الحِكَمُ البَاردة

للحكم كغيرها من الأقوال عمرٌ محدود وآجال للعيش الزاهر، لكنها تفقد قيمتها بطول الوقت وبميل الطبع البشري إلى تغيير أبنيته الذهنية وأمزجته. الحكم أقوال قصيرة يستشهد بها الناس في وضعيات معينة، وفي سياقات معلومة ومتشابهة وهي عادة ما تقدم تجربة يطلب من المستمع أن يصادق عليها، لأن البشر اختبروها في مجالات كثيرة من حياتهم وبنوها لتكون أقوالا منبهة، أو مفسرة، أو واعظة، أو لغير ذلك مما لأجلها وضعوا الحكمة. ودلت التجارب البشرية على صدقها. غير أن كثيرا من هذه الحكم التي يجترها الناس إن تأملناها وجدناها غير مفيدة فهي أقوال تجاوزها الزمان، ولا يمكن أن تعبر عن وعي الناس بمضامينها، على الرغم من أنهم يستحضرونها فيقولونها أو تقال لهم.
حديثنا في هذا المقال سيخصص لحكم الحب والعشق، وهي حكم كثيرة تتنوع بتنوع المواقف والمواضيع ومنها مثلا تلك الحكم التي تجعل الهوى شريك العَمى في حكمة عربية تقول (الهوى شريك العمى). فتستعير الثقافات ومنها الثقافة العربية تجربة العشق لتجربة العمى، عَمى البصيرة لاعتقاد شائع لديها بأن من يحب أن يسلم مقاليد عقله لمن يعشقه ويتصرف وكأنه فاقد عقله، فأنت تجده وهو في تجربته عاشقا كفاقد ناظريه غير البصير بالطريق.
من يبني تجربة العشق بواسطة تجربة العمى غالبا ما يكون أجنبيا عن الذات العاشقة العمياء، لكن ذلك لا يمنع من أن نجد في كلام العشاق نسبة لفقدانهم البصر والعقل والإرادة واللب وكل شيء. فالعشق عمى في الحكم أو في الأقوال الجاهزة داخلة في استعارة أكبر منها، هي العشق سلبٌ أو محوٌ لشيء ذي قيمة كالبصر أو اللب هو ضرب من فقدان البوصلة والضياع في كل الاتجاهات.

إن برود الحكمة ممكن لكنه يدل على بصيرة وعقل مراقِب لما يمكن أن يشترك فيه عامة الناس، ويسلموا به تسليما جمعيا، ما يفتأ أن يقل شيئا فشيئا إن حدث في الثقافة المعاصرة قطيعة مع الثقافة القديمة؛ لكن التقارب بين الحديث والحكمة في موضوع من المواضيع يمكن أن يمثل له حصنا حصينا، لأن الحكمة لن تصبح تجربة جماعية بل تجربة دينية جماعية تصادق عليها سلطة لا زمانية.

غير أن هناك فرقا بين الغريب الذي يصف تجربة هوى غيره بالعمى، والذات التي تصفها كذلك. الغريب وهو يصف التجربة كأنما يصفها من خارج دائرة العاطفة الضائعة وداخل دائرة العقل البوصلة، هو واصف يعقلن سلوكا عاطفيا، أو هو واصف يصف ذاتا بمنظار شخص مثالي في الحب: أن يحافظ على إرادته وقراره وعقله، لكن العاشق وهو يصف نفسه أو يصف عديله هو في الحقيقة يصفها من داخل الاستلاب والضياع، وفي الأمر كما ترى اختلاف فبين (أنت في عشقك أعمى، هو في عشقه أعمى) و(أنا في حبك أعمى) اختلاف بين الوصف الخارجي الموضوعي والداخلي المفعم بالذاتي. ينسب إلى الرسول (ص) حديث ضعّفه بعض علماء الحديث لضعف سنده، قريب من سياق الحكم التي تقرن بين الحب والعمى وهو: (حُبكَ الشيْءَ يُعْمِي ويُصِم). يختلف نص الحديث في بناء تجربة الهوى بأدوات العمى (والصمم) معا عن تجربة الحكم والأمثال في الموضوع نفسه، فالاختلاف بين بناء التجارب بواسطة الحكمة وبنائها بواسطة الأحاديث هو فرق لا يدرك في موضوع القول، بل في سلطة القول نفسه وسلطته من سلطة قائله. فالحكمة تدير سلطتها على تسليم جماعة ثقافية بما فيها من قول يرتبط بتجربة واسعة النطاق؛ فهي رسالة مكامن قوتها في أنها متقاسَمة بين جماعة مجربة؛ فكأن قوتها الإقناعية المهيمنة في تجريب الناس لها وتصديق كثير منهم على مضمونها.
تبدو الثقافة التي تروج حكمة من نوع (الهوى شريك العمى) ثقافة مقومة ومصنفة لسلوك الناس، هي ثقافة تسمح لنفسها أن تصدر أقوالا بحجم الحكمة كي تتدخل في الحكم على سلوك غيرها، لكنها لا تحكم عليه مباشرة، بل تحكم على الشعور نفسه وتقصي المحكوم عليه وإن كان هو المقصود بالحكم. إن كان الهوى عمى فمن الأجدر بالمبصر أن يحافظ على نعمة النظر، ومن الأجدر بالعاشق أن يختار بين الحب واللاحب، كما يقول نزار قباني لكي يختار اللاحب حفاظا على عقله.
في ثقافة كان فيها أكبر العشاق والشعراء مجانين (مجنون ليلى) فإن الرجوع عن الحب خطوات من أجل ربح العقل، يبدو أمرا غير متاح فذهاب العقل لا استعادة له والجنون حالة عارضة لكنها أبدية؛ كذلك العمى يمكن أن يكون عارضا، لكنه يظل أبديا. لا عودة من تجربة الجنون ولا عودة من تجربة العمى إلى الإبصار ولا عودة بالتالي من تجربة العشق إلى غير العشق: يمكن أن يزول العشق لكن العاشق لن يستعيد عقله ولا بصره، بل يظل ممعنا في العمى.

