الرواية قادرة على أن تنتج دلالات متنوعة يمكن تأويلها ثقافيا واجتماعيا بكل حمولاتها النفسية والفكرية في ضوء التلميح السوسيولوجي، باعتباره ذريعة لتشييد «مدينة بعينها» من قبيل الاتجاه الواقعي المتحرر. مقوماته شخوص عميقة تفصح عن عوامل نشأتها بين المكان والزمان وشتى الهوامش التي تقتضيها عُصارة العمل الإبداعي، كمكونات أساسية لإنشاء عوالم متباينة وتلك الحلقة المتشعبة المؤدية للحياة ككل، فيبث فيها الكاتب رؤاه من خلال مضامين معينة، دون إعفاء الخيال، ويستدعي تجربته الماثلة في ذهنه، لنلمس القضايا التي تعالجها والجماليات الحديثة التي تروم إرساءها، لكنها لا تخلو من تمثلات الواقع أو جوانب منه.
في هذا السياق تندرج رواية « البهلوان» للقاص والروائي العراقي أحمد خلف، الصادرة عن دار النخبة للطباعة والنشر والتوزيع 2021، وهي رواية معاصرة في انزياحها عن السرد الكلاسيكي لتتجلى في شكل جديد، حيث أسهمت في نقل تجربة فنية واضحة لتضطلع بدور مهم في مجريات الأعمال الروائية ذات التماثل مع العصر، ومجاراة التطور عن طريق الخطاب السردي الزاخر بالصور والأحداث المتسلسلة وبمنأى عن الكليشيهات الجاهزة.
التمظهرات الاجتماعية عبر الشخوص
للوهلة الأولى يطل علينا بطل الرواية «طه جواد» المقاول العراقي الذي أتقن دور» البهلوان» في عالم المافيات بعد أن كان عاملا بسيطا هاربا من قريته النائية، ومن جرم سرقة «الرغيف» وهو صبي. لم يكن يملك إلا قوته الجسدية، لكن لم يعوزه الطموح، بعد أن أدرك عمق الحيف الذي لحق به، وبالكثيرين أمثاله سواء في قرية يحكمها شيخ العشيرة، وهو الآمر الناهي، أو حين انتقل إلى العاصمة بغداد ليكتشف عالم أسطوات البناء من المقاولين، بعد ترك سوق الألبسة الجاهزة، لقد كان لديه الكثير من الأحلام والأهداف، وأيضا الحجة لنيل نصيب من الثراء باتباع الأسطة «محمود» المعروف بالخداع والمراوغة، والفساد تجاه المال العام وعدم الالتزام بالمواثيق في تنفيد المشاريع الموكولة له، وذلك عن طريق الرشاوى للمسؤولين في الدوائر العامة. إنه ديدن فئة فاسدة وتلك الحيتان الكبيرة التي تبتلع الجميع من أجل الثروة السريعة، من خلال عمليات التحايل والتزوير والإطاحة بكل من يعترض سبيلها، كما هو حال الشيخ «أبي الخير» رجل الدين الذي يصطنع الوقار والهيبة للوصول لمآربه الخاصة.
وهنا يظهر الرابط القوي، ألا وهو الواقع أو الموقع، فأغلب الشخصيات يحيط بها الحقد والكراهية والشذوذ في عالم موبوء تكتنفه العلل والمناخ العفن. ومما زاد من أهمية هذه التمظهرات الجانب النسوي أو «الوجه الأنثوي» والمحرك لنسق الأحداث، انطلاقا من شخصية «أم غايب» التي كانت بمنزلة الوتد رغم الأعاصير التي مرت بها، فهي الزوجة الأولى لبطل الرواية «طه جواد» الذي أهملها مع الوقت وتزوج عليها بسبب عدم الإنجاب، ما خلق فجوة كبيرة بينهما، استغلها السائق الخاص «مراد» ليؤجج الخصام في محاولة منه للفوز بها، فأضحت مستسلمة لشهواته عن طواعية، بعد عقد اتفاقها السري معه، انتقاما من «بطلها المزيف» أو البهلوان اللقب الذي أطلق عليه وراق لها. إنها ردة فعل امرأة تعاني القهر والوحدة فتسعى للانتقام، ليرزح جسدها تحت وطأة الجنس والرغبات المحتدمة نتيجة الهجر والخذلان، ومن ثم تبحث عن الحب المفقود ومطارحة الغرام مع الشاب «خضر» الذي لم يتجاوز العشرين من عمره.
