك حين اتهم الرز بالسلبية، مما كان يجري في البلاد من قتل وإبادة.. ولست هنا في موقع المدافع عن موقف الكاتب، لأن من يقرأ العمل بعمق سيجد أن الرز كان يدين الطرف الذي أطبق بيوت الناس بالصواريخ والقذائف، فوقهم وحرق الأرض وكل حي فوقها، «لقد أدرك جيدا منذ نشوئه على أطراف العاصمة القديمة، أن بلادنا منذ ثورة آذار المجيدة لم تعد تنظر إلى المتظاهرين، إلا باعتبارهم إرهابيين ممولين من جهات خارجية بالضرورة». وهذا رأي توصيفي من آراء الكاتب بآلية تفكير النظام السياسي ونظرته القديمة المعاصرة لجزء من حرية الجماهير، حيث كل تظاهر هو إرهاب وخيانة، والشاهد على مواقف الكاتب الإيجابية والمنحازة للشعب في الرواية كثيرة ولكنها لم تكن مباشرة أو تقريرية، مقوله أيضا «الخوف يعلم الشجاعة ويحض على المعرفة يضع الخائفين على حافة المجهول والفعل». فهو استطاع أن يرسم لنا بلغته الدقيقة والرمزية والسهلة الممتنعة، وعبر لوحات قصصية ومشاهد مسرحية ومناظر سينمائية واقعية مجتزأة من أفلام عالمية، أو من خلال استحضار جزء من تاريخ الحرب العالمية الثانية، عبر خيال كاتب روسي اكتشف أن روايته تحتاج إلى تعديل، حين شم رائحة شواء بعد قصف المنطقة القريبة من الحي الروسي، واحتراق الأجساد الآدمية، نتيجة هذا القصف، مدللا على فداحة المأساة، بدون خطب أو جعجعة لغوية فارغة، وكل ذلك كان بهدوء لغوي، إن صح التعبير، ولكنه يجعلنا حين نغوص في أعماق النص مزلزلين من الداخل يأخذنا المنظر تلو المنظر، والعبارة تلو العبارة، نحو مشاهد عديدة وطويلة لتشكل في النهاية فيلما سينمائيا، أو قل مسرحية ذات فصول لم تنته بعد، ومأسأة لم توشك على النهاية، وربما ستظل جذوتها مشتعلة أجيالا وأجيالا.
رواية «الحي الروسي» نص مليء بالرموز الفنية والفكرية والسياسية، التي تحتاج إلى المزيد من التفكيك والتركيب، بعيدا عن الأكاديمية والتحليل السطحي، لذا تحتاج إلى أكثر من قراءة.
وهي برأيي رواية أضافت شيئا مهما إلى الفن الروائي، في استخدامها للمسرح والسينما ولرموز الحيوانات بطريقة مغايرة لسابقاتها من الروايات، لذا استحقت أن تفوز بقرائها.
٭ كاتب من سوريا