الحكمة الباردة هي حكمة لا تقنع جماعة ما بمضمونها ، قد تقنع غيرهم، لكنها تظل باحثة عن الخارجيين، الذين لا يتعاطفون مع قائل الحكمة ويسعون في اتجاه آخر، غير ما يمثله الرأي العام مستعمل الحكمة، أو الوعي المشترك الذي تؤسس له تلك الحكمة. من الممكن لي أنا ألا أستعمل الحكم المذكورة، وأن أقبرها لأني ببساطة لا أرى من اشتراك بين تجربة الهوى وتجربة العمى، ولمَ لا أرى العكس: أن المرء يظل قبل العشق أعمى حتى يدركه الهوى ويدرك من يهوى فهو سيبصر عوالم لم تكن له، ستحمله إليها ساقه العاشقة ووجدانه الحالم وسعيه المثنى إلى أن تكون تثنيته جمعا أقصى. هذه التجربة هي التي نجدها على ألسنه العشاق وعلى ألسنة الشعراء: إنهم يرون في العشق نزعا للبصيرة، بل يرون فيها حدوثا لها. لسنا هنا إزاء مناظرة بين رائيين ينظران إلى الوضعية الواحدة ومن وجهتي نظر: نظر العاقلية في مقابلة التفريط فيها، ونظر المنبهر بتجربة العشق في مقابل الجاهل لكنهها. في رؤية المنبهر المبصر بما لديه، تصير العين مركزا من مراكز العشق وعنصرا حيا من العناصر التي تسبى وترمى، هي التي تسعى إلى السبي وإلى القنص. لكن من الصعب أن يتعامل مع الحديث الشريف، بما هو ضرب مقدس من الحكم على أنه نص بارد، بل ليس من قدره أن يكون كذلك، لأن وهج السلطة الدينية يظل يشع على حكمة الحديث، لذلك صيغ الحديث في شكل مخاطبة هي نوع من التوعية والتذكير والتعليم: يا أيها الإنسان إنك أعمى وأصم، إن أحببت شيئا. وعلى هذا المخاطب أن ينتبه باسم الهداية الدينية والتعليم المبدئي إلى الوقوع في حب يعمي ويصم. لكن هل يمكن أن يقوي الحديث الحكمة؟ أو العكس؟

إن تقاطع الأحاديث في بعض مضامينها مع الحكم لا يعني أن أحدها كان هو المصدر للثاني، فمن الممكن أن تخلق (ولا سيما في الثقافة العربية الإسلامية) حكما من روح الحديث: تلخص الجماعة التي يحكمها الوعي الديني الجمعي مضمون الحديث في قالب حكمة ثم تروجها على أساس أنها حس ديني مشترك أو حس أخلاقي مشترك، لكن الحديث لم يحدثنا عن حب الشخص، بل عن حب الشيء: إن في ذلك ضربا من الشيء الذي لا ينفي إمكان تعميم الشيء على الشخص، فهو ضرب من التعميم الذي يجعل الشخص والشيء موضوعا للعلاقة العشقية المعمية والمصمة نفسها. ومن الممكن أن يكون الحديث مبنيا على الحكمة، فيصبح عندئذ مشرعا لفكرة كان الناس يتعاملون معها على أنها موضوع تجربة متواضع عليها فصارت موضوع مبدأ ديني على الناس أن تتواضع عليه.
إن برود الحكمة ممكن لكنه يدل على بصيرة وعقل مراقِب لما يمكن أن يشترك فيه عامة الناس، ويسلموا به تسليما جمعيا، ما يفتأ أن يقل شيئا فشيئا إن حدث في الثقافة المعاصرة قطيعة مع الثقافة القديمة؛ لكن التقارب بين الحديث والحكمة في موضوع من المواضيع يمكن أن يمثل له حصنا حصينا، لأن الحكمة لن تصبح تجربة جماعية بل تجربة دينية جماعية تصادق عليها سلطة لا زمانية.

أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول أسامة الحباري:

    كما قلتم أستاذي…”إنه الوضع على الوضع”؛ مبدأ لسانيا له توسعاته الثقافية ضمن مجالات فاعليته..اللسانيات و مبادؤهت تخترق كل شيء..

اشترك في قائمتنا البريدية