أما «بلقيس» الزوجة الثانية، فكانت نهمة في تطلعاتها نحو حياة الرفاهية والثراء، وبفتنتها وشبابها الطافحين، لامست أحلامها، خصوصا حين أنجبت الوليد المنتظر. إنها نواميس الحياة العصرية المغرية والمرتبكة، بما تزخر به من أرق وقلق وانتقام وعربدة، للتخلص من براثن الكد المضني والإطاحة بكل غريم لتأسيس المجد بالحيلة والتحرر من كل قيد أو مبدأ. لكن «سالم علوان» الصديق القديم لطه جواد انفرد بصوت الحكمة والضمير في معترك الصراع واللعبة التي انقاد إليها رفيقه «البهلوان» رغم تعرضه للظلم والاضطهاد واتهامه بالشيوعية، لكنه ظل ثابتا على مبادئه ومصغيا للعقل ليرزح تحت وطأة الجو النفسي المتأزم والنزعة الظلامية. لقد كان المضمون الاجتماعي بكل تمظهراته الأيديولوجية مسايرا لأفكار الكاتب ورؤاه، وبالتالي أضحت الرواية خطابه المتداخل مع الاتجاه الواقعي، المنتقدة لأشكال شاذة في المجتمع العراقي عبر المبحث الإنساني، باستخدام عدة شخوص نافذين في العمل الأدبي.
الصورة وآليات الخطاب الروائي الحداثي
إن «البهلوان» من صنف العمل الأدبي الذي يتبنى قضايا المجتمع، سواء كانت من إفرازات الواقع، أو كمعطى فكري لا يغفل المضمون الإنساني رغم تباين اتجاهاته وأشكاله. ولا شك في أن لكل رواية طبيعة استثنائية تميزها، لتدور أحداثها بالتزامن مع الصيرورة المجتمعية التي يوجهها الكاتب في قالب سردي مثير وغير مألوف. لكنه لا ينفصل عن البناء الفني كنقطة ارتكاز للعمل، ويبتكر عناصرها الجمالية وفق قوانين جاذبة للمتلقي، مكونة في مجموعها سيناريو جاهزا من خلال طبيعة لغة الخطاب ونفاذها خلف الحوارات والمشاهد، بما تدخره من أحداث وحركة، كمقاطع تصويرية حية تتناسب مع طبيعة المجتمع ونوازعه، لتتحول إلى عالم مرئي. إنها الصورة التي تولدها اللغة في الذهن انطلاقا من تجذرها في الرواية واستثارتها لمكنونات الذات الإنسانية. في هذا السياق تقول الكاتبة والسيناريست جوليا كاميرون: «الصورة الفريدة هي ما يُلح علينا كي يصبح فنا». تبرز الصورة من خلال المتن الذي يصوغ الأحداث كعنصر أساسي وتكويني بما تضيفه من أبعاد متعددة، مثل الصور التعبيرية والسيكولوجية. وبما أن فن الرواية مجال لإثراء الوعي وتنبيهه، فهي تعتمد على الصورة لتغدو حاضرة بقوة في تمثيلها للحياة. فالإنسان كما يقول باشلار «يعيش بالصور».
إنها رواية مهمة استمدت مشروعيتها من خلال التحولات الجذرية التي عرفها المجتمع العراقي في الحقبة الأخيرة. وتجدر الملاحظة أن الكاتب اعتمد أسلوب الراوي العليم وتعدد الأصوات، كما نجح في تطويع طاقته الخلاقة وتجربته العميقة من خلال الخطاب السردي وفاعليته في الإتيان بتحليلات متزامنة مع مستجدات الحياة وتعقيداتها المعاصرة، بالارتكاز على عدة مفاهيم ومشكلات راهنة تزاوج بين الإطار الاجتماعي، والعقلية السائدة، لكن بنفس جديد وقدرة على توظيف الأفكار وربطها بعناصر الحبكة بعيدا عن الاستسهال والتعقيد.
لقد اختار أفق التجديد كمدخل إبداعي مُترع في إمكانات السرد على ابتكار الدوافع والنتائج وتتابعها الزمني، عبر تطوير مختلف العلاقات بكل صراعاتها النفسية التي تكونت في مناخ معين، ومن ثم تطويعها بمختلف الظواهر المراد تسريبها انطلاقا من الحوار والمشهد، في سبيل بحثه عن السياقات الملائمة لانطلاق عمل الفكرة وحركة الأحداث. وهذا ما ينمي الطاقة الحيوية للرواية، أو الدافع السردي لتحقيق غاياتها عبر آليات شتى بغض النظر عن البنية والأسلوب.
لقد بلغ الاشتغال السردي أوجه في حياكة رواية قادرة على التموقع في الذهن، بنزوعها إلى البحث والكشف عن ظواهر اجتماعية تداخل فيها الجانب الفكري والإنساني، وفي تنظيرها للتواصل بين الكاتب والقارئ، من خلال الخطاب اللغوي الحداثي، وإدماج حياة برمتها دون صيغة نمطية، فظهرت ذوات مختلفة تكرس لاستراتيجية النص المحلي وقدرته المتسعة في تشييد عالم مبطن يكشف عن المخبوء داخل منتجات عقلية مهمشة وتسليط الضوء على نواميس الحياة المتغيرة في العراق.
كاتبة تونسية